حظرالخطاب السياسي الدينى فى السودان : نحو الانتقال من وهم الخلافة الراشدة الى الدولة الرشيدة
بقلم✍️ عثمان نواى
من أهم أسباب اللجوء الى الدين كمادة ربط شبيهة “بالويكة التى تلم الملاح”، فى السياسة السودانية الحديثة قبل وبعد الاستقلال، هو التحدى الماثل فى ان السودانيين المسلمين وحتى الذين يعتقدون فى الانتماء العربى تفرقهم انتماءات قبلية متناحرة عبر فترات تاريخية طويلة منذ قيام دولة سنار التى لم تكن ابدا ناجحة كدولة مركزية وطنية، بل كانت مجرد تحالفات قبلية لا مركزية الحكم تعيش حالة من التناحر والانفراط المستمر. وعليه حين اتت التركية ومن بعدها المهدية واخيرا الاستعمار الانجليزي، تعاملت كل هذه القوى مع هذه المكونات القبلية على حالها ولم تبذل جهد فى صناعة دولة مركزية مدنية تخلخل التركيب القبلى وتنقل الدولة الى مرحلة المدنية التى بدورها توجِد حالة من المواطنية، وبالتأكيد ان ذلك سببه للاستعماريين الأتراك او الانجليز هو تقليل التكلفة فى الحكم وعدم الاستثمار في عمليه تحديث ممنهج للسودان والاكتفاء بادارة المجتمع بذات الهياكل التقليدية القبلية المفككة. لذلك القوى السودانية ما قبل الاستقلال فى اثناء ما يسمى بالحركة الوطنية واجهت أزمة هوية وأزمة ربط بين تلك المكونات المختلفة لذلك كان اللجوء الى عامل الدين امرا رئيسيا والعروبة بشكل أساسي أيضا، فى حالة بحث عن وسيلة لسد الفجوات بين مكونات السودانيين العرب المسلمين أنفسهم. ونجد ذلك جليا فى كتابات الخريجين فى صحفهم الأولى مثل حضارة السودان وكتابات المحجوب وغيرها حيث أن السيطرة للقبلية كان أحد التحديات التى كانوا يبحثون عن حل لها للانتقال لشكل من الوحدة السياسية الاجتماعية لتأسيس مشروع سياسى لدعم الاستقلال. وكانت المؤسسات الطائفية هى المظلة الاوسع من القبيلة والتى تمكنت من جمع مجموعات قبلية فى مناطق جغرافية واسعة. لذلك كان اللجوء الى هذه المظلات الدينية المنظمة لجمع اكبر عدد من الشتات القبلى ذاك.
لكن الأزمة الكبرى فى العلاقة بين الدين والسياسة فى السودان توضح من الجانب الآخر العجز الفكرى والكسل السياسي الذى مارسته النخب السياسية الحاكمة، فى عجزها عن تقديم اسس سياسية تجمع بها شتات السودانيين نحو إقامة دولة يتم إدارة مصالح الناس فيها بشكل عقلاني يؤدى الى تكسير البنى التقليدية وبناء دولة مدنية مواطنية حديثة. حيث ان خيار الرجوع الى الخلف والى الدين والقبيلة كان البنية الخاطئة الأولى في تشكيل الدولة السودانية المركزية الحديثة. حيث أصبحت الأفكار السياسية مرتبطة بالدين كخطاب حشد بدون اى خطاب منافس، سوى الخطاب الشيوعي الذى تم تصويره كمناهض للدين وبالتالى عدم الجدال معه كخطاب سياسي فى الأساس ووضعه فى دائرة المحرمات.
لكن الدور المهم للدين فى السياسة السودانية كوسيلة تجييش ، أصبح اكثر وضوحا فى الستينات بعد سقوط نظام عبود وظهور الحركة الإسلامية بخطاب الإسلام السياسي والاسلام هو الحل. ومع ازدياد تمكين الإسلاميين من عهد نميرى وصولا الى الإنقاذ، حينما أصبح الدين محور رئيس فى تحديد مصير السودان. وعلى أساس الخطاب الدينى، شنت الدولة عمليات الاسلمة والتعريب والجهاد ومن بعد ذلك وصلت الى مرحلة الانفصال، ثم الى الابادات الجماعية. لكن المؤكد هو ان تسييس الدين او تسييس الإسلام في السودان، هو أداة هيمنة على السلطة وليس توجه دينى للقوى المتمسكة بتديين الدولة السودانية. ولذلك فان الصراع الدامى حول هذا التديين المتعمد فى الصراع السياسي للوصول الى السلطة فى البلاد كانت نتائجه كارثية على الدين وعلى السياسة معا.
فنتيجة تديين واسلمة الدولة كانت بشكل مباشر هى العزل الكامل والتمييز ضد اعداد واسعة من المواطنين الذين ينتمون للدولة السودانية. حيث ان الجنوب الغير مسلم وغير عربى وجد نفسه خارج اطار الدولة ،ليس من ناحية المناصب السياسية بل من ناحية حقوق المواطنة وهذا هو جوهر القضية. ومن خلال ظلم الجنوبيين كمواطنين سودانيين فشلت كل محاولات اسلمتهم بالقوة، وفى النهاية خسرت السياسة بالحرب والانفصال لثلث السودان، وخسر الدين بعدم قبول الجنوبيين له محمولا على فوهات مدافع المجاهدين وسياط جلادين النظام العام . و فى غرب السودان ابتداءا من جبال النوبة التى فيها مسلمين وغير مسلمين وصولا الى دارفور المسلمة ، كان الإسلام ذو الطابع الأفريقي بشكل اكبر وعدم الانتماء للعروبة عرقا ولغة سببا فى التمييز أيضا. ولقد كانت الاسلمة القسرية على الطابع العربى هى جزء من عملية القهر المنهجية من قبل الدولة. ومن المهم هنا الإشارة الى ان التعريب قد تم من خلال مبررات ومسوقات دينية أيضا، بحجة ارتباط العربية بالاسلام لغةً، وفى توهم البعض عرقاً أيضا. لذلك فإن أزمة امتطاء الدين فى السودان كحصان طروادة للوصول إلى السلطة هو آفة حقيقية في تركيب الفكر السياسي السودانى وافشال الدولة السودانية منذ الاستقلال.
ولكى يتم تفكيك الارتباط التاريخي بين الدين والسياسة فى السودان والذى يعود بالطبع الى دولة سنار وبعدها الى المهدية بشكل اكبر مرورا بكل فترات الحكم الديمقراطي والعسكرى وصولا الى الكيزان ،يجب ان ندرك هذا التأثير الجدلى بين البحث عن وسيلة حشد سياسي سهل ورخيص، وبين الحاجة الحقيقية الى إيجاد خطاب سياسي يوجه الدولة ويوحد الشعب على تنوعه فى اتجاه تحقيق النمو والتطور كمصالح مشتركة عليا لكل من يقطن أرض السودان. وعليه فإن تقييد بل وحظر الخطاب الدينى فى السياسة السودانية فى المرحلة المقبلة هو ضرورة جوهرية. وفى المقابل فإن تقديم خطاب سياسي يتجه مباشرة نحو أهداف الدولة فى تحقيق المساواة والعدالة والتنمية واحترام القانون والتنوع الفكرى والاثنى والدينى وحماية حدود الوطن،هذا الخطاب هو الذى يجب ان يسود فى المرحلة المقبلة وان يتم صياغته ليس بناءا على الأحلام، ولكن بناءا على الخسائر الفادحة من الخطاب الدينى فى السياسة السودانية ومالات هذا الخطاب التى ادت فعليا لأنهيار الدولة.
حيث انه حان الوقت للسودانيين الاختيار بين الدولة وبين الخلافة لان الدين لا يحكم الدول ولكنه يحكم الضمائر الفردية للناس. ولذلك فإن الخطاب السياسي الذى يدير مصالح الناس الدنيوية ويعين الدولة على تحقيق إجماع بين المواطنين والقيام بدورها فى تحقيق العيش الكريم والمساواة امام القانون، هذا الخطاب السياسي لا يحتاج الى الدين بل الى العقل والتجربة والمعرفة بالبلاد والعالم حاضرا وماضي، حتى يتم رسم خطى عملية نحو مستقبل مزدهر. فالدولة التى لا تستطيع تخليص مواطنيها من الجوع الكافر ومن الظلم فى الدنيا ، اى خلاص تقدمه لهم نحو الآخرة سوى ارسالهم الى الموت سريعا عبر القتل جوعا او ظلما؟ وهذا ما وصلت اليه الإنقاذ، الا وهو تخليص السودانيين من الحياة نفسها عبر قتل شعب كامل بكل أشكال الإبادة الممكنة. ولذلك فإن هذا الخطاب الدينى هو نفسه الذى استخدمته المهدية قبل قرن واهلك خلال حكمهم السئ ثلثي سكان السودان، والان الحكم الدينى للكيزان يقوم بنفس الشئ. وعليه فإن إنهاء اى ممارسة للخطاب الدينى فى السياسة السودانية هو اللبنة الأساسية لبناء السودان على أسس صحيحة، و الانتقال من أوهام الخلافة الى رحاب صناعة الدولة الحديثة وذلك بعد الفشل الكامل لكل محاولات إقامة الخلافة الراشدة، فقد حان الوقت الان اخيرا لاقامة الدولة الرشيدة .
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.