حول الرِّق.. ماضيه ومآثره (3 من 19)
الدكتور عمر مصطفى شركيان
في مذكِّراته الموسومة “أركان الحكمة الخمسة” (Seven Pillars of Wisdom) المنشورة العام 1935م، ذكر توماس إدوارد لورانس (الشهير بلورانس العرب) أنَّ القبائل العربيَّة في وادي الصفراء في المملكة العربيَّة السعوديَّة كانت تقيم في قراها لمدة خمسة أشهر في العام. أما بقيَّة المواسم فكان العبدان يتولون أمر البساتين، وقد وصف لورانس هؤلاء الزنوج الأرقاء بأنَّهم يتميَّزون بأعضاء غليظة وأجسام ممتلئة لامعة، حيث يبدون غرباء في المنطقة وسط العرب التي تعيش حياة الطيور المهاجرة، وهي تلك التي لا تستقر في مكان بعينه. وقد أخبره رفيقه خلف بأنَّ هؤلاء السُّود يتمُّ إحضارهم أصلاً من إفريقيا وهم أطفال بواسطة آبائهم الرمزيين التكروريين، ومن ثمَّ يتم بيعهم أثناء أداء شعائر الحج في مكَّة المكرَّمة، وحينما تشتد سواعدهم تتراوح القيمة الشرائيَّة لكل منهم ما بين 50-80 جنيه، ويحظون بالعناية حسب أسعارهم. وفي نهاية الأمر يصبح البعض منهم خادماً في البيت، أو حارساً شخصيَّاً لسيِّده. أما الغالبيَّة العظمى فيتم إرسالهم إلى قرى النخيل في الوديان ذات الحركة الدؤوب، حيث المياه المتدفقة والمناخ السيء الذي لا يناسب العمالة العربيَّة. وفي تلك القرى يزدهر العبدان، ويشيِّدون لأنفسهم بيوتاً متينة، ويتزاوجون الأرقاء من النساء، ويقومون بكل الأعمال اليدويَّة لأسيادهم. إنَّ تعدادهم لكبير – فعلى سبيل المثال – هناك ثمة ثلاثة عشرة قرية لهم مجاورة في ودي الصفراء، ومن ثمَّ أنشأوا مجتمعاً خاصاً بهم، وعاشوا كثيراً على رفاهيَّتهم. غير أنَّ عملهم شاق، لكن المراقبة ليَّنة، والهروب سهل. أما وضعهم القانوني فسيء، لأنَّ ليس لهم استئناف أو مناشدة في العدالة القبليَّة، أو حتى عند محاكم الشريف حسين.
بيد أنَّ الرأي العام والمصلحة الذاتية يقلِّلان أيَّة قساوة تجاههم، وأنَّ مذهب العقيدة الإسلاميَّة يحث القائمين على أمرهم على أنَّ تربيتهم تعتبر من الأعمال الحميدة، وهذا يعني عمليَّاً أنَّهم كلهم على الأقل قد نالوا حريَّتهم في نهاية الأمر. كانوا يكسبون مالاً أثناء خدمتهم، وبخاصة إذا كانوا أذكياء. وإنَّ الذين رأيتهم كانوا يستحوذون ممتلكات، وراضين عن أنفسهم كل الرِّضا، ثمَّ كانوا يزرعون البطيخ والكوسا والخيار والعنب والتبغ للبيع لمصالحهم الخاصة. إذ يتم تصدير الفائض من البلح إلى السُّودان عن طريق القوارب الشراعيَّة، ومن هناك تتم مقايضته بالذرة الشاميَّة والملبوسات، والكماليات من إفريقيا أو أوروبا.
علاوة على ذلك، شارك العتقاء منهم في المعارك بقيادة صالح بن شفيع، الذي وصفه لورانس بالفتي الزنجي ذي شجاعة نادرة وله ملكة الصداقة، وهو الذي احتفظ برجاله في نظام معقول بواسطة الشعوذة والتوسُّلات، وبالكاد لم يبال كيف كانت كرامته محل استخفاف بواسطة رجاله أو نحن الإنجليز. لقد قبلهم القائد بويل، ووضعهم في حجرة أخرى في تلك السفينة المكتظة. إذ نزلوا مع مجموعة بحريَّة أخرى شمال المدينة، حيث لا توجد نقطة مراقبة تركيَّة، وبذلك تحاشوا الوقوع في فخ الأتراك عند عمليَّة الإنزال.
هذا بالطبع انطباع لحظوي صادر من أجنبي مرَّ بالوادي غير المقدَّس مروراً سريعاً، وكتب ملاحظاته العابرة على هذا النحو من الوصف، وأضاف إليه ما أخبره محدثه البدوي المدعو خلف. لم تتسن للورانس فرصة لدراسة مجتمعات العبيد دراسة استقصائيَّة في جميع أنحاء شبه الجزيرة العربيَّة ليدرك ماذا حلَّ بهم من سوء المنقلب، ورداءة المصير، ثمَّ لم يكد يهتدي إلى الظروف القاسية التي وقع فيها كثرٌ منهم – أو بالأحرى لنقل كلهم أجمعون أبتعون – في الأسر. أما عن الخصيان وكيف وأين تمَّ ذلك، فهذا أمر يتأسَّى له القلب، ويدمع العيون، ويدفع الشرايين إلى النزيف. وما يديرك عن الخصي أو الخصاء؟
وللمقال بقيَّة،،،