حكومة الصَّادق المهدي (1986-1989م).. الديمقراطيَّة الشوهاء والممارسة البلهاء (9 من 9)
الدكتور عمر مصطفى شركيان
[email protected]
إذاً، ماذا يعني هذا السرد التاريخي كله؟ عنينا بهذا السرد أن نبرز قضايا جوهريَّة انعكست بشيء من الخطورة شديد على الواقع الأمني والسياسي والدولي في إقليم دارفور في السُّودان. أولاً، إنَّ التدويل الذي أخذ الصَّادق يتحدَّث عنه في عهد حكومة الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة (الحركة الإسلاميَّة السُّودانيَّة) حتى انتقل إلى مثواه الأخير كان هو الذي شرع فيه بالسماح للوجود العسكري الليبي والتشادي في إقليم دارفور. إذ أمست السياسات الدوليَّة تلعب دوراً خطيراً في المحيط الإقليمي في دارفور، وباتت البيئة المحليَّة في دارفور ملوَّثة بالعنف والكراهيَّة والبغضاء والصراعات الإثنيَّة، وكانت هذه القوَّات الأجنبيَّة يتمُّ نشرها في دارفور لتحقيق مصالح دولها، ولم يكن لأهل دارفور خاصة، ولا أهل السُّودان عامة، مصلحة في هذا التواجد الأجنبي المريب في أراضيهم.
ثانياً، الحصول على الأسلحة من مصادر عربيَّة، وبهذه الكثافة المأهولة، كان الغرض منه تحقيق نصراً عسكريَّاً سريعاً على الحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان، أو إطالة أمد الحرب، ولا خياراً ثالثاً لهما الذي كان يمكن أن يكون الحل السياسي الأمثل. ظنَّ الصَّادق – وإنَّ بعض الظن إثمٌ – أنَّه بمقدور حكومته حسم أمر الحرب الأهليَّة في جنوب السُّودان وجبال النُّوبة والنيل الأزرق عسكريَّاً؛ تأسيساً على ذلك لم تكن قضيَّة السَّلام من أولويات حكومته المهدويَّة، ولم يكن هو في عجلة من أمر السَّلام في ربوع السُّودان.
ثالثاً، عسكرة المجتمع في إقليم دارفور بقوَّات أجنبيَّة (ليبيَّة وتشاديَّة) تسبَّبت في عدم الاستقرار في المجتمع الدارفوري، وانتشار السِّلاح، وظهور ظاهرات النَّهب المسلَّح، واستخدام السِّلاح والعنف في الحصول على أي شيء يرتاده المرء في الإقليم تحت شعار “العندو كلاش يأكل بلاش”. إذ أفضى هذا الوضع الأمني والسياسي المضطرب إلى نشوء “التجمُّع العربي”، الذي وجد دعماً عسكريَّاً وأمنيَّاً وسياسيَّاً من النظام الليبي مع تواطؤ من حكومة الصَّادق المهدي في الخرطوم. في ذاك الوضع المأزوم في دارفور كان الصَّادق المهدي غائصاً إلى أخمص قدميه في الوحل السياسي.
رابعاً، فكرة التجمُّع العربي تعود في الأساس إلى جبهة التحرير الوطني التشادي (Front de Liberation Nationale du Tchad – FROLINAT)، تلك الجبهة التي عقدت مؤتمرها الأول في مدينة نيالا بجنوب دارفور في 22 حزيران (يونيو) 1966م، وكان إبراهيم أبتشا القائد المؤسِّس للجبهة (فرولينات)، وقد بات أمينها العام، وظلَّت نشطة منذئذٍ مروراً بالعام 1993م. كان ذاك المؤتمر يمثِّل تجمُّعاً للقبائل العربية المعارضة في تشاد ضد حكومة فرانسوا تومبلباي. بيد أنَّ هذه المعارضة العسكريَّة قد باتت مستمرَّة بصور مختلفة وتحالفات متباينة بين الفينة والأخرى عبر الحقب، وضد الحكومات التي تعاقبت على سدة الحكم في إنجمينا مع وجود تدخلات أجنبية، وبخاصة من ليبيا، وسرعان ما أسَّس المؤتمر إيَّاه نواة التجمُّع العربي في دارفور.
خامساً، السِّلاح الغزير في دارفور وجد سبيله إلى ميليشيا المراحيل المؤلَّفة من قبيل الرزيقات في جنوب دارفور، والمسيريَّة في غرب كردفان، واستخدامه على قرى الدينكا في بحر الغزال وأبيي من أجل النَّهب والقتل والسبي والاسترقاق، وكذلك في عدم الاستقرار الأمني في جنوب كردفان (جبال النُّوبة). في كل ذلك لم يكلِّف السيِّد الصَّادق المهدي نفسه لنقد سياساته الخرقاء، لأنَّه لم يكن يجرؤ على نقد نفسه؛ إذ كان يرى أنَّه على الجانب الصواب دوماً وكل البشر خطَّاؤون، وقد أوتي الحكمة دون غيره، ثمَّ إنَّه كان يعتقد جازماً لا ريب في ذلك بأنَّه يحمل حقيقة أعلى وأبعد غوراً من الحقيقة نفسها. وكسليل آل المهدي، فقد أكسبه ذينك النسب والحسب الإغراق في الغرور، وقدراً غير قليل من التعالي، والإفراط في الثقة بالنَّفس، حتى لم تكن لديه النَّفس اللوَّامة.
لعلَّ ما أوردناه هنا يمثِّل البدايات لنشأة ميليشيا الجنجويد (قوَّات الدعم السريع لاحقاً) في ظل غطاء سياسي-إثني هو التجمُّع العربي في دارفور، وكانت الحرب إثنيَّة بلا شك فيما بعد، وبتواطؤ من قبل حكومة السيِّد الصَّادق الصديق عبد الرحمن المهدي، الذي لم تطرف له عين عما يجري في إقليم دارفور، بل كان له اليد الطولى في السماح للقوَّات الأجنبيَّة (الليبية والتشاديَّة) أن تعيث في أرض دارفور فساداً، وتعبث بأرواح المواطنين وأعراضهم وممتلكاتهم شديداً، وتخوض في التمرغ بالسيادة الوطنيَّة خوضاً كبيراً. أجل، فإنَّ الاستكثار في إعمال التدويل ذاك الذي طفق الصَّادق يحدِّثنا عنه مكثاراً وترداداً حين آل نظامه إلى السقوط، وتسلَّم سدَّة الحكم حلفاؤه الإسلامويُّون، هو ذاته من ابتدأه وابتدره. هكذا لا يختلف ما جرى في دارفور إبَّان حكومة السيِّد الصَّادق المهدي وحكومة الفريق أول عمر البشير، إلا بفرق مقدار الكميَّة، لكن الأيديولوجيَّة الإسلاموعروبيَّة واحدة، والنظرة العنصريَّة واحدة، والجهد المبذول في التهميش الممنهج واحد هو ذاته الذي مارسته الحكومات المسماة وطنيَّة منذ استقلال السُّودان العام 1956م إلى يومنا هذا، ومن سخريَّة القدر، والقدر يسخر كما يشاء، أنَّ الصَّادق المهدي ترأس حكومتين خلال الحقبة الوطنيَّة: في الفترة ما بين (1966-1967م)، وكذلك في الفترة ما بين (1986-1989م). والقدر هو ما يُستأنف، ما يعاد، وما يعود؛ وفي الإحالة إليه شعور بمجابهة قوَّة جبَّارة، وشعور بالغبن والمرارة. على أيَّة حال، ففي كل هذه السنوات ظلَّ السُّودان في صراعات مسلَّحة، حتى بلغت تكاليف هذه الصراعات في الفترة ما بين (1956-1991م) 500.000 قتلاً، وتشريد 4 مليون شخص، وبلغت التكلفة الماديَّة 20 مليار دولار أمريكي في ذلك الرَّدح من الزمان، كما جاء في دراسة قامت بها وحدة المعلومات بمركز ابن خلدون للدراسات الإنسانيَّة العام 1993م.
بقي لنا أن نقول إنَّه قد مرَّ السُّودان منذ أن نال استقلاله بتجارب مريرة، وتضاعفت المرارة حتى لحقت بالعقول والأفعال والتفكير والإرادة، فقضت على سمعة السُّودان، وهزَّت الثقة بين النفوس، وتفشَّى الظلم والحقد بألوانه المختلفة، فأصبح القادر يتجنَّى على المسكين، والقوي يظلم الضعيف، واللص يتطاول على الشريف؛ إذ يمثل الصراع في دارفور أحد هذه التجارب المريرة.