
حينما يفقد “عيال المندكورات” امتيازاتهم.. يبدأ الصراخ! مأساة النخب، دكتور عبد الله علي إبراهيم نموذجا: 2-3 السودان الجديد ومأزق النخب التقليدية
✍️🏽 خالد كودي، بوسطن مارس ٢٠٢٥
حينما يفقد “عيال المندكورات” امتيازاتهم.. يبدأ الصراخ!
مأساة النخب، دكتور عبد الله علي إبراهيم نموذجا:
2-3
السودان الجديد ومأزق النخب التقليدية:
في الجزء الأول، استعرضنا نقد عبد الله علي إبراهيم لموقف عبد العزيز الحلو وإصراره على تبني العلمانية الصريحة كشرط أساسي في بناء الدولة السودانية، حيث اعتبر الكاتب أن هذا الطرح كان خصمًا على الثورة، وساهم في إتاحة الفرصة للثورة المضادة والفلول لتقديم أنفسهم كحماة للإسلام. كما ناقش المقال تلاعب النخب السودانية بمصطلحات مثل “الدولة المدنية” لتجنب المواجهة المباشرة مع قضية فصل الدين عن الدولة، وعرّج على الاتفاقيات السابقة، مثل ميثاق باريس (2014) واتفاق جوبا للسلام (2020 التي تناولت العلاقة بين الدين والدولة بصيغ أكثر توافقية.
لكن بعيدًا عن هذه الحجج، يبقى السؤال الأهم: لماذا هذا الذعر من الطرح المباشر لمفهوم العلمانية؟ هل الخوف ينبع من تجربة سياسية حقيقية، أم أنه مجرد تكتيك آخر للحفاظ على الامتيازات التاريخية لنخب الخرطوم؟ السودان الجديد يتشكل بالفعل، ولكن هذه المرة، خارج أيدي النخب التقليدية، وبعيدًا عن وصايتها المعتادة.
. في هذا الجزء الثاني، سنوضح كيف أن التغيير الجاري ليس مجرد إعادة تدوير لخطابات الماضي، بل هو تأسيس حقيقي لدولة المواطنة المتساوية، ولماذا أصبحت نخب المركز في حالة ارتباك غير مسبوقة أمام هذا التحول الجذري
السودان الجديد، حل يأتي من خارج الخرطوم:
لأول مرة في تاريخ السودان، يتشكل الحل خارج قبضة النخب التقليدية وخارج مركزية الخرطوم. الميثاق التأسيسي والدستور الانتقالي لا يعيدان تدوير الماضي، بل يقدمان رؤية واضحة لدولة تقوم على العدالة والمواطنة المتساوية، لا على الامتيازات التاريخية والمحاصصة الفاشلة.
السودانوية تُكرَّس هوية وطنية جامعة، بعيدًا عن مشاريع الاسلمة التعريب القسريين أو الهيمنة الثقافية
فصل الدين عن الدولة يُقر صراحة، لوضع حد لاستغلال الدين كأداة للسيطرة السياسية وإقصاء الآخرين.
الحكم اللامركزي يُعتمد كنظام دائم، يكفل التوزيع العادل للسلطة والثروة، لينهي عقودًا من استغلال الهامش لخدمة المركز.
بناء الجيش الجديد على أسس مهنية ووطنية، لضمان إنهاء حقبة المليشيات والولاءات العقائدية التي حوّلت القوات المسلحة إلى أدوات لقمع الشعب.
في مقاله، يعيد عبد الله علي إبراهيم إنتاج نفس الحجج البالية عن “الفلول” و”المزايدات حول العلمانية”، متجاهلًا أن ما يحدث الان ليس مجرد جدل نظري، بل إعادة تأسيس جذرية للسودان، خارج دوائر النخب التي فشلت في إدارته لعقود. اللافت أن هجومه على الحركة الشعبية وتحالفاتها لا يبدو نابعًا من نقد موضوعي، بل من خوف غريزي من واقع جديد لم يعد يحتمل وصاية المركز، وهي الحالة التي تنتاب الحرس القديم في هذا الوقت!
المفارقة الكبرى: رفض العلمانية من باب الغطرسة لا القناعة:
يحاول عبد الله علي إبراهيم التشكيك في تبني تحالف التاسيس لمبدأ العلمانية، مستخدمًا مقارنة سطحية بين الدستورين الفرنسي والأمريكي، دون أن يكلف نفسه عناء النظر إلى السياق التاريخي والسياسي الذي أدى إلى تبني كل من هذين الدستورين لمبدأ فصل الدين عن الدولة، لكنه، وبطريقة بهلوانية، انتقائية واحتيالية للبكاء علي (الثوابت)، يتجاهل حقيقة أن السودان ليس فرنسا ولا الولايات المتحدة، وأن وضعه الفريد يفرض حسم العلاقة بين الدين والدولة بشكل واضح وصريح، وليس الاكتفاء بصيغ غامضة مثل “الدولة المدنية” التي ثبتت هشاشتها عند أول اختبار سياسي.
الدستور الفرنسي: قطيعة واضحة بين الدولة والدين:
يُعد الدستور الفرنسي نموذجًا صريحًا للعلمانية، حيث ورد فيه بوضوح أن فرنسا “جمهورية غير قابلة للتجزئة، علمانية، ديمقراطية، واجتماعية. (المادة الأولى من الدستور). هذه الصياغة لم تأتِ من فراغ، بل جاءت نتيجة لصراع طويل بين الكنيسة والدولة، امتد لعدة قرون، بلغ ذروته خلال الثورة الفرنسية (1789
حينما قررت الدولة أن تقطع تمامًا مع الإرث الكنسي الذي كان متحكمًا في الحكم والتعليم والقضاء كانت الكنيسة الكاثوليكية في فرنسا قوة سياسية واقتصادية عظمى، احتكرت النفوذ، وفرضت سلطتها على جميع مناحي الحياة، واعتبرت نفسها الوصية على الأمة، استخدمت الدين كأداة لقمع الحريات، ومنحت امتيازات ضخمة لرجل الدين، فيما عانى العامة من الفقر والتهميش، أدى ذلك ثورة شعبية، أسقطت النظام الملكي المدعوم من الكنيسة، ووضعت أسس دولة حديثة، تقوم على مبدأ المواطنة المتساوية، لا على الانتماء الديني.
الدستور الأمريكي: حماية التعددية الدينية من تدخل الحكومة:
على العكس من فرنسا، لم تكن الولايات المتحدة تعاني من هيمنة دينية رسمية عند تأسيسها، بل كانت مشكلتها الأساسية هي ضمان حرية المعتقد لجميع المواطنين دون تدخل الدولة في فرض دين معين أو دعمه. جاء التعديل الأول للدستور الأمريكي 1791 ، ليمنع الكونغرس من إصدار أي قانون يتعلق بفرض دين رسمي أو تقييد حرية ممارسة الأديان. لم تكن هناك حاجة لنص دستوري يعلن الولايات المتحدة “دولة علمانية”، لأن العلمانية كانت ضمنية في البنية السياسية للدولة، حيث قامت أساسًا على مبدأ الحرية الدينية والتعددية. في المقابل، لم يكن للدين دور مركزي في تشكيل النظام السياسي كما كان الحال في فرنسا أو السودان، وبالتالي لم تكن هناك حاجة لمعركة واضحة لفصل الدين عن الدولة
لماذا هذه المقارنات غير ملائمة للسودان؟
ما يتجاهله عبد الله علي إبراهيم هو أن السودان لم يكن في أي يوم من الأيام دولة محايدة دينيًا، بل تم توظيف الدين كأداة قمع، وأداة سيطرة سياسية، وأداة تمييز ممنهجة ضد قطاعات واسعة من الشعب. منذ الاستقلال، تم فرض الشريعة الإسلامية في دولة متعددة الأديان، كأداة لتمكين نخب معينة على حساب الآخرين.
تم استغلال الدين لتبرير الحروب في الجنوب، ودارفور، وجبال النوبة، والنيل الأزرق، وتصوير الحركات التحررية على أنها “حركات كفرية”، فقط لأنها رفضت الهيمنة العقائدية التي فرضتها الحكومات المركزية.
حتى في فترات الحكم المدني، لم تتوقف الدولة عن تقديم امتيازات خاصة لرجال الدين، واستخدام الدين في صياغة القوانين والتشريعات التي همشت غير المسلمين، بل وحتى المسلمين الذين لا يتبعون تفسير النخبة الدينية المهيمنة.
السؤال الجوهري: لماذا يجب أن تُفرض الشريعة الإسلامية على شعب متنوع؟
إذا كان السودان دولة متعددة الأديان والأعراق، فلماذا تصر النخب المركزية على فرض الشريعة الإسلامية كإطار قانوني وحيد؟ هل هذا من باب التقوى والإيمان، أم من باب الإبقاء على الامتيازات التاريخية لنخب محددة باسم الدين؟
لماذا لا يُسمح لأي سوداني أن يختار معتقده بحرية دون تدخل الدولة؟
لماذا تُعتبر أي دعوة للعلمانية تهديدًا، في حين أنها مجرد دعوة للمساواة بين جميع السودانيين أمام القانون؟
لماذا ترفض نخب المسلمين العلمانية، رغم أنها لا تمنعهم من ممارسة الإسلام كما يشاءون؟
الغطرسة التاريخية: هل السودان ملكٌ للنخبة المركزية فقط؟
إن رفض النخب من المسلمين للعلمانية لا ينبع من قناعة فكرية أو دينية، بل من غطرسة تاريخية، تجعلها ترى أن السودان مُلكٌ لها وحدها، وأنه لا يحق لأي طرف آخر أن يحدد مستقبله دون إذنها. هذه النظرة المتعالية ليست جديدة، فقد كانت هي المحرك الأساسي لكل الحروب والانقسامات التي عصفت بالسودان لعقود.
نفس هذه النخب استهزأت بدعوات الفيدرالية في الخمسينيات، باعتبارها “مؤامرة انفصالية”، لكنها اليوم تحاول تبنيها عندما وجدت نفسها مهددة بفقدان السلطة المركزية، و نفس هذه النخب رفضت الاعتراف بالثقافات واللغات غير العربية في السودان، لكنها اليوم تتحدث عن “التنوع الثقافي” فقط عندما أصبحت معزولة سياسيًا. نفس هذه النخب دعمت الأنظمة العسكرية والاستبدادية، لكنها اليوم تتحدث عن الديمقراطية فقط عندما أصبحت خارج السلطة.
الوثيقة التأسيسية والدستور الانتقالي: ما فشلت فيه النخب تحقق الآن!
ما يقلق عبد الله علي إبراهيم وأمثاله ليس فقط تبني الحركة الشعبية لمفهوم الدولة العلمانية الديمقراطية، بل أن هذه الرؤية تحوّلت لأول مرة من مجرد طرح نظري إلى وثيقة دستورية ملزمة تبنتها كيانات اخري في السودان، تتجاوز كل ما فشلت النخب التقليدية في تحقيقه لعقود. لم يعد الأمر خاضعًا لمساومات النخب الفاشلة، بل صار أساسًا قانونيًا يؤسس لسودان جديد قائم على العدل والمواطنة المتساوية.
.
ثلاثة اختراقات تاريخية فرضها الميثاق التأسيسي والدستور الانتقالي:
• حسم مسألة الهوية السودانية نهائيًا:
لأول مرة في تاريخ السودان، تم الاعتراف بالسودانية كهوية وطنية جامعة، بعيدًا عن محاولات تعريب وأسلمة الدولة قسرًا، التي كانت حجر العثرة الأول أمام وحدة السودان منذ الاستقلال. انتهى عصر فرض هوية واحدة على مجتمع متعدد الأعراق والثقافات.
• فصل الدين عن الدولة بات نصًا دستوريًا صريحًا:
لا مجال بعد اليوم للمراوغة والمساومات الفارغة بمصطلحات مثل “الدولة المدنية ذات المرجعية الإسلامية”. السودان الجديد دولة علمانية واضحة، لا وصاية فيها لطائفة على أخرى باسم الدين، ولا مجال لاستغلال الدين كأداة للتمييز أو القمع السياسي.
• نهاية الدولة المركزية الاستعمارية:
لأول مرة، تُلغى مركزية الخرطوم كقاعدة للحكم المطلق، ويُعتمد نظام لا مركزي حقيقي يعيد توزيع السلطة والثروة بعدالة. لم يعد السودان دولة تخدم قلة في المركز على حساب الأغلبية في الأقاليم. انتهى عهد الامتيازات التاريخية لنخب الخرطوم التي احتكرت السلطة لعقود مرة واحدة وللابد.
الواقع الجديد: السودان الجديد لا ينتظر إجازة منكم.
عبد الله علي إبراهيم وأمثاله يمكنهم مواصلة الإنكار والترويج لوهم أن السودان ليس بحاجة إلى علمانية واضحة، لكن الأخبار السيئة لهم هي: السودان الجديد لا ينتظر موافقتهم، ولن يُدار وفقًا لشروطهم القديمة. انتهى عهد النخب التي كانت ترى في السودان إقطاعية سياسية موروثة، تُقرر من يحكم ومن يُحكم، ومن يستحق الحقوق ومن عليه البقاء على الهامش.
السودان الجديد: لا وقت للمراوغات واللعب بالألفاظ
لم تعد هناك مساحة للمساومات العقيمة، أو للفلسفة المضللة حول “الخصوصية السودانية” أو “الدولة المدنية ذات المرجعية الإسلامية”. لقد قضي الأمر! المواطنة المتساوية هي أساس الدولة الجديدة، ولا مستقبل لمن لا يقبل بها. الخيار الوحيد الآن هو بناء سودان لجميع مواطنيه، بلا تمييز، بلا امتيازات، بلا وصاية!الخيار الآن: إما التحالف مع البرهان والإسلاميين أو الانحياز للمستقبل.
نواصل في الجزء الثالث:
مقال دكتور عبد الله علي إبراهيم هنا:
https://sudaneseonline.com/board/505/msg/1741171560.html
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.