حول مسودَّة الإتفاق الإطاري بين الحكومة الإنتقالية والحركة الشعبية لتحرير السُّودان – شمال.

عادل شالوكا

 

نتابع الجدل المُثار في السوشيال ميديا حول (مسودَّة الإتفاق الإطاري لإيقاف الحرب وتحقيق السلام) التي قدَّمتها الحركة الشعبية لتحرير السُّودان – شمال للحكومة الإنتقالية عبر الوساطة وتم تسريبها عن قصد للتشويش وتشويه مواقف الحركة الشعبية. ونحن لا نضع ما نتفاوض حوله في خانة (الأسرار) لأن مواقفنا واضحة ومُعلنة للجميع ولا نخفيها عن جماهير الشعب السُّوداني لولا مقتضيات التفاوض التى تتطلب السرية فى بعض مراحله . فالسلام له ثمن وإستحقاقات يجب أن تُدفع، دون ذلك لن يتحقَّق السلام الشامل والعادل والدائم الذي نسعى إليه. ولكن ما حدث (تسريب الوثيقة) هو سلوك غير حميد وغير أخلاقي، ولكننا لن نتضرَّر منه لأن السُّودانيين يجب أن يعلموا جميعاً و يعرفوا مواقف الحركة الشعبية وما تتفاوض حوله، ولهم الحرية بعد ذلك في إختيار دولة موحَّدة مُستقِرة تحترم حقوق الجميع، أو أي خيارات أخرى محتملة وهي غير مُستعصية بالطبع، ولكم العِبرة (لعلكم تتَّعِظون).
و لعلم الجميع ، فإن هذه الوثيقة (الإتفاق الإطاري) غير الموقَّع عليها والتي تم تسريبها لا زالت مسودة مطروحة على منضدة التفاوض والحوار بين الطرفين وهي ليست الوثيقة النهائية. ما سنتفق عليه مع الحكومة الإنتقالية حول هذه القضايا محل التفاوض سيتم نشره لاحقاً بعد التوقيع عليه و تحوله لوثيقة نهائية.

تابعنا كذلك كتابات المهووسين العنصريين وتُجَّار الدين أو (النازيين الجُدد) الذين يحاولون أثارة الشعب السُّوداني حول العديد من القضايا، ولأنهم يعرفون أن البعض بسليقتهم (الإنطباعية) لا ينظرون إلى الجوهر أكثر من تركيزهم الدائم على (القشور) و على ما يفرق الشعوب السُّودانية و ما يقسم وجدانها. علما بأن كل اطروحاتهم ما هى إلا مادة للإستهلاك (العاطفي) ودغدغة مشاعر الكراهية لدى الناس. ولذلك أطلَّ الهوس الدِّيني برأسه من جديد دون تروِّي أو إستفسار لفهم الدوافع التي حدت بالحركة الشعبية لتقديم مُقترح بتحويل العطلة الاسبوعية إلى يوم الأربعاء بدلاً عن الجمعة أو الأحد أو الثلاثاء في بلد لا يميِّزه شيء عن سائر دول العالم سوى التنوُّع والتعدُّد الديني والعرقي والثقافي والجهوي. إن إنكار هذا التعدُّد بواسطة تلك النُخب والفئات المهووسة، هو ما أقعد السُّودان، وهدَّ من قواه وعطَّل طاقاته ليتحوَّل إلى دولة فاشلة ومتسوِّلة تستجدي الآخرين رغيف العيش وهي (بنت النيل) . لا خضوع للإرهاب الفكري بعد اليوم، ولا إستكانة للقوى الظلامية الرجعية وقوى التجهيل والتخلُّف. نحن نسعَى لتحرير الإنسان السُّوداني من القيود وعوامل التفرقة والتقسيم لإطلاق طاقاته الإبداعية المكبوتة حتَّى يُحقِّق أحلامه وأشواقه فى حياة عامرة وحافلة وسعيدة .. ولنا أمثلة كثيرة ونماذج في ذلك لدول نبذت الأفكار الماضوية و لحقت بركاب العصر .. حيث قامت باحلال العلم والتكنولوجيا محل الخرافة و الاسطورة و حققت بذلك ما حققت من تقدُّم ورفاه لشعوبها (ماليزيا كمثال )، و هى التي تطوَّرت وتقدَّمت عندما تركت وراءها فتاوي فقهاء الظلام وتبنت منهج التفكير العلمي والإيجابي، وكذلك (تركيا) وغيرها من البلدان ذات الأغلبية المُسلمة. وان اردنا للسودان أن يتقدم يجب أن لا نترك مساحة للارهاب الفكرى و التجهيل فى السودان بعد اليوم ، و أن المجال سيكون مفتوحا للفكر والإبداع والإبتكار بعيدا عن التقليد و التبعية العمياء لماض ومرجعيات صارت مصداقيتها في المحك بفضل الفتوحات العلمية وتطوُّر التكنولوجيا وثورة الإتصالات .. وأنه بقدر ما أن السُّودان مُتفرِّد من حيث تركيبته وموقعه وطبيعته، فلابد له من تبني مبدأ التفكِّير خارج الصندوق وابتداع حلول غير تقليدية أو مسبوقة لمشاكله، وإجابات شافية للتحدِّيات التي تواجهه. والأمم المُتقدِّمة هي التي تستجيب للتحدِّيات الماثلة أمامها بقفزة (صحيحة) وليست قفزة للـ(خلف) أو للـ(أمام) حسب (أرنولد توينبي) في نظريته لتفسير التاريخ وأصول تاريخ الحضارات. والقفزة (الصحيحة) هي أن نستجيب للتحدِّيات التى تواجهنا بصورة إيجابية تُخاطب القضايا المصيرية الكبرى والمُلِحَّة والتي تُشكِّل جذور الأزمة. فبعض السُّودانيين لا زالوا يُفكِّرون داخل صندوق الرؤى المعطوبة والمشوَّهة التي لازمتنا طويلا منذ عهود بعيدة ولفترات ليست بالقصيرة . تلك الرؤى التي هدفت إلى الإبقاء على تشوُّهات الدَّولة السُّودانية من أجل المحافظة على الإمتيازات التَّاريخية التي خلقت الفوارق و التفاوتات بين مُكوِّنات الشعب السُّوداني. بل و قسَّمت السُّودانيين إلى مواطنين من درجات مُختلفة. حيث كانت المُحصِّلة النهائية إنفصال جنوب السُّودان وقيام دولة جديدة ترعى مفاوضات السلام الحالية وتُقدِّم النصح للدَّولة الأم التي لا زالت تتلمَّس طريق البناء الوطني لتشكيل الوجدان الموحَّد وبناء هوية وطنية مُشتركة !!!.

عندما إقترحت الحركة الشعبية يوم (الأربعاء) كعُطلة رسمية للبلاد، جاء ذلك لمنع التمييز على أساس الدِّين في الدَّولة السُّودانية التي تم الإتفاق على إنها (تفصل الدِّين عن الدَّولة)، ولم تقترح يوماً آخر له دلالات أو رمزية دينية مثل يوم (الأحد) الذي تعتبره الدَّولة السُّودانية يوماً عادياً للعمل بالرغم من دلالته الرمزية والدِّينية للكثير من المواطنين السُّودانيين، بل إقترحت يوماً مُحايداً للجميع، وبالتالي وفَّرت يوماً إضافياً للعمل والإنتاج بإعتبار إن عطلة الإسبوع ستكون يوماً واحداً فقط، ولمن يرغب في الذهاب إلى المسجد يوم الجمعة حسب الآية:

(يا أيُّها الذين آمنوا إذ نودي للصلاة من يوم الجمعة فأسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون). – سورة الجمعة الآية (9).

أو إلى الكنيسة يوم الأحد يمكنه أن يذهب ثم يعود إلى عمله، والسُّودان ليس إستثناءاً ، لأن دول كثيرة ذات أغلبية مُسلمة إختارت أن يكون يوم (الاحد) يوم العطلة الأسبوعية و يوم (الجمعة) يوم عمل رسمى وليس (عطلة) مثل (تركيا – تونس – والمغرب) وذلك من أجل مصلحة شعوبها، فعلت تلك الدول ذلك لأنها وضعت مصلحة مواطنيها كأولية و لم تستجب لرغبات و نداءات قوى الظلام والهوس. اما بالنسبة للسودان فأن ما حدث من إستغلال للدين الإسلامى فى السياسة و ما قاد إليه من تقسيم للمواطنين على أساس الدِّين والعقيدة، يتطلَّب إتخاذ قرارات شجاعة و غير مسبوقة تُمهِّد الطريق للوحدة المنشودة. لأن المسألة ليست مُسالة تطييب خواطر وتمنيات، بل إستحقاقات وردٌ للإعتبار بما يوحِّد الشعوب السُّودانية التي عانى بعضها من التهميش والإقصاء لعهود و عهود ، وبالتالي فإن كل ذلك أوجب إختيار يوماً مُحايداً مثل يوم (الأربعاء) لأن واقعنا في السُّودان يختلف تماماً عن واقع بقية الشعوب والدول الإسلامية ولا يمكن مُعالجة أزماته إلَّا بالتشريح الدقيق والتشخيص السليم والعلاج الناجع الذى يتناسب و عمق الازمة .

هذه المفاوضات توفِّر أرضية جيِّدة وفرصة إستثنائية ونهائية لمُعالجة جذور المشكلة السُّودانية وإنهاء الحروب مرة واحدة و إلى الأبد، والإنتقال إلى دولة العقد الإجتماعي وبناء السُّودان الجديد الذي لا يقصي أحد ولا يميز بين مواطنيه على أي أسس مهما كانت .

يجب علينا جميعاً إستثمار هذه الفرصة التي توفَّرت عبر كفاح مُسلَّح طويل، ونضالات كافة قطاعات الشعب السُّوداني التي توِّجت بثورة ديسمبر المجيدة في 2018-2019 ، والمضيء قدما نحو السلام الشامل والعادل ..نحو التقدُّم والرفاه – في إطار وحدة وطنية ترتكز على الحرية .. العدالة .. والمساواة – و سودانٍ جديد يسع الجميع.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.