حول الرِّق.. ماضيه ومآثره (5 من 19)
الدكتور عمر مصطفى شركيان
[email protected]
بيد أنَّ بعضاً من خلفاء المسلمين كانوا قد ابتكروا طريقة إبداعيَّة لم يسبقهم إليها أي ملك من ملوك الأرض، حيث أنَّهم كانوا يخصون عبيدهم، ثم هناك خليفة من خلفاء المسلمين كان من عظمته أن كان في قصوره ألف عبد خضي يأتمنهم على خدمة حريمه، وينام وهو آمن ومرتاح خالي البال، واضعاً كراعينه (رجليه) على الآخر. ودخل على الخط صلاح الدين الأيوبي وزوجة ابنه “شجرة الدر” عندما بدأ بإرسال الخصيان للخدمة في الحرمين الشريفين تبركاً واحتساباً. واستمرَّت الحال على هذا المنوال أكثر من 600 عام إلى أن دخل الملك عبد العزيز الحجاز، عندها أوقف ذلك التقليد غير الإنساني، مع مراعاة أن يستمر الخصيان على حالهم إلى أن يتوفاهم الله، وينتهوا بالتقادم. ويذكر أنَّ أحد خلفاء بني أميَّة في القرن السابع – كما ذكر أبو الفرج الأصفهاني في كتاب الأغاني – أمر والي المدينة ب”إحصاء المخنثين” من المطربين؛ فرأى الوالي نقطة على الحاء تركتها ذبابة لتتحول الكلمة إلى “إخصاء” بدلاً من إحصاء. فأمر الخليفة بإخصائهم جميعاً. وكان “الدَّلال” – وهو من أشهر مطربي المدينة وأكثرهم ظرافة وجمالاً وحسن بيان – ضمن قائمة المخصيين. فقد خُصِي المطربين لتجميل أصواتهم، و”ذبابة” جنت على “الشاذين”.
وفي الأحاديث المنقولة نهى النبي صلى الله عليه وسلَّم عن خصاء الآدمي للآدمي. فقد جاء في الأثر أنَّ “من خصَّى عبده خصيناه”، وفي الوقت نفسه حفظت أحاديث من قبيل “سيكون قوم ينهالهم الإخصاء، فاستوصوا بهم خيراً.” ما بين هذين الحدَّين تشكَّل المنظار الفقهي للعصور السلطانيَّة بين النهي عن الخصي، وبين تشريع شراء وبيع الخصيان من الرَّقيق الأبيض والأسود. فقد دافع العلامة البصري أبو عثمان عمرو بن بحر المعروف ب”الجاحظ” (المتوفي العام 869م) في كتاب “الحيوان” عن النظرة المهيمنة في المجتمع العربي آنذاك بأنَّ الخصاء حرام، لكن بيع الخصي (الذي يفترض أن يكون تمَّ خصاؤه قبل البلوغ) وشراؤه حلال، وذهب إلى القول إنَّ “هديَّة الخصي كهديَّة الثوب والعطر والدَّابة والفاكهة.” فقد قال الفيلسوف الألماني جورج هيغل (1770-1831م) “كل إمريء ابن زمانه”. الجاحظ وغيره ممن استطابوا الأوضاع الاجتماعيَّة بعلاتها حينئذٍ حالهم كحال من يتمتَّع باستغلال المال المسروق ويستهجن السارق في الآن نفسه، أو كمن يتلذَّذ باحتساء الخمر وفي نفس الحين يستنكر صانعه.
يُحكى أنَّ “هناك قصة ثلاثة خرجوا من نجد لشراء طعام لهم من العراق سرقت دراهمهم، فاتفقوا مع الشخص الثالث أن يدَّعوا أنَّه مملوك جيء به لبيعه في العراق، وباعوه بثمن يكفي لشراء طعامهم على أساس أن يتدبَّر أيَّة فرصة ويهرب. لكن ما حصل أنَّ المشتري اقتاده إلى خشبة الخصي، وقام بخصيه وتمكَّن بعد ذلك من الفرار، لكن عندما جاء أصدقاؤه يباركون له بالسلامة قال “عدت لكم، لكن بدون خصيتان!”
مهما يكن من شأن، ففي نموذج من أسوا نماذج التكافل في الإثم البشري اجتمع أتباع الديانات التوحيديَّة، فقد اشترك في هذه الجريمة التاريخيَّة التاجر أو المستهلك العربي، والطبيب اليهودي، ثمَّ أيضاً راعي الفنون المسيحي (استخدام الخصيان في روما وبيزنطة في القرن السادس عشر كمغنيين من ذوي أصوات حادة بدلاً عن النساء، وبعدها كمغنيين أوبرا).
لعلَّ من نافلة القول نستطيع أن نخلص هنا إلى أنَّ عمليَّة خصي الصبية جريمة إنسانيَّة في تاريخ الرِّق، حيث تعجز الكلمات عن وصفها، فهي تبدأ أوَّلاً باختطاف الأطفال من ذويهم وقراهم، وحرمانهم من الرعاية الأبويَّة في أسرهم إلى الأبد. ثانياً، في عملية الخصي ذاتها والتي تتم دون تخدير أو أيَّة احترازات صحيَّة أخرى يموت كثرٌ من الأطفال. ثالثاً، إنَّ في عمليَّة الخصي ينتهي الطفل المخصي بتشوهات فسيولوجيَّة في وظائف أعضائه التناسليَّة وهي، إذاً، عمليَّة لا إنسانيَّة ولا أخلاقيَّة، وبخاصة أنَّها كانت تتم دون رضاهم، حتى ولئن تمَّت برضاهم فهم في سن مبكِّرة لا تسمح لهم باتِّخاذ رأيهم في مثل هذه المسائل المصيريَّة. رابعاً، الخصيان تنتهي بهم الحال إلى أوضاع نفسيَّة سيئة وعقد اجتماعيَّة يعانون منها مدى الحياة، فهم يظلون في أوضاع مجتمعيَّة غريبة، فلا هم في مرتبة النساء ولا الرجال. برغم من ذلك نجا بعض الخصيان من الموت، وتغلَّب على العقد النفسيَّة والاجتماعيَّة، وتبوَّأ مراتب عليا في السلطة كما جرى في السُّودان (حاكم مملكة المسبَّعات في كردفان المقدوم مسلم)، وفي مصر (كافور الإخشيدي)، كما سنبين في حال الأخير بعد حين. كذلك هناك قلة قليلة من العبيد غير المخصيين الذين استطاعوا بتمرُّدهم وبسالتهم، أو ذكائهم أن يشبوا في البلاد السلطاني ويستولوا على العرش كما سنرى في الصفحات التاليات.
وللمقال بقيَّة،،،