حول الرِّق.. ماضيه ومآثره (7 من 19)
الدكتور عمر مصطفى شركيان
[email protected]
ما بين كافور الإخشيدي وأبي الطيِّب المتنبي
لعلنا أُحططنا علماً بالدولة الإخشيديَّة في مصر التي تقلَّد مقاليدها كافور الإخشيدي. وكافور هو الذي كان يُلقَّب بالأستاذ، ويُكنى بأبي المسك بعد أن أصبح أحد حكام تلك الدولة، وامتدَّت فترة حكمه للبلاد 23 عاماً، واستطاع أن يدير دفة الدولة عقب وفاة محمد بن طغج الإخشيد، بدلاً من ابنه الذي لم يتعدَّ الخامسة عشرة من عمره، وقاد حروباً شرسة وصل بها إلى حلب في سوريا، وذلك برغم من الأشعار والقصائد الهجائيَّة الموغلة في الازدراء والاحتقار والعنصريَّة، التي أفرغتها قريحة أبي الطيب المتنبي عليه. ففي مقال كتبه ياسين السعدي في صحيفة إلكترونيَّة وصف الكاتب المتنبي بأنَّه من الفحول التي ترفض الذل وتسعى إلى الحريَّة والكرامة، ثمَّ ذكر أنَّ المتنبي الفحل العربي قال في العبد الخصي كافور الإخشيدي شعراً بدأ يتفاخر به، وهو قصيدة داليَّة استكثر فيها الشاعر تنابذاً مقززاً، وتزيَّد في العنصريَّة والعنجهيَّة بشيء من التزيُّد شديد، وذلك بعد أن وفد عليه في مصر، وهو الذي كان يأمل أن يلقى عنده الترحيب والتقدير الذي كان يُحظى به عند سيف الدولة الحمداني قبل أن يشعر بالجفوة في بلاطه.
والفحل عند تعريف السعدي هو من عنده إحساس بالكرامة، ويأنف المذلة، ويأبى الضيم الذي يلحق به أو بوطنه أو مجتمعه. جاء تعريف ومعنى الفحل في معجم المعاني الجامع (معجم عربي عربي) بأنَّ الفحل هو الذكر القوي من كل حيوان، أي القوي جنسيَّاً مكتمل الرُّجولة، وفحول الشعراء هم المفضَّلون والمتميِّزون، والفحل من الشعراء هو الذي يغلب بالهجاء من هاجاه. أما المرأة الفحلة فهي السليطة اللسان. إذاً، لا ندري أين أتى السعدي بتعريفه إيَّاه للفحل؟
أيَّاً كامن من الأمر، فعندما رأى المتنبي ما صدم روحه المتوثبة للحريَّة وطموحه العاشق للكرامة – إذا استعرنا كلمات الكاتب السعدي – في مصر نعت كافور بأولي اللئام، وب”كويفير”، وكويفير على وزن فوعيعيل في اللغة تصغير كافور، والتصغير هنا للتحقير، والانتقاص منه، وبخس أشيائه، ثمَّ قال فيه ما يلي شعراً نتناً:
أكلَّما اغتال عبدُ السوء سيَّده أو خانه، فله في مصرَ تَمهيدُ؟
صار الخصي إمام الآبقين بها فالحرُّ مستعبد والعبدُ معبودُ
العبد ليس لحرٍّ صالح بأخٍ لو أنَّه في لباس الحر مولود
من علَّم الأسودَ المخصيَّ مكرمةً أقومه البيضُ أم آباؤه الصِّيدُ
ويختتم المتنبي قوله في كافور الإخشيدي:
وذاك أنَّ الفحولَ البيضَ عاجزةٌ عن الجميلِ، فكيف الخصية السُّودُ؟!
ثمَّ يسخر المتنبي من أهل مصر في عصره، ممن كانوا يتمسَّكون بالأعراض في الدِّين دون الجوهر، فكان من عادة أهل مصر إحفاء الشوارب (أي استئصالها). إذ اقتصروا من الدِّين على ذلك، وعطَّلوا سائر أحكامهّ وارتضوا بولاية كافور عليهم مع خسَّته، حت ضحكت الأمم منهم واستهزءوا بهم وبقلَّة عقلهم. ثمَّ أرسل المتنبي ذلك القول المأفون شعراً:
أغايةُ الدِّين أن تُحْفوا شواربكم يا أمةً ضحكتْ من جهلها الأمم
المتنبي لا يرضى أن يكون هذا الأمر الشكلي غاية في دينهم، فالدِّين الجوهر هو أن ترفض كل منكر، وأن تعترض ما وسعتك الحيلة على كل شائنة وشنار، فيعيِّرهم بالخزي والعار، لأنَّ عبداً يحكمهم، فرضوا بطاعته، فأي جهل بهد هذا الجهل، فها هي الأمم الأخرى تنظر إليكم يا أهل مصر، وتضحك ساخرة لهذا المصير الذي قبلتموه!! ثمَّ يقول المتنبي مستطرداً إنَّ حجة الدهري قويَّة مع أنَّها مؤذية، وذلك لأنَّه يجد حوله مثل هذا الحاكم، لو كان للكون مدبِّر حكيم لما حكم كافور، وكذلك فإنَّ حجة من يؤمن بتعطيل صفات الله، وذلك الذي يؤمن أنَّ الكون لا صانع له يدبِّره، فالخالق هو عشوائي، وإلا فكيف يحكم مثل هذا الوضيع ويصل إلى هذا المنصب الرفيع. والدهري هو الذي يؤمن بالدَّهر دون الله، وقد وصف القرآن هؤلاء الذين يؤمنون بالدَّهر: “وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ ۚ وَمَا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ ۖ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (الجاثية: 45/24).
فإنَّ حُجَّةُ يؤذي القلوب بها من دونه الدهرُ والتعطيلُ والقِدمَ
ما أقدر الله أن يُخزي خليقته ولا يصدِّق قوماً في الذي زعموا
ومن ثمَّ حرَّض المتنبي المصريين إلى الدعوة إلى التخلُّص من كافور، وذلك بأن يخزي الله هؤلاء الدهريين والمعطِّلين، فيبطل حجَّتهم عن طريق إزالة كافور عن الحكم، فالأمل معقود على التغيير. وقد أورد المتنبي هذا التحريض على قتل كافور في البيت التالي، حتى تعود مصر إلى الواقع السليم والصراط المستقيم، وتزول شكوك النَّاس فيهم:
ألا فتى يوردُ الهنديَّ هامته كيما تزولُ شكوكُ النَّاس والتهمُ
كان المتنبي شاعراً جيِّد السبك، رقيق العبارة. فقد قال في الحنين شعراً يفيض رقة وعذوبة يداوي به جرحاً، ويلائم به قرحاً. غير أنَّ لا شك في أنَّ الأشعار إيَّاها تتناثر فيها الألفاظ ذات الدلالات المقزِّزة، والإيقاع الزنيم، أشدَّ على من يسمعه من وقع السهام في غبش الليل. فقد عنى المتنبي بهذه الأشعار الهجائيَّة اللاذعة أنَّ كافوراً هو كائن متدنٍ وشخصيَّة خليقة بالازدراء، بل خليقة بنوع خاص للازدراء، فتصويره بصورة شوهاء رمز للعدميَّة نفسها، وتحت هذه الأوصاف والتصاوير يفقد الإنسان إنسانيَّته. بيد أنَّ كافوراً قد عُرِف في كل التاريخ أنَّه رجل حكيم، وعالم بالدِّين، وليس بالظالم أو الفاسق، فالنَّاس لا تأخذ التاريخ من الأدب، فالمتنبي ليس إنساناً سويَّاً. نعم هو من الناحيَّة الفنيَّة شاعر ملأ الدنيا، وشغل النَّاس بأشعاره، ومبالغاته من أكذب الشعر، وقديماً قالوا إنَّ أجمل الشعر أكذبه. أيَّاً كان من شأن، فهناك باحثان أجنبيَّان أرَّخا عن كافور الإخشيدي بصدق توثيقي، وأمانة علميَّة. الباحث الأوَّل هو الأسقف الإيطالي جوفاني فانتيني، والثاني هو المؤلِّف الجنوب إفريقي رونالد سيغال.
لا ريب في أنَّ الأدب العربي حبلى بأشعار تفوح بالعنصريَّة، وتندِّد بالملوك العجم، وترمي جل إخفاقات العرب عليهم، وتحط من قدرهم بوصفهم بانعدام الأدب والحسب والنسب، وعدم إيفائهم للعهود والمواثيق، وذهبوا في ذلك مذاهب شتى سواء في الشعر أم النثر أم القصص، والشعر هو اللغة التي بها استكشف هؤلاء الأعراب أغوار أنفسهم، واستظهروا لنا أغوار غيرهم، وارتقوا به أمجاد ماضيهم التليد، فخراً واعتداداً بأنفسهم. إنَّ العقل الجمعي الباطن والظاهر لكثرٍ من الأعراب يحمل التعالي العنصري البغيض، وينبئك عن كلامنا هذا كثرٌ من السُّودانيين الذين اغتربوا عن ديارهم بحثاً عن سبل كسب العيش في الوطن العربي. وتأسيساً على ذلك، فقد أنشد المتنبي مادحاً، كما اعتقد سيف الدولة الحمداني، لانتصاره على الحاكم الفاطمي في معركة حلب الأبيات التاليات. والمتنبي يزعم أنَّ الأعراب لن يعرفوا التقدُّم ولا الخير إذا حكمهم طرف خارجي، والأسوأ في الأمر أن يكون هذا الطرف الخارجي أعجميَّاً:
وإنَّما النَّاس بالملوك وما تُفلح عُربٌ ملوكها عجمُ
لا أدبٌ عندهم ولا حسبٌ ولا عهود لهم ولا ذمــمُ
بكل أرضٍ وطئتُها أُممٌ تُرْعَى بعبدٍ كأنَّها غـــنمُ
يستخشِنُ الخزَّ حين يلمُسُهُ وكان يُبري بظفره القَلَمُ
يستحضرني في هذه الخاطرة ما كان من أمر الدكتور الباقر عبد الله وكفيله السعودي. فماذا كان من أمرهما؟ الدكتور الباقر عبد الله كان صاحب صحيفة “الخرطوم” التي كانت تتبنى خط المعارضة السُّودانيَّة، وكانت تصدر في القاهرة في التسعينيَّات، ويتم توزيعها في الخارج بما في ذلك المملكة العربيَّة السعوديَّة عن طريق كفيل سعودي. وفي إحدى الأيَّام أثناء مجالسة الدكتور عبد الله مع الكفيل قال الأوَّل للثاني عن طريق المزاح بأنَّه عربي ويريد أن يتزوَّج ابنته. فما كان من الكفيل السعودي إلا أن طلب من الدكتور عبد الله بأن يلوذ بالصت حتى لا يسمعه والده. ومن هنا اندهش الدكتور عبد الله وتجهَّم وجهه، وطفق سائلاً السعودي لِمَ لا؟ فردَّ السعودي: نعم إنَّك لعربي، ولكن من سلالة بلال بن رباح! هذا الرَّد من باب المدح الذي يشبه الذم، أو العكس هو الصحيح. بالطبع، نحن نعلم من هو بلال بن رباح. إنَّه هو ذلكم الحبشي الذي كان عبداً، لأنَّ والدته كانت أمة، وذلك قبل فجر الإسلام، ثم اعتنق الإسلام منذ فجره، ولقي ما تعرَّض له كثرٌ من أمثاله من صنوف الأذى، وأصبح مؤذِّن الرسول صلى الله عليه وسلم لما كان له من صوت رخيم. ومع إسلامه وتفانيه في العقيدة عيَّره أبو ذر الغفاري أمام الرسول، ونعته بابن السويداء! إذ لم تصل الإساءة إلى شخصه فحسب، امتدَّت لتشمل والدته، التي لم تكن لها بد أو يد في عبوديتها في بادئ الأمر. والأسوأ في التعيير إيَّاه استخدام تصغير السوداء في السويداء على وزن الفوعيلاء، وفي ذلك إمعاناً في الإذلال واستكثاراً في الاحتقار!
وللمقال بقيَّة،،،
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.