حينما يفقد “عيال المندكورات” امتيازاتهم.. يبدأ الصراخ! مأساة النخب، دكتور عبد الله علي إبراهيم نموذجا: 1-3

خالد كودي، بوسطن

 

هذا رد علي مقال الدكتور عبد الله علي إبراهيم بعنوان:

“الحلو: ألقيت باللؤلؤ أمام الخنازير” للدكتور عبد الله علي إبراهيم (5 مارس 2024 وقد تم نشره في سودانيزانلاين.

ينتقد عبد الله علي إبراهيم موقف الرفيق عبد العزيز الحلو وتمسكه بمطلب العلمانية الصريحة كشرط أساسي لتأسيس الدولة السودانية، معتبرًا أن الإصرار على هذا المصطلح كان خصمًا على الثورة، وأدى إلى استغلاله من قبل الثورة المضادة والفلول لتقديم أنفسهم كحماة للإسلام، رغم سجلهم السيئ في الحكم.

يرى الكاتب أن العلمانية ليست جزءًا أصيلًا من الخطاب الدستوري السوداني، وأنها غائبة عن النقاش السياسي منذ الستينيات، حيث فضّل اليسار وغيره من القوى السياسية تجنب المصطلح لصالح تعبيرات أكثر استساغة مثل “الدولة المدنية”، خوفًا من تبعاته السلبية في الوعي العام. ويشير إلى أن الحركة الشعبية، بإعادتها إحياء مطلب العلمانية، قدمت فرصة ذهبية للثورة المضادة لتشويه مشروعها.

كما ينتقد الكاتب موقف الحركة الشعبية من العلاقة بين الدين والدولة، مشيرًا إلى أن ميثاق باريس 2014 كان أكثر مرونة حين أبقى الباب مفتوحًا لمواصلة الحوار حول المسألة، على عكس تمسك الحلو بالعلمانية كشرط غير قابل للنقاش. ويضيف أن اتفاق جوبا للسلام قد حسم بالفعل مسألة فصل الدين عن الدولة دون الحاجة إلى استخدام مصطلح “العلمانية”، متسائلًا عن جدوى إعادة تدوير النقاش حول مفهوم بات سياسيًا غير مثمر.

يستند الكاتب إلى مقارنات مع الدساتير الغربية، حيث يشير إلى أن الدستور الأمريكي لم يذكر العلمانية صراحة، بل اكتفى بضمان حرية الأديان ومنع تدخل الدولة فيها، بينما لم يُدرج الدستور الفرنسي المصطلح إلا في عام 1958 رغم أن الثورة الفرنسية قامت على فصل الدين عن الدولة منذ 1789. ومن هنا، يتساءل عن إصرار الحركة الشعبية على النص الصريح للعلمانية، بينما كان يمكن الوصول إلى نفس النتيجة من خلال صياغات أخرى أكثر قبولًا في السياق السوداني.

في هذا المقال، سنعلق على ما ورد في أطروحات الدكتور عبد الله علي إبراهيم ونبين ارتباكها.

لقد حاول الكاتب تقديم موقفه وكأنه قراءة سياسية واقعية، إلا أن طرحه يحمل في طياته تحيزًا واضحًا لصالح النخب التقليدية التي لطالما استخدمت المراوغة اللغوية والاحتيال المفاهيمي لتعطيل أي تغيير جذري في بنية الدولة. في هذا الرد القادم، سنتناول مقاله، ونوضح كيف أن موقف الحلو ليس مجرد “إلقاء للؤلؤ أمام الخنازير”، بل محاولة حقيقية لإعادة تأسيس السودان على أسس عادلة وديمقراطية، بعيدًا عن انتهازية النخب التي دمرت البلاد لعقود، والدليل هو وضع السودان اليوم.

يبدو أن النخبة المركزية في السودان تعيش حالة من الصدمة والارتباك، فالسودان يعاد تأسيسه من جديد، ولكن هذه المرة دون الحاجة إلى استشارتها أو منحها دورًا في إعادة هندسة المشهد السياسي، كما اعتادت طوال العقود الماضية. لأول مرة، لم يعد الحل حكرًا على تلك النخب التي استأثرت بالقرار لعقود، بل جاء من الهامش، من القوى التي دفعت الثمن فعلًا، وليس من أولئك الذين ظلوا يمارسون دور “الوصي” على السودان منذ الاستقلال.

ها هو عبد العزيز الحلو والحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال، إلى جانب حلفائهم من قوى الهامش، يضعون خارطة طريق واضحة لتأسيس سودان جديد يقوم على المواطنة المتساوية، العلمانية، الديمقراطية، اللامركزية، والحكم المدني، فيجد عبد الله علي إبراهيم نفسه مضطرًا للدفاع عن بقايا النظام القديم، مستخدمًا نفس الحجج البالية التي سقطت مرارًا، دون أن يتعلم وغيره منها شيئًا.

ما تستعصي على النخبة المركزية فهمه، هو أن الحلول لم تعد حكرًا عليها، وأن هذه المرة، التغيير لن يكون مجرد إعادة تدوير لأفكارهم الفاشلة التي لم تنتج سوى الحروب، الفساد، والانهيار المتكرر للدولة. فالنموذج القديم، الذي ظلوا يجربونه منذ سبعة عقود دون أي نجاح، لم يعد صالحًا، والسودان الذي عرفوه – كساحة لامتيازاتهم التاريخية – يتغير دون انتظارهم أو إذنهم.

السودان الجديد لا ينتظر مباركة النخب القديمة: عهد الوصاية قد انتهى:

ليس غريبًا أن يخرج علينا عبد الله علي إبراهيم غاضبًا، متسائلًا: كيف تجرؤ هذه القوى المهمشة تاريخيًا على رسم مستقبل السودان دون العودة إلى “أهل الحظوة”؟ وكيف تطرح رؤية لدولة حديثة متجاوزة لثوابتهم دون استشارة أولئك الذين أنتجوا الثوابت/ الأزمة منذ الاستقلال؟ المفارقة التي يتجاهلها عبد الله علي إبراهيم أن هذه النخب، التي ينتمي إليها، لم تقدم للسودان سوى الفشل المتكرر، والسودان الجديد لم يعد بحاجة إلى موافقتهم، ولا يعترف بسلطتهم الأخلاقية، ولا ينتظر مباركتهم، لأن عهد الوصاية قد انتهى.

حينما يأتي الحل من خارج الخرطوم.. النخب ترتبك!

مجرد فكرة أن الحل السياسي يمكن أن يأتي من خارج الخرطوم تصيب النخب التقليدية بحالة من الارتباك العميق، لأنها لم تعتد يومًا أن يكون لغيرها رأي في مصير السودان. فمنذ الاستقلال، ظلت البلاد رهينة لنفس الطبقة السياسية، التي انتقلت بسلاسة بين الحكم والمعارضة، مجربةً كل الأيديولوجيات الممكنة وغير الممكنة، لكنها لم تُنتج يومًا مشروعًا وطنيًا جامعًا يضع السودان على مسار الاستقرار والتنمية.

التجربة التاريخية: فشل متكرر تحت إدارة نخب المركز:

١/ الطائفية: حكم الأقلية على حساب الأغلبية

بعد خروج الاستعمار البريطاني، لم يشهد السودان انتقالًا حقيقيًا إلى دولة وطنية حديثة، بل انتقلت السلطة إلى زعماء الطوائف الدينية الذين احتكروا القرار السياسي باسم الشرعية التاريخية. سيطرت الأحزاب الطائفية الكبرى، الأمة بزعامة آل المهدي، والاتحادي بزعامة آل الميرغني، على السلطة، لكن بدلًا من بناء دولة تستوعب الجميع، أدارت البلاد كإقطاعية سياسية واقتصادية لصالح نخبة محدودة.

تم تجاهل قضايا الهامش بشكل كامل، مما أدى إلى استمرار الحروب، مثل الصراع في جنوب السودان، الذي كان نتاجًا مباشرًا لغياب رؤية وطنية شاملة.

تم استخدام الجيش كأداة لحماية الامتيازات السياسية، حيث ظلت النخب الطائفية تستدعيه عند الضرورة لحماية مصالحها، مما أدى إلى عسكرة السياسة السودانية.

لم يكن هناك أي توجه نحو عدالة اجتماعية أو تنمية متوازنة، حيث استمر السودان في العمل بنموذج اقتصادي يتركّز في الخرطوم والوسط، بينما تظل الأقاليم الأخرى محرومة من الخدمات الأساسية.

: ٢/ الحكم العسكري: القمع بديلاً عن الحلول السياسية

لم يكن مفاجئًا أن يكون أول انقلاب عسكري في السودان بقيادة الفريق إبراهيم عبود عام 1958، إذ كان نتيجة مباشرة لعجز النخب الطائفية عن إدارة الدولة. لكن عبود لم يقدّم بديلًا، بل انتهج سياسة قمعية، خاصة في جنوب السودان، حيث حاول فرض التعريب والأسلمة بالقوة، مما أجّج الصراع المسلح وأدى إلى اندلاع الحرب الأهلية الأولى (1955-1972

انتهى عهد عبود بثورة شعبية في 1964، لكنها لم تحقق تغييرًا جوهريًا، إذ عادت الأحزاب الطائفية مجددًا إلى الحكم، لتكرار نفس الأخطاء

ثم جاء انقلاب جعفر نميري في 1969، والذي بدأ بشعارات اشتراكية، لكنه انتهى إلى ديكتاتورية مطلقة، حيث أطلق العنان للقمع السياسي، وفرض قوانين سبتمبر 1983، التي كانت بداية مشروع “الإسلام السياسي”

: ٣/ ديمقراطية الصادق المهدي (1986-1989): فشل مدني في إدارة الدولة

رغم سقوط نظام نميري بثورة شعبية في 1985، فإن الحكومة المنتخبة بقيادة الصادق المهدي لم تنجح في تقديم أي حلول للأزمات السياسية والاقتصادية المستمرة. بل بدلاً من تحقيق السلام وإرساء حكم مدني مستقر، كرّست الديمقراطية الثالثة الفشل، وفتحت الباب أمام انقلاب الإسلاميين في 1989

في عهد الصادق المهدي، تمت عسكرة السياسة بصورة غير مسبوقة، حيث سُمح بإنشاء مليشيات تحت مسمى “المراحيل”، والتي كانت أولى إرهاصات قوات الدعم السريع لاحقًا. فشلت الحكومة في تحقيق أي تقدم في ملف السلام مع الحركة الشعبية لتحرير السودان، مما أدى إلى استمرار الحرب الأهلية وتفاقمها. عجزت الدولة عن مواجهة الأزمات الاقتصادية، فازدادت معدلات التضخم، وتراجعت الخدمات العامة، مما دفع الشعب السوداني إلى فقدان الثقة في الحكومة. هذا الفشل الشامل جعل انقلاب الإنقاذ بقيادة حسن الترابي وعمر البشير في 1989 أمرًا ممكنًا، حيث استغلت الجبهة الإسلامية القومية ضعف الحكومة المدنية، وقدمت نفسها كبديل، لكن النتيجة كانت أكثر كارثية من كل ما سبق.

: ٤/ الإسلام السياسي: كارثة السودان الكبرى

جاء انقلاب الإنقاذ في 1989 ليأخذ السودان إلى أقصى درجات الفشل السياسي والاقتصادي والاجتماعي. فقد اعتمدت الجبهة الإسلامية على سياسات التمكين، وإقصاء كل القوى السياسية الأخرى، وتفكيك مؤسسات الدولة لصالح عناصرها، مما أدى إلى انهيار البلاد بالكامل.

تم تدمير الاقتصاد السوداني عبر الفساد والمحسوبية، حيث استُخدمت موارد الدولة لصالح قلة قليلة من الإسلاميين.

تحوّل الجيش إلى أداة عقائدية، وتم إنشاء مليشيات موازية، مثل الدفاع الشعبي، الكتائب الاسلامية وقوات الجنجويد/ الدعم السريع، التي ارتكبت جرائم إبادة جماعية في دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق.

أدى القمع السياسي والدموية إلى تصاعد الحروب، مما قاد في النهاية إلى انفصال جنوب السودان عام 2011

ورغم سقوط نظام البشير في 2019، إلا أن النخب التقليدية لم تستخلص الدروس، بل عادت إلى إعادة إنتاج نفسها عبر شعار “الدولة المدنية”.

: ٥/ حكومة الثورة بقيادة عبد الله حمدوك: خيبة أمل أخرى

بعد سقوط نظام البشير، كانت هناك فرصة تاريخية لبناء دولة جديدة تقوم على العدالة والمواطنة المتساوية، لكن بدلاً من ذلك، استحوذت النخب التقليدية على الحكم، وأقصت القوى التي قادت الثورة، خاصة قوى الهامش

رغم أن الثورة بدأت من الدمازين، وكانت قيادات الهامش في الصفوف الأولى، إلا أن الحكومة الانتقالية تشكّلت بنفس العقلية القديمة، حيث تم توزيع السلطة بين النخب الخرطومية، دون تغيير ذات معني. لم تتخذ حكومة حمدوك أي خطوات ملموسة تجاه إعادة هيكلة الجيش، أو تحقيق العدالة الانتقالية، أو إنهاء التهميش الاقتصادي. كان تعامل الحكومة مع ملف السلام مراوغًا، حيث تم توقيع اتفاقات شكلية دون تنفيذ حقيقي، مما أدى إلى استمرار حالة عدم الاستقرار. وفي النهاية، انهارت الحكومة أمام انقلاب البرهان في 2021، لأنها ببساطة لم تقدم أي حلول حقيقية، بل اكتفت بإعادة تدوير نفس السياسات التي فشلت لعقود.

يتواصل المقال في الجزء الثاني:

 

 

 

 

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.