جيل الاستقلال.. البدايات والمآلات (8 من 10)
الدكتور عمر مصطفى شركيان [email protected]
ومن بعد دعنا نقفز إلى النظام المايوي الذي جثم على البلاد في الفترة ما بين (1969-1985م). فمنذ إعلان المشير جعفر محمد نميري العمل بقوانين الشريعة الإسلاميَّة في أيلول (سبتمبر) 1983م، التي كانت عبارة عن مِزاج بين قوانين أمن الدولة والحدود، تعرَّض السُّودانيُّون، وبخاصة الفقراء والمساكين والمهمَّشين منهم، إلى قهر تطبيق الحدود، ووجد العشرات منهم ولأوَّل مرة في تاريخ السُّودان المعاصر أنفسهم وقد فقدوا أطرافهم من يدٍ وأرجلٍ، بينما أضحى إذلال الجلد أمراً مألوفاً لا يثير إحساس كثرٍ من النَّاس. ومن بين مَنْ تعرَّض لبشاعة تنكيل الحدود، حيث بُتِرت أطرافهم من خلاف بسبب هذه القوانين وتطبيقاتها فيما أسموه العدالة الناجزة، إبراهيم عثمان باب الله، وإبراهيم سلاطين قمر. لم يسأل القائمون على أمر هذه القوانين لِمَ يسرق المرء أو يضطر إلى ارتكاب جريمة قد تودِّي به إلى هذا المهلك في عام ذي مسغبة، حيث ضربت المجاعة السُّودان يومئذٍ؟ أفلم يسمع حكَّام ذلك الحين من الزمان بما صار يُعرف في التاريخ الإسلامي بعام الرمادة الذي أتى فيه الجدب على الحرث والنسل، وامتحن فيه النَّاس بالجوع، وامتحن النظام بشعبه! إنَّ قضاة المسلمين القدماء لو أُخرِجوا من قبورهم يوفضون، أي يسرعون، ونُشروا في تلك الأيَّام النميريَّة لكانوا قد أنكروا من نظام المحاكم الشرعيَّة حينئذٍ في شيء من النكران عظيم.
سُئل الفيلسوف الفرنسي جان-جاك روسو (1712-1778م) ما هو الوطن؟ فأجاب: الوطن هو المكان الذي لا يبلغ فيه المواطن من الثراء ما يجعله قادراً على شراء مواطن آخر، ولا يبلغ فيه مواطن من الفقر ما يجعله مضطرَّاً إلى أن يبيع نفسه أو كرامته. الوطن هو رغيف الخبز والسقف والشعور بالانتماء، والدفء والإحساس بالكرامة.. ليس الوطن أرضاً فقط، ولكنه الأرض والحق معاً.. فإن كانت الأرض معهم فليكن الحق معنا، الوطن هو حيث يكون المرء في خير. لا سبيل إلى الشك في أنَّ “ممارسة السيادة في الداخل لا تتوقف فقط عند حق الدولة في بسط السلطة الأميريَّة على الرقعة الوطنيَّة في الأرض والبحر والجو، بل يصحبها واجب مقابل، إذ تحتم مبادئ فقه القانون أن يكون قبالة كل حق واجب. ذلك الواجب يشمل العناية والارتقاء بأهل البلاد، وكفالة أمنهم، وتوقير كرامتهم، وضمان حقوقهم التي حدَّدتها العهود الدوليَّة والإقليميَّة للشعوب والمواطنين.”
مع كثرة ضحايا النظام المايوي كان الأستاذ الشهيد محمود محمد طه هو الضحية الأشهر في محاكم الطوارئ النميريَّة. ذلكم الرجل السبعيني الذي لم يحمل سيفاً ضد الحاكم، ولم يشهر سلاحاً ضده، ثمَّ لم يخض حرباً ضد الدولة، بل كل ما كان يملكه هو القرطاس والقلم، وغاية ما قاله – أو بالأحرى لنقل ما أصدره هو المنشور الموسوم “هذا أو الطوفان” – حيث قال فيه قولاً ليِّناً لسلطان جائر عسى أن يحكِّم عقله ويقدِّر الأمور ويتدبَّر، ولكن أبت نفسه إلا أن يتحوَّل إلى غول كاسر شرع في فرض سلطانه على المجتمع عن طريق القهر والإذلال، بدلاً من القدوة والإقناع. ففي مقابلة صحافيَّة مع الرقيب أوَّل عبد اللطيف سعد علي الذي أوكل إليه أمر حراسة الشهيد محمود محمد طه في سجن كوبر منذ عصر السابع عشر من كانون الثاني (يناير) 1985م وحتى لحظة تنفيذ حكم الإعدام في الساعة العاشرة من صباح الجمعة 18 كانون الثاني (يناير)، قال إنَّ زولهم ثابتاً ظلَّ ثم شجاعاً “ما فيه حبة خوف من الموت، يرد الكلمة بكلمة، يقول كلامو بصوت واضح، وكلام قوي (…) ده زول عارف بسوي في شنو، أنا ما حصل لاقيت زول زي دا، ده سجين ما عادي، المساجين العاديين المحكوم عليهم بالإعدام نحن نعرفهم، كل النَّاس بتبطبط، إلا دا ثابت ناشف عود.”
سخط الرئيس نميري على الأستاذ محمود، وأمر زبانيته باتِّهامه أمام القضاء؛ فلما طُلب إليه أن يدافع عن نفسه قال لقضاته ما قال. فكلنا يعلم أنَّه عندما قُدِّم الأستاذ محمود إلى القضاء لم يدافع عن نفسه إلا كارهاً، إنِّما دافع عن نفسه ليسخر من الذين حاكموه أيضاً، وما زال يتحدَّى قضاته حتى قضوا عليه بالموت. فلما صدر الحكم عليه لم يرتعب، ولم يظهر احتراماً لهذا الحكم، ولا رضا عنه؛ فقد هيئت له سبيل القرار بحياته ونفسه، وقد رأى التنازل عن مبادئه جبناً، وانتظار الموت شجاعة، ورأى الإذعان إلى قوانين الطاغية ضعفاً، فانتظر الموت صنديداً، وجعل الموت يسعى إليه متثاقلاً متباطئاً، حتى زاره الموت فاشتمل عليه. هذا ما كان من أمر شهيد الفكر الأستاذ محمود محمد طه وسيرته حين حوكم وبعد أن قضى عليه تصوُّر المثل الأعلى في الشجاعة والثبات والاعتداد بحريَّة الرأي، وهو ذلكم العملاق الذي هدَّد بكلماته القويَّة ومواقفه العميقة عرش الحاكم، وإعجاب السجَّان بالسجين، وذلك كما حدث في فترات سابقة في تاريخ العالم الإسلامي. وتلكم هي الحكومة التي استطاعت أن تزعم أنَّها تقوم على الدِّين، أو أنَّها تقوم على حماية الدِّين، ناسية أنَّه تبارك وتعالي قد قال في محكم تنزيله ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ (الحجر: 15/9).
هذا الأمر كله يتعلَّق بغياب مفهوم التسامح. إذ ظلَّ مشكل التسامح يشكِّل هاجساً مستعظماً لدي كثرٍ من الفلاسفة منذ أمدٍ بعيد. فقد كان نيكولا دو كوز قد تعرَّض لمشكل التسامح بطريقة توضيحيَّة في مؤلِّفه “سلام الإيمان”، وعبَّر توماس مور في كتابه “يوتوبيا” العام 1516م عن أهميَّة تلك الفضيلة، وكتب جون لوك في نهاية القرن السابع عشر رسائله حول التسامح، وأعاد فهرسة العديد من النصوص من القرن السابق، مثل كتاب بيك دو لا ميراندول “الخلاصات”، وتفحَّص ذلك المشكل الشائك. وتوافق الكتَّاب كافة في ذلك العصر على أن يعثروا في الكتب المقدَّسة على ملاحظات عديدة في مصلحة التسامح، تعارض الإرغام في قضيَّة الإيمان.
شأن الأستاذ محمود محمد طه كشأن آن دوبورغ الذي كان أستاذاً في جامعة أورليان ومستشاراً في برلمان باريس، ثم بروتستانتيَّاً كان، وقد ملك الجرأة لأن يندِّد في حضرة الملك هنري الثاني بعمليَّات القمع ضد البروتستانت، حنى شُنِق وأُحرِق العام 1559م. أما في أمر شجاعة الأستاذ محمود فقد قرأنا عن تلك البسالة النادرة عند إعدام الملك الإنجليزي تشارلز الأوَّل إبَّان الحرب الأهليَّة الإنجليزيَّة (1642-1651م)، والتي قاد تمرُّدها أوليفر كرومويل. فبرغم من أنَّ تشارلز كان قد أُدين بتهم الطغيان والخيانة والقتل والعداء للشعب، ثمَّ اتُّهم بأنَّه أدخل المملكة في أتون الحرب الأهليَّة، إلا أنَّه واجه مصيره المحتوم بشجاعة لا مثيل لها. ففي صوت خافت وهادئ يكاد لا يسمعه أحدٌ إلا القلة القليلة من الجماهير المحتشدة حوله، قال تشارلز إنَّه عفا عن قاتليه، وإنَّه ليسمِّي نفسه شهيد الشعب.
على أيٍّ، لم يدر بخلد حكام السُّودان السابقين والآخرين بأنَّ في صوغ القوانين والدساتير على ما تشتهيهم أنفسهم، وتمليه عليهم رغائبهم الذاتية، وتحبِّب إليهم أهوائهم الثقافيَّة، قد لا تحقق الدولة المثلى التي يتطلع إليها الشعب السُّوداني في غياب الأخلاق والضمير الإنساني. هكذا استقطعت ليندا كولي من وقتها لتخرج للنَّاس كتابها الموسوم “البندقيَّة والسفينة والقلم” العام 2021م، الذي نظرت فيه إلى تأسيس الدولة-الأمة (Nation-making)، وكيف أنَّ موضة كتابة الدساتير منذ القرن الثامن عشر الميلادي حتى الآن لم تثن الأمم عن خوض الحروب ضد بعضها بعضاً، أو تساهم في تحقيق كثرٍ من الأهداف التي من أجلها وضعها صائغوها. إزاء هذا المبدأ لم تفلح قوانين نميري في تخويف معارضي النظام، بل ذهب بعضهم شهداء له (الأستاذ محمود محمد طه مثالاً)، ولم توقف الحرب الأهليَّة في جنوب السُّودان، بل زادتها وقوداً، مع ازدياد وتيرة الاستقطاب الإثني والدِّيني.
للمقال بقيَّة،،،