حول الرِّق.. ماضيه ومآثره (8 من 19)
الدكتور عمر مصطفى شركيان
[email protected]
المماليك والإنكشاريَّة في البلاط العثماني
كل هذه الدول تشابهت في ظروف نشأتها، وهي شراء أطفال وتربيتهم في البلاط الملكي، حيث تبدأ علاقتهم بالسلطة بالدخول في خدمة الحكام. ومن مواقعهم داخل كواليس الحكم يستمدون الخبرة في أصول الحكم وكيفيَّة تسيير دولاب الدولة، والتعاطي مع الرعايا. وهنا تكمن علاقة السيِّد بالتابع، حيث تنتهي باعتلاء التابع السلطة. “فالخلافات داخل الأسر الحاكمة، والصرع حول السلطة كان يعد مدخل هؤلاء العبدان إلى الحكم، وقد يفضِّل الحاكم في بعض الأحايين أن يورِّث الحكم لعبده بدلاً من ابنه أو أخيه، وهو ما حدث بالفعل في نهاية الدولة الأيوبيَّة في اليمن، حيث أوصى آخر حكام الدولة الأيوبيَّة في اليمن الملك المسعود (المتوفي العام 1228م) بحكم اليمن إلى أتابكة نور الدِّين عمر بن علي بن رسول.”
بلغ التنافس السياسي في الإمبراطوريَّة العثمانيَّة (التركيَّة) مبلغاً قاتلاً، حتى شرع السلاطين يغتالون بعضهم بعضاً، ولم ينج من الاغتيال حتى الأمراء في البلاط السلطاني. فحين بلغ الأمير سليمان من العمر 24 عاماً حاول والده السلطان سليم الأول (الملقب بسليم العابس) ممارسة العادة المتبعة حينئذٍ في الاغتيالات السلطانيَّة، وأرسل له رداءً مسموماً، ولولا والدته التي منعته من ارتدائه لكان قد أصبح من الغابرين. أما ملازمه فقد ارتدى ذلك الرداء ومات مسموماً. وحين أمسى سليمان سلطاناً، وبات يُعرف ب”سليمان القانوني”، أو سليمان العظيم عند الغرب، أدرك أنَّه يريد شخصاً مخلصاً له في حاشيته. وفي سبيل وضع حدٍّ للتعارك في البلاط الإمبراطوري، شرع العثمانيُّون في اختطاف الأطفال المسيحيين من الشرق، واسترقاقهم وإجبارهم على اعتناق الإسلام، ثم إحضارهم إلى إستانبول لخدمة السلطان، وهم من شكلوا قوَّة خاصة لخدمة السلطان باعتباره أبوهم الرُّوحي، ثمَّ كان هذا الجيش يُسمَّى الإنكشاريَّة (Janissaries). ومن هنا جاءت فكرة المماليك الذين خدموا الإمبراطوريَّة في الإدارة المدنيَّة والحملات العسكريَّة في الأمصار، بما في ذلك مصر.
كان إبراهيم أحد هؤلاء الأطفال المختطفين، ألبانيَّاً كان ثمَّ اسمه بيَّرو. كان إبراهيم جذَّاباً وبليغاً وسيَّداً في اللغات الإيطاليَّة والإغريقيَّة والفرنسيَّة والتركيَّة والعربيَّة والفارسيَّة، مما أهله أن يكون مستشاراً رئيساً للسلطان سليمان ورفيقه في الآن نفسه. ثمَّ كان إبراهيم يُلقَّب ب”الأفرنجي”، وكان لا يقوم بتنفيذ واجباته الإسلاميَّة بحسم وحزم شديدين. إذ لم يعاقب الجناة بشيء من الشدة غليظ، ثمَّ كان له قليل الاحترام للحكم االعثماني التقليدي. ومع ذلك، كلَّفه السلطان سليمان والياً على مصر. كان العثمانيُّون يفضِّلون الغرباء في إدارة شؤون الإمبراطوريَّة، حتى لو كانوا حرفيَّاً أرقَّاءً، مما يعني أنَّهم كان لهم نظرة خارجيَّة بناءً على تبادل الأحلاف والبرجماتيَّة وممارسة غريزة حب السلطة. كانت العاصمة يومذاك إستانبول مرجلاً للسلوك الأرثوذكسي المتطرِّف. فقد تدخل إبراهيم في إنقاذ حياة الملا كبيز حينما كان يُحاكم في محكمة متَّهماً بأنَّه زعم بأنَّ المكانة الرُّوحيَّة للمسيح أعلى من مكانة الرسول محمد صلى الله عليه وسلَّم. إذ أحال إبراهيم المحكمة بالطريقة التي كان يتحدَّث بها إلى حوار إنساني.
إنَّ انقسام أفراد المجتمع إلى حكَّام ومحكومين تكاد تكون ظاهرة عامة وُجدت منذ أزمان بعيدة، وفي كل المجتمعات تقريباً، وبخاصة المجتمعات المتطوِّرة حضاريَّاً. فقد ذهبت المذاهب الفلسفيَّة مذاهباً شتي في تفسير هذه الظاهرة، حيث اتَّجهت المذاهب التي تعتنق الفلسفة الفرديَّة إلى القول بأنَّ “انقسام المجتمع إلى حكَّام ومحكومين هو طبيعة ملازمة للمجتمع البشري ما دام الأفراد يتباينون في خصائصهم الذاتيَّة كاللياقة البدنيَّة، والمواهب الفكريَّة، والإمكانات النفسيَّة وغيرها (…).” ومن أنصار هذا المذهب فقيه القانون الفرنسي ليون ديغي. لا ريب في أنَّ الذين يأتون بمثل هذه المفاهيم والنظريَّات يعانون دوماً من متلازمة التسلُّطيَّة، وبذلك يحاولون إيجاد عللاً لتبرير ما يحملونه مسبقاً في مخيَّلتهم. هذه العلل قد تأخذ مساراً نفسيَّاً أو دينيَّاً أو تاريخيَّاً، فلتجدنَّهم يشعرون في مداخيل أنفسهم بأنَّهم لم يولدوا إلا لأن يحكموا العوام، ويسلِّطوا رقابهم على النَّاس، ويرفعوا أنوفهم في السماء. وقد يستعينون بالنصوص الدِّينيَّة لتعليل سيادتهم على الشعوب، وبخاصة أنَّ في النصوص الدِّينيَّة كثراً مما يسعفهم لإعلاء شؤونهم، وبلوغ مراميهم في الحياة الدنيا. أولم تحرم النصوص الفقهيَّة العبدان من حقوقهم المدنيَّة والسياسيَّة لئلا يكونوا حكاماً!
ففي الفقه الشافعي جاء في باب أحكام العبيد والإماء ما “يفارق العبد الحر في عدة أحكام؛ لا تلزمه (صلاة) الجمعة، ولا تنعقد به، ولا يلزمه حج أو عمرة إلا بنذر، وعورة الأمة مثل عورة الرجل، ويجوز النظر إلى وجهها لغير محرم، ولا يكون شاهداً، ولا ترجماناً، ولا قائفاً، ولا قاسماً، ولا خارصاً، ولا مقوِّماً، ولا كاتباً في حكم، ولا أمين الحاكم، ولا إماماً، ولا قاضياً، ولا يُقلَّد أمراً عاماً، ولا يملك، ولا يطأ بالتسرِّي، ولا تلزمه الزكاة إلا زكاة الفطر، ولا يُعطى في الحج والكفارات مالاً، ولا يأخذ من الزكوات والكفارات شيئاً إلا سهم المكاتبين، ولا يصوم غير الفرض إذا أضرَّ ذلك به إلا بإذن سيِّده، ولا يلزمه إقرار في المال في الحال، ولا يُسهم له من الغنيمة، ولا يأخذ اللقطة إلا على حكم غيره، ولا يكون وليَّاً في نكاح ولا قصاص ولا حدِّ، ولا يرث، ولا يورث، ولا يكون وصيَّاً، ولا يُرجم في الزِّنا، ولا يتحمَّل الديَّة، ولا تُحمل عنه، ولا تتحمَّل العاقلة ثمنه على أحد القولين، ولا تُصح كفالته دون إذن سيِّده، ويجب في قتله قيمته، وفي أطرافه ما نقص من قيمته على أحد القولين، وحدَّه على النصف، ويتزوَّج بأمتين، ولا يتزوَّج بأكثر من امرأتين، وطلاقه اثنتان، وعدَّتها قرآن، أو شهران في أحد الأقاويل، ولا لعان بينها وبين سيِّدها، ولا يُنفى في الزِّنا على أحد القولين، وإن نُفي فنصف سنة، ويتزوَّج بحرَّة وأمة في عقدٍ واحد، وصداقها لسيِّدها، ولو زنت استحقت الصداق في أحد القولين، ولا يلحق ولدها بسيِّدها حتى يقرُّ بالوطء، ولا يُقتل به الحر، ولا يُقتل به من نصفه حر ونصفه عبد، وتُؤدَّى به فرض الكفارة، ولا يزوِّج نفسه، ويصوم في الكفارة، ويُكرَه على النكاح، وقسم الأمة على النصف، ولا يُحدُّ قاذفه، ويجوز رهنها، ولا خيار لها تحت عبد، ولا تجب نفقة الأقارب.”
باختصار شديد فإنَّ العبيد والإماء لمحرومون من كل الحقوق الدينيَّة والقانونيَّة والإنسانيَّة والأخلاقيَّة والاقتصاديَّة، أي أنَّ العبوديَّة لا تعترف للعبيد بمقام مدني أو حقوقي، والحياة الشوهاء، التي رزحوا فيها لا بفعل خطأهم، ولكن بسبب صفاقة الأذلاء فاقدي الكرامة الذين استعبدوهم في بادئ الأمر.
وللمقال بقيَّة،،،