حول لقاء جوبا بين الحركة الشعبية ووفد المسيرية: الانطلاق من الوعي الذاتي إلى الوعي الموضوعي للقضية

محمد جلال هاشم

كتب أحد الأصدقاء معلقا على البيان الصادر في جوبا، عاصمة جنوب السودان، يوم 22 مارس 2021م في ختام لقاء قيادة الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال والوفد الرفيع للقيادات الأهلية للمسيرية، واصفا إياه بأنه “… حتى الحركة الشعبية … بدأت الخوض مع الخائضين في وحل القبيلة”. من جانبي أخشى أن يكون هذا التعليق أدخل في تدبيج الإدانة للحركة الشعبية بمناسبة وبغير مناسبة، ذلك لأنها (في نظر الكثيرين) لم تهبّ لنجدتهم عندما عقدوا عليها الآمال في أن تنفض يدها عن مشروعها لتنصرهم على الفئة الباغية في الخرطوم. وهذا عندي نوع من التفكير بعقلية نخّاسي الرقيق، ولا أزيدُ عليه ولو بكلمة.

بالعودة لتعليق صديقي المشار إليه أعلاه لا يملك المرء إلا أن يتعجب في الكيفية التي يستعقل بها بعضُ الناس الشأنَ العام. فما حدث هو في جوهره عكس ما فهمه صديقنا منقو الذي يعيش في يامبيو أمريكا البعيدة.

يا صديقي الموضوع ليس كذلك إذا ما نظرت إليه وأقدامُك واقفة على الأرض، وليس سابحا مع السحاب!

أولا، المسيرية مجموعة إثنية كبيرة وموجودة على الأرض وتملك أعدادا هائلة من الأبقار تمر بالمناطق المحررة التي تحت سيطرة الحركة الشعبية، فضلا عن اشتباكات المصالح المتعددة والشائكة. ثانيا، أي احتكاك ناجم عن عدم تفاهم، يمكن أن يموت فيه المئات إن لم يكن الآلاف، هذا جانبا عن الأبقار التي يمكن أن تضيع في مثل هذه الصراعات.
فهل من الحكمة أن تُترك مثل هذه الأمور تسير بلا أي اتفاقات في ظل احتمالات كبيرة بأن تقوم الحكومة باستغلال هذه الاحتكاكات بغرض إشعال فتيل الصراع بين الجيش الشعبي وبين المسيرية، ذلك بغرض تحويل الأخيرين إلى مخلب قط ليحاربوا بالوكالة عن حكومة الخرطوم، كما كان يحدث في الماضي، باعتبار أن الصراع هو بين نوبة ومسيرية؟

لقد ارتفع وعي النوبة بقضيتهم من مستوى الوعي الذاتي (كنوبة فقط) إلى مستوى الوعي الموضوعي للقضية ككل بوصفها قضية تخص جميع السودانيين وبوصف الحركة الشعبية تمثل مشروعا للخلاص الوطني (مشروع السودان الجديد الذي ترفعه الحركة الشعبية والكتلة التاريخية). فماذا فعل المسيرية في المقابل؟ لقد انطلقوا من حيث يقفون، أي من وعيهم الذاتي كمسيرية موجودين على الأرض، ثم في نفس الوقت مستشرفين الوعي الموضوعي للقضية، بدليل أنهم يتباحثون مع الحركة الشعبية (وليس مع النوبة) حول قضايا تهمّ السودان ككل، وليس فقط المسيرية والنوبة.

انظر إلى هذا الأداء الوطني الكبير كيف يستقزمه بعضُ من في بصيرتهم رمدٌ فلا يرون فيه الاختراقات الاستثنائية، غير المسبوقة، بل فقط تقع أعيُنُهم على كلمة “المسيرية”، فينطلقون منها لتدبيج الإدانة للحركة الشعبية. فإن لم يكن هذا هو رمدُ البصيرة وعمى الوعي، فماذا يكون!

وقبل أن نفيق من تغبيش فهم صديقنا وتلبيشه، عاجلنا آخر بسؤالٍ نُكْر لا تُخطئ العينُ الباصرةُ أنه إنما تلبيسُ إبليس نفسه والعياذُ بالله. فماذا قال، وليته قال شيئا؟ إنه يستنكر كيف جاز للحركة الشعبية لقاء وفد المسيرية، بينما تحامت قبله بأيام قلائل لقاء وفد النوبة الذين جاؤوا طائرين بالجوِّ أيضا! فإن تعجب، إذن فلتعجب كيف انتقلت حكمةُ المسيرية بهم من الوعي الذاتي بالقضية إلى الوعي الموضوعي بها، بينما الذين رفضت الحركة لقاءهم جاؤوا، ليس فقط بوصفهم نوبة (الوعي الذاتي)، بل بافتراض أن الحركة هي نفسها واجهة للنوبة؛ أي أنهم يريدون أن يخاطبوا الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال بوصفها هي تدعي تمثيل النوبة (أي أن يرتدّوا بالحركة الشعبية من درجات الوعي الموضوعي للقضية إلى دركات الوعي الذاتي للمشكلة بوصفها مشكلة نوبة، فتصوروا!

فبينما التقى وفد المسيرية الرفيع مقاما وقامات بوفد الحركة الشعبية الذي ضم أعضاء من جميع أنحاء السودان، بما فيهم أعضاء ينتمون لإثنية المسيرية نفسها، جاء وفد النوبة المزعوم ليبحث عن الهوية النوبية للحركة الشعبية. فلا عجب أن خاب مسعاهم. هذا طبعا دون أن نتطرق لتهم العمالة لحكومة الخرطوم التي يقال بأنها تحركهم كقطع الشطرنج، وأنهم إنما يتصرفون بالوكالة عن حكومة الخرطوم .. إلخ. فهذا نتركه للوعي الذاتي، غير الموضوعي ولا نخوض فيه.

MJH
جوبا – 23 مارس 2021

2 تعليقات
  1. ادريس نمر يقول

    شكرا د .محمد جلال اتمني ان يكون أصحاب الاسئله الغير مبصره قد فهموا شرحك الوافي عن لقاء وفد الحركة الشعبية بوفد المسيريه في جوبا

  2. القاسم عبده يقول

    هذه هى عين الحقيقة يا دكتور محمد جلال هاشم ربنا يحفظكم بطول العمر لتبصير النأس

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.