حين يغنّي الجهل في جنازات السودان: الطوباوية كآلية للهرب من الواقع:

✍️🏽خالد كودي، بوسطن, 23/ 4/ 2025

 

في لحظة تاريخية حرجة يعيش فيها السودان حالة انهيار شامل، حيث تتفكك الدولة المركزية أمام أعين الجميع، وتتحول البلاد إلى فضاء مفتوح للدمار والموت والجريمة، تبرز على السطح خطابات ساذجة تُعيد إنتاج ما هو معلوم بالضرورة، وكأنها تكتشف العجلة في كل مرة تكرر فيها: “الدعم السريع ارتكب جرائم” ، “الدعم السريع يرتكب الجرائم””

إن هذه الجملة – رغم صحتها – لم تعد تقدم أي إضافة تحليلية في حد ذاتها، لأن الوقائع تجاوزتها. نعم، ارتُكبت وترتكب جرائم كبرى على يد قوات الدعم السريع، وعلي يد الجيش السوداني النطامي، علي يد ومليشيات أخرى لاعدد لها، وهذا ما وثقته منظمات حقوقية دولية ومحلية، بل وماوثقته كل هذه القوات مرتكبة الجرائم بنفسها، وهو ما أكدته كل القوى المطالِبة بالعدالة منذ سنوات. لكن الإصرار على تكرار هذا المعطى الوحيد، دون سياق، دون مشروع، ودون تحليل للواقع المركب، يُحول القضية من أداة وعي إلى شعار معوّق للفهم.

إن هذه النزعة التكرارية تمثل ما يسميه بول ريكور في تحليله للذاكرة السياسية بـ”اجترار الجُرح دون وعي بالمسار”، أي تحويل الألم المشروع إلى عائق يمنع التفكير بالمستقبل. وهو ما يشير إليه فرانز فانون أيضًا في حديثه عن النخب التي “تتحصن في الماضي خوفًا من التورط في صناعة الجديد”، فتظل تصرخ على أطلال الدولة، بينما تنهار الدولة بالفعل

تكرار إدانة الدعم السريع دون ربطه بالمنظومة التي أنتجته – من دولة مركزية، وجيش عقائدي، وبنية تهميش ممنهجة – ليس موقفًا سياسيًا، بل تدوير للطوباوية، ونوع من الهروب الممنهج من الأسئلة التأسيسية الكبرى:

– لماذا تكونت هذه المليشيات؟

– ما العلاقة بين المركز والهامش في إنتاج العنف؟

– ما المشروع البديل لإعادة بناء الجيش؟

– هل يقف النظام السياسي القائم أصلًا على بنية تمنع التغيير الجذري؟

هنا تصبح الطوباوية – بمعناها النقدي – نسقًا أيديولوجيًا لا يعترف بالواقع المعقّد، ويُفضل التمسك بأفكار مثالية لم تتحقق، ولن تتحقق ما لم تُواجه جذور الأزمة.

من الدم إلى التأسيس: تاريخ الثورات لا يُروى بماء الورد:

لقد مرت الثورات الكبرى في التاريخ عبر ممرات النار. لم تكن لحظات ملحمية مصقولة في الكتب، بل مراحل دامية، فوضوية، مزدحمة بالإعدامات، والخيانات، والانقسامات، ومشوبة أحيانًا بالجرائم العنصرية، والاغتصابات، والإبادات.

ومع ذلك، استطاعت شعوب عديدة أن تحوّل هذا الحطام إلى قاعدة بناء سياسي وأخلاقي جديد، حين توفرت القيادة الواعية، والرؤية التاريخية، والإرادة الثورية القادرة على قراءة اللحظة لا الهروب منها- وفي هذه اللحظة تهرب النخب في السودان.

– الثورة الفرنسية (1789

دخلت في حمام دم استمر لسنوات. أُعدم الآلاف بالمقصلة، أُحرقت القرى، وقُمعت المعارضة بوحشية في “عهد الإرهاب”. ومع ذلك، خرجت من تحت الرماد جمهورية جديدة قامت على مفاهيم السيادة الشعبية، وفصل السلطات، وحقوق الإنسان

– الثورة الروسية (1917

تحولت إلى حرب أهلية شرسة بين البلاشفة وخصومهم، قُتل فيها الملايين، وارتُكبت فظائع تحت رايات متعددة. لكن البلاشفة قدموا أول مشروع لدولة اشتراكية صناعية، وأعادوا توزيع السلطة والثروة، وأحدثوا تغييرًا جذريًا في بنية الدولة والمجتمع حينها!

: – ثورات أمريكا اللاتينية

– كوبا (1959): حرب عصابات ضد نظام باتيستا، تخللتها اغتيالات وقمع ومطاردات. لكنها أدت إلى قيام دولة اشتراكية قاومت الإمبريالية لعقود، وأعادت صياغة الطبقة السياسية من جذورها.

– نيكاراغوا (1979): ساندينيستا خاضوا حربًا دموية ضد الديكتاتورية، ومارسوا العنف المضاد، لكنهم بنوا نظامًا ثوريًا حاول إعادة توزيع الثروة وتحقيق السيادة الشعبية.

– بوليفيا وفنزويلا: خرجت من أتون الاضطرابات والانقلابات والمؤامرات الدولية، لتصوغ أنظمة تعيد الاعتبار للفلاحين والطبقات المهمشة، رغم ما شابها من إخفاقات….

– جنوب إفريقيا (1994

لم تكن مصالحتها التاريخية ممكنة إلا بعد عقود من حرب غير معلنة، وعمليات انتقام، وجرائم ضد السود. ومع ذلك، استطاع مانديلا، ورؤية العدالة الانتقالية، أن يؤسس دولة قائمة على الاعتراف لا الإنكار، وعلى إعادة توزيع الرمزية السياسية، دون إنكار الذاكرة!

: آسيا

– الصين (1949): الثورة الشيوعية بقيادة ماو تسي تونغ أطاحت بالملكية، وخاضت حروبًا دموية ضد الوطنيين. لكن الحزب الشيوعي فرض رؤية لبناء الدولة الصينية الحديثة، رغم التحديات والمآسي الكبرى….

– فيتنام (1945–1975): تحررت عبر حروب ضد فرنسا وأمريكا، سالت فيها أنهار من الدم في كل الاتجاهات، لكنها أنجزت دولة قوية وموحدة رغم الجراح.

في كل هذه التجارب، لم تكن “النزاهة الأخلاقية المطلقة” شرطًا مسبقًا للثورة، بل كانت النتيجة مشروطة بـتحقيق توازن سياسي وأخلاقي جديد، يفرض قواعد جديدة للعدالة والدولة

أما السودان:…

فهو اليوم في حالة سيولة ثورية حرجة، لا حرب مكتملة ولا سلام، لا دولة ولا لادولة، بل فضاء مفتوح للخراب، وإمكانية هائلة لإعادة التأسيس.

إن من يُصر على أن يتعامل مع هذا الواقع بشعارات ما قبل الحرب – كمن يصرّ على علاج السرطان بحبة مسكن.

يريد البعض أن يصرخ في وجه التاريخ بجملة واحدة:

“الدعم السريع ارتكب جرائم!”

نعم، فعل.

ولكن ماذا بعد؟

من يكتفي بهذا القدر، ولا يقدّم مشروعًا، لا يدافع عن الضحايا بل يستثمر في ذاكرتهم- ولاننسي ان هناك من تكونت ذاكرته مع جرائم الجيش ومليشياته أيضا!.

كتب سلافوي جيجيك: “الاحتجاج دون نظرية ليس إلا انفجار عدمي يُريح الضمير، لكنه لا يغيّر شيئًا”.

ومن يُنكر تعقيد المرحلة، ويخشى الحديث عن التحالفات والتوازنات والصراعات داخل القوى الثورية، إنما يعيد إنتاج الخطاب العاجز نفسه الذي قادنا إلى الهزائم السابقة: الاحتجاج دون مشروع، والإدانة دون بديل.

تحالف “تأسيس”: نحو أفق سياسي بديل:

ما تسعى إليه قوى مثل تحالف “تأسيس” لا يتمثل في تبييض صفحة أي فاعل مسلح أو مدني، بل في طرح مشروع تأسيسي جديد يعيد تعريف شروط الفعل السياسي في السودان من جذوره.

ليس الهدف إعادة توزيع مراكز النفوذ ضمن نفس البنية، بل تفكيكها وإعادة بنائها على أسس مغايرة:

– إعادة تعريف الدولة، لا كمؤسسة فوقية للضبط والقهر، بل كفضاء للمواطنة المتساوية

– تفكيك الأسباب البنيوية لنشوء الجريمة المنظّمة، بما في ذلك المركزية المفرطة، والسيطرة العرقية، وانعدام العدالة التوزيعية.

– الاعتراف بالتعدد الإثني والثقافي لا بوصفه تهديدًا، بل أحد مصادر الشرعية السياسية الجديدة.

– تأسيس جيش وطني جديد لا يتبع جهة أو أيديولوجيا أو جهة سيادية مفترضة، بل يخضع بالكامل لدستور قائم على السيادة الشعبية.

– كتابة دستور جديد يؤمن بالمساواة الكاملة، والعلمانية، والعدالة الجذرية، ويُعالج مظالم الماضي بوصفها جزءًا من بنية النظام، لا أخطاءً استثنائية.

النخب المركزية وعدالة ما بعد الثورة: احتكار السردية… وإعادة إنتاج الامتيازت:

إن من يقاوم هذا المشروع لا يفعل ذلك باسم “العدالة” كما يدّعي، بل باسم امتيازات موروثة من دولة ما بعد الاستقلال، حيث احتكرت النخب المركزية ليس فقط السلطة والثروة، بل سردية “الوطنية” نفسها، واحتكرت معها تعريف الضحية، وتوقيت الاعتراف، ونطاق المساءلة.

في لحظات ما بعد الثورة، تظهر دائمًا ما يمكن تسميته بـ”العدالة الانتقائية”، وهي ممارسة خطابية ومؤسساتية تسعى إلى تسوية سياسية لا تفكك بنية الجريمة، بل تُضفي طابعًا أخلاقيًا على منظومة متعفّنة.

فالنخب التي كانت جزءًا من الأزمة، تعود فجأة لتلعب دور القاضي، وتقرّر من يُحاسب، ومتى، وكيف.

وهكذا، تتحوّل العدالة من أداة للتأسيس إلى أداة للتسويف، ويُعاد إنتاج المركز باسم “العدالة”، ويتم اختزال الضحايا في قوائم مُنتقاة، يتم تصنيفها وفق منطق الولاء والخطاب، لا وفق الحق والحقيقة.

هذا النمط من العدالة الانتقائية لا يحمي أحدًا، بل يضمن بقاء النظام نفسه بصيغته الأخلاقية القديمة.

يُجري “محاكمات رمزية”، لكنه لا يُقرب أي عدالة تاريخية.

يُدين الانتهاكات “المعلنة”، لكنه يصمت عن البُنى العميقة التي أنتجتها.

ولذلك نقول:

من يعارض مشروع التأسيس دون تقديم بديل، لا ينقذ الثورة، بل يُبقيها رهينة سردية مظلومية لا تؤسس لأي تغيير حقيقي.

من أراد أن يكرم الضحايا والشهداء حقًا، فليعمل على ألا تتكرر الجريمة.

ولن يتحقق ذلك إلا بتفكيك النظام الذي صنعها، لا بالبكاء على أنقاضه، ثم التفاوض معه حين يتعب الرأي العام من الحداد.

إن إعادة التأسيس ليست خيانة للثورة، بل هي الثورة نفسها وقد تحررت من الطوباوية ومن خطاب الإنكار.

والذين يرفضون التأسيس، لا يريدون عدالة، بل يريدون عودة انتقائية إلى وضع كانوا يظنونه مثاليًا، لأنه كان يمنحهم الامتياز دون مسؤولية.

ثورة ديسمبر ليست لحظة مقدسة… بل محطة تحوّل يجب إعادة التفكير فيها:

من الخطأ التحليلي، ومن الغباء السياسي، أن يتعامل البعض مع ثورة ديسمبر 2018 بوصفها لحظة نهائية، أو أنها تحمل في ذاتها كل الإجابات، أو أنها قابلة للاستئناف في أي وقت وكأن شيئًا لم يحدث.

الثورات، حين لا تُستكمل بمشروع، تتآكل، وحين لا تتجدد، تتكلّس.

وحين تواجه حربًا، إما أن تتحول إلى لحظة تأسيس، أو إلى ذكرى تُرفع كشعار وتُستثمر في الخطاب، بينما تُنحر في الواقع.

ثورة ديسمبر لم تكن حركة وعي فجائية، بل نتاج تراكم طويل، وصعود اجتماعي للطبقات المهمشة، وتعبير عن رفض صارخ لبنية الدولة المركزية القمعية. لكنها أيضًا، بعد إسقاط رأس النظام، دخلت في مرحلة تآكل داخلي بفعل التحالفات الهشة، والمساومات العبثية، وغياب المشروع المؤسسي، والأهم: عجز غالبية النخب عن إنتاج تصور لما يجب أن يكون عليه السودان بعد الثورة. (وفي هذا حديث طويل سنعود اليه في مقالات قادمة) …

ثم جاءت الحرب لتكشف عورة تلك النخب تمامًا، وتخلط الأوراق بما لا يُبقي موضعًا للأوهام:

السودان الآن لا يعيش “مرحلة انتقالية مؤجلة” هذا هراء، بل السودان يعيش مرحلة سيولة ثورية وانهيار متقاطع ومركب، وهذه السيولة الثورية أعادت طرح كل الأسئلة من جديد:

– من يملك أدوات القوة؟

– من يتحكم في القرار السياسي؟

– من يملك الموارد؟

– من يحظى بشرعية الشارع المنهك؟

– وكيف يمكن بناء دولة بعد أن تكسّرت الدولة القديمة إلى شظايا مليشياوية وجهوية وقبلية وطبقية؟

الثورة، كما كتب فرانز فانون، ليست دعوة إلى العشاء.

وليست شعارًا يمكن نقله من مسيرة إلى منشور.

هي معركة على معنى الدولة، على من يحتكر العنف، وعلى من يُعرّف المواطن.

إن “ثورة ديسمبر” اليوم، لا يمكن إحياؤها بذات الشعارات التي كانت صالحة قبل اندلاع الحرب في أبريل 2023.

لأن الحرب أعادت تعريف الفاعلين، وشكّلت واقعًا سياسيًا جديدًا من خارج البنية التي بدأت بها الثورة:

– الكثير من الثوار الحقيقيون الآن إما مهجّرين، أو لاجئين، أو نازحين،

– بعضهم يحمل السلاح مع احد الاطراف – لا لأنهم خانوا السلمية، بل لأن السلمية لم تعد خيارًا في وجه دولة انهارت، وجيش انقلب، ومليشيات تصارعت على الجغرافيا والذاكرة.

من يواصل التلويح بذات الشعارات، مثل “العسكر للثكنات والجنجويد ينحل”، دون فهم لتبدل موازين القوى، ودون تقديم تصور عملي لبديل سياسي–أمني شامل، إنما يُكرر سردية فاشلة يحاول تمريرها عبر العاطفة للأسف!

لكن السودان – بعد الكارثة – ليس مؤهلًا لاستقبال العواطف، بل الأفكار المؤسِسة.

من يتحدث الآن عن ثورة ديسمبر دون مراجعة، يُسهم في تقديس لحظة انتهت، وتحنيطها كأيقونة خاوية.

ومن يريد استعادتها بذات الآليات، كمن يُحيي جسدًا دون أن يلاحظ أن الروح غادرت منذ زمن.

الواجب ليس التمسك بأطلال ديسمبر، بل تحويلها إلى نقطة بداية لمشروع تأسيسي جديد، يعترف بأن السودان القديم انتهى، وأن ما نعيشه هو لحظة صراع على ما سيكون، لا على ما كان- والحاضر يكلم الغائب!

بيع الوهم فضيلة النخب العاجزة: السودان تغيّر ولن يعود كما كان:

في لحظة شديدة القسوة من التاريخ السوداني، يصرّ البعض على ممارسة أبشع أنواع الخداع والاحتيال السياسي: تسويق الوهم باسم الثورة، وتدوير الأكاذيب باسم النقاء، وتجميل الخراب باسم الاستمرارية.

هؤلاء الذين يرفعون شعارات ما قبل الحرب في زمن ما بعد الانهيار، لا يملكون وعيًا، بل يملكون أرشيفًا من الكلام الجاهز لا علاقة له بالواقع.

من يظن أن ثورة ديسمبر يمكن أن تعود كما كانت، بنفس اللغة، ونفس الشعارات، ونفس الرهانات، هو إما جاهل بالتاريخ، أو محتال سياسي يستثمر في الحنين.

الحقيقة البسيطة التي يهرب منها هؤلاء هي أن السودان الذي عرفوه قد انتهى.

وأن كل البنى التي أنتجت الدولة القديمة – من المركز، إلى الجيش، إلى النخبة، إلى الخطاب الوطني الزائف – قد انهارت، أو أصبحت غير قابلة للإصلاح، فالتاريخ لايعود للوراء ابدا.

الثورة ليست طقسًا مقدسًا: بل عملية إعادة ولادة عنيفة ومضنية:

التاريخ لا يجامل أحدًا.

كل الثورات التي غيّرت مسارات الأمم كانت دموية، فوضوية، وتخللتها أخطاء وجراح، وقد قلنا ان

الثورة الفرنسية سفكت الدماء بالمقاصل، لكنها دشّنت مفهوم السيادة الشعبية.

الثورة الروسية خلّفت آلاف القتلى في الحرب الأهلية، لكنها أعادت تشكيل مفهوم الدولة والعدالة الاجتماعية

رواندا أعادت تعريف معنى الأمة بعد الإبادة الجماعية، لا عبر الإنكار بل بالتأسيس الجذري من نقطة الصفر.

جنوب إفريقيا لم تأتِ بالمصالحة من فراغ، بل بعد عنف بنيوي استمر لأكثر من قرن.

ثورات أمريكا اللاتينية – في كوبا ونيكاراغوا وفنزويلا – لم تكن تمرينات في الأخلاق، بل مواجهات مفتوحة مع أنظمة عميلة وجيوش مدعومة من الخارج.

وفي كل هذه النماذج، كانت اللحظة الدامية هي الممر لا المستقر، وكانت القيادة الواعية هي ما فصل بين الانهيار النهائي والانبعاث الجديد.

السودان الآن في نقطة ما بعد الانهيار: لا تسوية ممكنة، ولا عودة مرتقبة:

السودان اليوم ليس بلدًا مأزومًا، بل بلدٌ سقط.

لا توجد دولة بالمعنى الكامل، ولا جيش موحد، ولا مؤسسات سيادية، ولا حتى إجماع على تعريف العدو والصديق.

الخرطوم ، العاصمة القومية دُمّرت، والمجتمع المدني إمّا هُجّر أو تم تجنيده أو تم ابتلاعه في دوائر الفوضى.

الثوار الحقيقيون في المنافي، أو المخيمات، أو في جبهات لا تشبه ديسمبر.

من بقي يرفع لافتات الثورة كما كانت، يرفعها فوق أنقاض غير مرئية لأنه يرفض أن يرى حجم الكارثة.

هؤلاء ليسوا فقط متأخرين عن الزمن، بل يسهمون في إنتاج كارثة ثانية، عبر إنكار الواقع، وتزييف طبيعة المرحلة، وتقديم أوهام لا أحد يصدّقها إلا هم.

وكما قال هوارد زِن، اعظم مؤرخي التاريخ:

“الخطر الأكبر على الثورات ليس القمع، بل النخب التي توهم الجماهير بأنها تغيّر العالم، بينما تعيد إنتاجه بأقنعة جديدة”

لا خلاص دون مشروع تأسيسي جديد… ولا تأسيس دون مواجهة الحقيقة:

الرهان الآن ليس على استعادة ديسمبر، بل على تحويل ما تبقى منها إلى مدخل لتأسيس جديد.

لا يمكن إنقاذ السودان بشعارات “العسكر للثكنات” بينما الجنرالات يُعيدون تقسيم البلاد بالبندقية.

ولا بجملة “الجنجويد ينحل” بينما ملايين يعيشون في ظل سلطتهم بحكم السلاح والواقع.

من لا يعترف بتغير موازين القوى، لا يمكنه أن يقدم بديلًا، لأنه ببساطة يعيش في ما قبل التاريخ السياسي الراهن.

تحالف “تأسيس” ليس طوق نجاة، بل رافعة تأسيس حقيقي، لأنه:

– يواجه سؤال من يملك السلاح، وكيف نحيد العنف؟

– يعترف بتعدد الهويات، ويعيد تعريف السيادة على أساس المواطنة، لا العرق ولا الدين.

– يطرح العدالة التاريخية لا كـ “تسوية” بل كأفق سياسي.

– يطالب بإعادة بناء الجيش من جديد، لا بتقنين المليشيات أو ترميم المؤسسة العجوز.

وهذا ما يرعب من يعيشون في الماضي: لأن مشروعهم انتهى، ولا مشروع لديهم سوى البكاء على شعارات بلا أفق

وكما كتب سلافوي جيجيك:

.”حين يفشل الناس في التعامل مع الواقع، يبدأون بتشويه من يتعامل معه”

اخيرا: السودان يُصاغ من جديد… لا تنتظروه في محطة الأمس:

من لا يملك شجاعة القول بأن السودان القديم قد مات، لا يحق له أن يتحدث عن مستقبله.

من يهاجم من يطرح مشروعًا، دون أن يطرح هو مشروعًا، لا يُعارض بل يتهرب.

ومن يكرر اسم “الدعم السريع” كما لو كان اختصارًا للشر، بينما يصمت عن جرائم الجيش والدولة، إنما يختبئ خلف فزاعة كي لا يواجه الأسئلة التأسيسية.

تحالف “تأسيس” لا يعِد بجنة، لكنه يفتح الباب نحو سودان آخر.

ومن لا يريد أن يعبر، فليصرخ كما يشاء،

لكن عليه أن يعرف أن من لا يملك مشروعًا، لا يملك سوى الصوت العالي…

أما الذين يصنعون المستقبل، فهم أولئك الذين يكتبونه وسط الحطام، لا على هامش الذكرى.

النضال مستمر والنصر اكيد.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.