حوار الكباشى تحت المجهر مرة أخرى

✍🏿 بقلم: الجاك محمود أحمد الجاك

 

 

أطل الجنرال شمس الدين الكباشى عضو مجلس السيادة، و عضو وفد الحكومة الإنتقالية المفاوض مرة أخرى نهاية الأسبوع الماضى فى حوار مع فضائية النيل الأزرق إحدى القنوات المحسوبة على النظام البائد. شخصيا كنت فى غاية الحرص على متابعة تفاصيل الحوار لعلى أجد فى جعبة الرجل شيئا جديدا ذا شأن قد يفصح عنه و يدعو للتفاؤل. لكن و للأسف ما زال الكباشى كعهده لم يكن لديه ما يقدمه. فقط بدا الرجل منبهرا ببريق السلطة، و مسترسلا فى كلام الواثق فيما يقول و أخذ يوزع التصريحات و إرسال الرسائل السالبة.

سبق و أن ذكرت فى مقالى السابق أن تعاطى أى رجل دولة و مفاوض كبير مثل الكباشى مع الإعلام يتطلب الحصافة السياسة و الحنكة الخطابية، فضلا عن التمتع بالذكاء الإعلامى بدلا من إطلاق الكلام على عواهنه أمام الكاميرات (كلام سمبلا) و الظهور من أجل الظهور و خطف الأضواء الإعلامية (طق حنك ساكت يعنى).

أعجب كيف فات على الكباشى أن الإعلام رغم أنه يعتبر أحد أهم أدوات السيطرة على السلطة، و أنه يلعب دورا فاعلا فى صناعة الأجندة و تسويقها، فضلا عن تشكيل الرأى العام و توجيهه، إلا أنك إن لم تحسن إستخدامه و توظيفه عن معرفة و حنكة و إقتدار لتسويق أجندتك فهو حتما سينقلب عليك و تبقى (كترة الطلة بتمسخ خلق الله)، و يبدو أن هذا ما لم يستوعبه الجنرال الكباشى. و من جانبنا لم نكن نتوقع بعد سقوط الطاغية البشير و وزبانيته أن تستنسخ ثورة ديسمبر نماذج ليونس محمود (صاحب البرنامج الإذاعى الحديث السياسى فى بواكير عهد الإنقاذ) و الصوارمى خالد سعد و أبو و وزير الدفاع بالنظر و العفين (صاحب مقولة لحس الكوع)، و غيرهم ممن أصبحوا مثارا للتندر و السخرية فى الساحة السياسية و الوسائط الإعلامية لا لشيئ سوى أنهم إستمرأوا الكذب و أدمنوا المشى على هدى ترهات و عنتريات رئيسهم البشير الذى إشتهر بالتنمر على خصومه من المعارضين و الكذب و عشق الرقص و العرضة على إيقاع (النار ولعت) حتى فصل بعنترياته و حماقاته جزءا عزيزا من الوطن وأحرق دارفور برمتها و كاد أن يحرق جبال النوبة و النيل الأزرق لولا المقاومة الموحدة و الشرسة!

فى معرض رده على سؤال المذيعة عن حق تقرير المصير أجاب الكباشى ببداية دبلوماسية قائلا إن من حق الحركة الشعبية أن تطرح ما تشاء، لكن ما لبث و أن وقع فى شر أعماله عندما إستطرد قائلا بكل مكر أن جبال النوبة بها الكثير من المكونات لكن الحركة الشعبية هى وحدها من تطالب بحق تقرير المصير فى إشارة إلى أن موقف الحركة الشعبية لا يمثل إرادة مكونات الإقليم متعمدا عدم التطرق لإقليم النيل الأزرق (إقليم الفونج الجديد) الذى يطالب هو الآخر بذات الحق، فإبتسمت المذيعة منشرحة لإعتقاده أنها نجحت فى إستنطاق الكباشى فحصلت على الإجابة التى كانت تبحث عنها كون الكباشى عضو مجلس السيادة والمفاوض المتمكن و المحنك و الملم بتفاصيل كل ما يخص جبال النوبة بحكم إنحداره منها قد طمأنها بقدرته الكلامية على محاصرة و تقزيم الحركة الشعبية فى إقليم جبال النوبة و تصويرها لها كمجرد حركة إثنية و جهوية معزولة لا حول لها و لا قوة على الرغم من وضوح رؤية الحركة الشعبية و أهدافها و مبادئها الموجهة. فإذا كان الكباشى يعتقد فى إمكانية التعاطى مع قضية حق تقرير المصير بهذه البساطة و الإختزال المخل، فلماذا لا يريح نفسه و حكومته بالموافقة على تقرير المصير فى طاولة التفاوض حتى يتسنى له الإحتفاء لاحقا بسقوط الحركة الشعبية ديمقراطيا عند ممارسة هذا الحق ليؤكد الكباشى حينها و يثبت للعالم أجمع أن شعب الإقليم لا يدعم طرح الحركة الشعبية، و إنما يؤيد جلاده و يدعم مشروعه الظلامى المتمثل فى الدولة الدينية و يؤيد الوحدة القسرية الظالمة التى تضطهد و تبيده إبادة حسية و ثقافية و تعمل على تمزيق نسيجه الإجتماعى من خلال الإستقطاب و التجييش و التسليح و التمكين على أساس عرقى؟!

موضوع آخر محل إختلاف كبير شد إنتباهى فى الحوار و هو مبالغة الكباشى فى مدح المؤسسة العسكرية عندما وصف القوات المسلحة التى ظلت تقاتل لأكثر من خمسين سنة أنها ما زالت بخير. طبعا لم يقل الكباشى من هم الذين ظلت تقاتلهم قواته لأكثر من خمسين عاما. فللحقيقة و التاريخ القوات المسلحة و منذ أن قام المستعمر الإنجليزى بتأسيسها فى 26 يناير 1917 تحت مسمى قوات دفاع السودان معلوم كان قد تم تأسيسها لأهداف إستعمارية محضة تخص المستعمر الإنجليزى. تحولت هذه القوات بعد ما يسمى بإستقلال السودان إلى جيش للإستعمار الداخلى، فالقوات المسلحة التى تنظر إليها نخب المركز على أنها صمام أمان الدولة السودانية و عمودها الفقرى، و تعتبرها خط أحمر و واحدة من التابوهات السياسية فقد صممت عقيدتها العسكرية فى الأساس لحماية المركز الإسلاموعروبى (مؤسسة الجلابة بكل ما تعنى الكلمة) و الحفاظ على هيمنته و إمتيازاته. و كل ما أنجزته القوات المسلحة منذ نشأتها هى أنها ظلت تحارب المواطن السودانى فى الهامش لخمسة و ستين عاما (منذ العام 1955) و إرتكبت فى سبيل ذلك الفظائع و جرائم التطهير العرقى و الإبادة الجماعية و القتل و السحل و التنزيح على أساس عرقى و دينى، الأمر الذى قاد إلى إنفصال جنوب السودان. كما ظلت العناصر و النخب النيلية التى تسيطر على قيادة و مفاصل القوات المسلحة منذ تأسيسها أداة لإختطاف الثورات الشعبية و تقويض التحول الديمقراطى و الحيلولة دون حدوث إستقرار دستورى فى السودان و إنجاز التغيير فى البلاد، و ذلك من خلال التآمر مع البيوتات الطائفية تارة، و التنظيمات الآيديولوجية تارة أخرى و التى كانت و ما تزال تقف وراء الإنقلابات العسكرية فى السودان. لكل هذا و من واقع التجربة العملية صار هناك إجماع سياسى بضرورة إعادة هيكلة القوات المسلحة و بناء جيش وطنى جديد بعقيدة عسكرية و وطنية جديدة. جيش و طنى جديد يعكس فى قيادته و جميع وحداته و تشكيلاته العسكرية واقع التنوع الذى يتميز به السودان. فهذا الجيش الذى يتباهى به الكباشى و يستميت فى مدحه لا يمثلنا فى شيئ، و إلا فلما ثرنا عليه و قاتلناه؟! هذا الجيش رغم تحديث ترسانة أسلحته و إتفاقيات دفاعه المشترك مع دول بعينها و محاور معلومة تحدثنا التجارب العملية و الميدانية و الوقائع أنه جيش متداعى عفى عليه الزمن، و أنه ليس بخير و غير قابل للصمود و أبناء الهامش لن يقبلوا بإستغلالهم مرة أخرى ليقاتلوا فى صفوفها ضد شعوبهم من أجل حماية المشروع الإسلاموعروبى كما يعتقد و يتصور الكباشى. فإذا كان المقصود بإجابة الكباشى هو التلويح بإمكانية العودة لمربع الحرب لتبرير إحكام قبضة العسكر و اللجنة الأمنية على السلطة و سيطرتهم على مقاليد الأمور فى البلاد، فليس فى ذلك أى جديد يستحق الوقوف عنده،. فقد سبق و أن توعد البشير بسحق الحركة الشعبية خلال 72 ساعة فسقط البشير و ما زالت الحركة باقية كقوة رئيسية. حتى لو إنشقت الأرض و إبتلعت الحركة الشعبية كما يتمنى أعداؤها فستولد الأوضاع المختلة فى السودان حركة شعبية أقوى. لكن رغم الهدنة و التمديد المستمر لوقف العدائيات كظاهرة لإبداء حسن النوايا و إعطاء الفرصة لتقدم و نجاح العملية السلمية، إلا أن جذوة الكفاح و النضال ما زالت حية و متقدة و الثوار ما زالوا هم الثوار فى يقظة تامة. صحيح، يمكن لهذا الجيش أن يواصل حرب الإبادة و سياسة الأرض المحروقة و يقتل مئات الآلاف من المواطنين السودانيين و لكنه لن ينتصر عليهم.

السودان نفسه لن يكون كما كان من ذى قبل كما قال الراحل الدكتور جون قرنق ديمابيور (Sudan will never be the same again). فهو الآن أمام خيارين إما أن يتجدد بعقد إجتماعى جديد يتم بموجبه القبول بقاعدة للعيش المشترك فى سودان جديد يسع الجميع تقوم الحقوق و الواجبات فيه الحقوق على أساس المواطنة. سودان موحد خالى من أمراض السودان القديم المتمثلة فى (العنصرية – التعصب الدينى – الإستعلاء العرقى و الثقافى – و كافة أشكال التهميش و الظلم و الإضطهاد و الفساد و الإستبداد)، أو يتبدد هذا السودان فى حال رفض الوحدة العادلة بذهاب كل إقليم رافض للأوضاع المختلة و متضرر منها إلى تقرير مصيره تماما كما بدأت تتعالى الأصوات المطالبة بذلك فى جبال النوبة و النيل الأزرق و شرق السودان، و يقينى أنه ستظهر أصوات أخرى غدا فى حال الإصرار على فرض الدولة الدينية و ثوابت الآيديولوجيا الإسلاموعروبية، فلا مجال بعد اليوم لإستمرار عقلية الشنقيطى بعد 64 سنة من ممارسة الفهلوة و الإستهبال السياسى. و تقرير المصير لمن لا يعلمون هو حق مشروع يتعين أن يتم إنتزاعه إنتزاعا فهو ليس منحة من أى أحد كائن من كان.

أختم بأننا وحديون لكننا لن نقبل بأى مزايدة على الوحدة العادلة و شروطها معلومة. قوى التغيير الحية مناط بها أن تتحد و تتلاحم لتؤكد على الوجدان المشترك للشعب السودانى، و أنها قادرة على تصحيح هذا الوضع المأزوم الذى يهدد وحدة ما تبقى من السودان……و إلا فإننا لن نعود من منتصف الطريق، فالشعوب المهمشة و المضطهدة فى السودان على إستعداد تام لدفع ثمن حق تقرير المصير فى حالة رفض الوحدة العادلة، فإرادة الشعوب لا تقهر يا الكباشى.

تعليق 1
  1. Hassan ahmed يقول

    اردة الشعوب فعلا لاتقهر

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.