
حرب الكلور : هواء السودان في قبضة القتلة.
✍️🏽 بقلم عمار نجم الدين
في بلدٍ يُفترض أنه خرج من حقبة الحرب حسب ادعاء حكومه ، اختار حكامه الجدد في بورتسودان ألا يجعلوا الآخرين يتنفسوا إلا غاز الكلور، ولا يحكموا إلا عبر أدوات الإبادة القديمة ذاتها. فمن دارفور إلى جبال النوبة، ومن النيل الأزرق إلى الخرطوم، ظل الغاز في السودان أداة سلطة لا تعترف بالاختلاف، وسلاح دولة تعتبر التنوع خيانة.
منذ ثمانينات القرن الماضي، حين بدأت النخبة المركزية تتعامل مع الحرب كأداة تطهير، وُثقت حالات اختناق جماعي ودخان غريب يسبق القصف، ومركّبات حارقة تتسلل من السماء بلا اسم، ثم تختفي تحت رماد الصمت. في كاودا، ديم منصور الكرمة كبكابية، تلس، الطويشة، وفي قرى الزغاوة والمساليت، كان القصف لا يقتل فقط، بل يخنق، يختبر التحمل البيولوجي لسكان لا يشبهون الحكام في الخرطوم .
ثم جاء عام 2024، لتعود الإبادة ولكن باسم “الشرعية”. القوات التي تقاتل تحت راية بورتسودان لم تستهدف الدعم السريع وحده، بل كل من يُشتبه في انتمائه للهامش. وفي شهادة نادرة ومرعبة، قال إسماعيل شريف، الأمريكي من أصل سوداني، والمقاتل في القوات المشتركة، إنه استنشق غازًا غريبًا داخل منزل القيادي إبراهيم بقال، “دخان لا يشبه، غريب جدا ”، أعقبه حريق ضخم مروّع في الطابق السفلي.
الغاز لم يُطلق من السماء، بل من أنبوب داخل منزل. لم يكن قصفًا، بل عملية تصفية بهدوء. الضحية كان يقاتل إلى جانب الجيش، لكن ذلك لم يشفع له… لأنه من دارفور.
وراء هذا الهجوم تقف مليشيا البراء بن مالك، الذراع الطائفية العائدة، بتمويل وتنسيق كامل من جيش الدولة. الهدف لم يكن عسكريًا، بل عرقيًا. الرسالة كانت واضحة: حتى ولاؤك لا يحميك إن كنت من غير أهل المركز.
وفي تطور دولي لافت، أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية في 22 مايو 2025 فرض عقوبات جديدة على السودان بعد تأكيد استخدام الحكومة السودانية لأسلحة كيميائية في عام 2024 خلال النزاع مع قوات الدعم السريع. تشمل هذه العقوبات قيودًا على الصادرات الأمريكية وخطوط الائتمان الحكومية، ومن المتوقع أن تدخل حيز التنفيذ في 6 يونيو 2025، بعد فترة إخطار مدتها 15 يومًا للكونغرس.
ما حدث في منزل إبراهيم بقال ليس حادثة، بل عقيدة. ليس شذوذًا، بل سياسة. هذه ليست حكومة انتقال، بل مختبر إبادة مُعاد فتحه، وهذه ليست دولة، بل مؤسسة قتل مُمأسسة تتنفس السمّ وتسكب الهواء على الجغرافيا الانتقائية.
البرهان لا يحتاج بعد اليوم إلى مؤتمرات للسلام تعقد في جدة او ( جَدادة )، بل إلى مذكرة توقيف دولية ، وإلى لائحة جرائم تتلوها الأمهات على قبور أبنائهن. لأن الغاز لن يختفي من ذاكرة دارفور وجبال النوبة و النيل الأزرق و جنوب السودان ، وسيظل كل هواء يُستنشق في السودان، محمولًا بشكّ: هل هذا الأوكسجين… أم جزء من سياسة؟
السودان لا يختنق بفعل الحرب فقط، بل اختنق لأن القتلة ما زالوا يتنفسون بحرية.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.