جيل الاستقلال.. البدايات والمآلات (6 من 10)

الدكتور عمر مصطفى شركيان [email protected]

فبرغم مما قدَّمت هذه المدارس من قادة السُّودان من رؤساء ووزراء وسفراء وأدباء وشعراء، إلا أنَّ الذين تولوا منهم مقود دست الحكم لم يحسنوا صنعاً. فقد درج هؤلاء السياسيُّون في نقاشاتهم لا على الاعتماد على الحوار البناء مع بعضهم بعضاً أو غيرهم في سبيل حل مشكلات البلاد المصيريَّة، بل على الجدل الذي لم يكن يغني من الأمر شيئاً. لعلَّ هناك ثمة فرقاً بين الحوار الهادف والجدل العقيم. فالحوار هو تراجع في الكلام، والجدل والحوار يلتقيان في أنَّهما حديث أو مناقشة بين طرفين، لكنهما يفترقان بعد ذلك، ولكن في إطار التخاصم بالكلام. غير أنَّ الجدل والمجادلة والجدال فكلاهم ينحى منحى الخصومة، أو بمعنى العناد والتمسُّك بالرأي والتعصُّب له. أما الحوار والمحاورة فهي مراجعة الكلام بين طرفين دون أن يكون بينهما ما يدلُّ بالضرورة على الخصومة. وتعريف الجدال اصطلاحاً هو دفع المرء خصمه عن إفساد قوله بحجة أو شبهة، أو يقصد به تصحيح كلامه، وهو الخصومة. إذاً، ساسة السُّودان الأوائل، أو ما سمَّيناهم الآباء المؤسِّسين للدولة الوطنيَّة، كانوا ممن اعترفوا المجادلة العقيمة. فلتجدنَّهم يشتورون في المجالس والمؤتمرات والقاعات الفارهة، ويديرون الرأي، فلا تنصرم لهم عزيمة، ولا تبرم بأيديهم مِرَّة، فذلك مثل من يروم النُّهوض إلى مظان الأمن، ولا يجد سبيلاً إلى ذلك، وآية حصادهم هي الفشل الذي يعيش فيه أهل السُّودان اليوم.
ففي احتفال مدرسة حنتوب باليوبيل الفضي (العيد الخامس والعشرين) العام 1971م، اعتلى المنصة الدكتور حسب الرسول سليمان رستم (حسبو سليمان)، وهو الذي كان يومذاك كبير استشاريي الطب النفسي، ثمَّ هو من خريجي الدفعة 1946م، وألقى قصيدة وصف فيها حنتوب بأنَّها المدرسة التي صنعت العظماء. ومن هنا يمكن أن نتوقف لحظة عند عبارة “العظماء”، التي وضعناها بين معكوفتين. فما الذي حقَّقه هؤلاء الخريجون في القضايا الوطنيَّة الكبرى، وفي سبيل حل المشكلات السياسيَّة التي أطبقت على البلاد حتى يُوصفوا ب”العظماء”؟ فهناك الانقلابي الذي انقلب على نظام ديمقراطي، وأساء الحكم بتطبيق الشموليَّة، ثمَّ أغرق البلاد في الدماء في محاولة دؤوب لفرض الوحدة الوطنيَّة بالقوَّة العسكريَّة (العقيد جعفر محمد نميري والدكتور حسن عبد الله الترابي)، وهناك من حاول الاستيلاء على السلطة بالاستعانة بالعسكر المؤدلج فأخفق، وكانت النتائج كارثيَّة ودمويَّة (عبد الله الطاهر بكر ومحمد إبراهيم نقد). كما أنَّ بعضاً ممن تخرَّج في مدرسة حنتوب لم نسمع به، ولم يكن له دور في الحياة العامة في السُّودان، بل بات نسياً منسيَّاً، لذلك لا يمكن أن يتم التعميم القائل بأنَّ مدرسة حنتوب قد صنعت العظماء. فما بال المدارس السُّودانيَّة الأخرى! أولم تخرِّج رجالاً ونساءً كان لهم شأو عظيم في الحياة العامة في البلاد بحسناتهم وسوءاتهم!
ذهب بعض المحلِّلين السياسيين قولاً بأنَّ المنهج الدراسي الذي انتهجه الاستعمار البريطاني-المصري في السُّودان (1898-1956م)، وتتلمذ عليه هؤلاء الخريجون الأوائل، كان يهدف في المقام الأوَّل إلى استنساخ كتبة يعملون في الخدمة المدنيَّة، التي لم تكن فرصها متوفِّرة إلا في المدن الكبيرة. لذلك ارتبط هؤلاء الخريجون بالعاصمة وبعض مدن السُّودان، مما جعلهم يلبثون فيه أحقاباً بعيداً عن الرِّيف السُّوداني وأهله ومصالحهم المعيشيَّة والخدميَّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة. وما أن تشرَّبوا بالأيديولوجيَّات العروبيَّة والإسلامويَّة (القوميَّة العربيَّة والبعث العربي والناصريَّة والحركة الإسلاميَّة)، حتى نمت لديهم النظرة الاستعلائيَّة التي تكاد لا تخلو من الاحتقار والعنصريَّة لإنسان الرِّيف، وشرعوا يصفونهم بالبدائيَّة والجهل والوثنيَّة، وفي أسوأ النعوت بالعبيد. لعلَّ ربما كان هذا من نتائج التعليم الانتقائي (Selective education) الذي قامت بنشره السلطات البريطانيَّة الاستعماريَّة في السُّودان، وغالباً في مستعمراتها الأخرى.
كان الإداري البريطاني روبن كايرو جاريت (1899-1974م) قد قام قبيل تقاعده عن العمل مديراً لمصلحة المخازن والمهمَّات العام 1949م بكتابة تاريخ كرة القدم في السُّودان منذ أوَّل ظهور لها العام 1907م. وفي سرده لذلك التاريخ (في 260 صفحة) حكى جاريت عن حادثة وقعت العام 1928م، مفادها أنَّه كانت تُقام سنويَّاً مباريات بين فرق المصالح الحكوميَّة المختلفة. وفي ذلك العام رفض لاعبو إحدى الفرق (وكان مكوَّناً من خريجي كليَّة غوردون – جامعة الخرطوم حاليَّاً) اللَّعب ضد فرق المصالح التي يتكوَّن أفرادها من طبقة اجتماعيَّة متدنِّية، وشمل هؤلاء رجال الشرطة، وجنود قوَّة دفاع السُّودان (نواة القوَّات المسلَّحة حاليَّاً)، والصنايعيَّة، وعمال الأجرة. وكان الكثير من هؤلاء العمال من “السُّود” (Blacks)؛ إذ أنَّهم كانوا هم المجموعة التي تمَّ تجنيدهم بكثرة في الجيش والشرطة والمهن الفنيَّة واليدويَّة. وكتب جاريت “كانت تلك بداية سيئة، إذ أنَّها أثَّرت على العاملين في مصالح الأشغال العامة، والمخازن والمهمَّات، والسكة حديد، والبواخر، وشركة النُّور والكهرباء. وبما أنَّ فريق مصلحة الأشغال العامة (الذي يلعب فيه 8 من الصنايعيَّة هو الفريق الذي كان قد حاز على الكأس (100)، فيبدو أنَّه ليس هناك من حل لتلك المشكلة (101). وبعد سنة من ذلك تغلَّب المتعلِّمون الشماليُّون على نفورهم واشمئزازهم، ولعبوا ضد “السُّود” الذين كانوا يعدونهم أقلَّ مرتبة اجتماعيَّة منهم.” التعليم مثله كمثل أي شيء أخر له فعاليَّة، وإنَّه ليحتمل الخير والشر، ثمَّ إنَّه ليجلب الحكمة والصبر والكياسة والثقافة والمعرفة والعلوم للبشريَّة، ولكنه في الآن نفسه يجلب في بعض الأحايين الفخر وعدم تحمُّل الآخر، والخداع وضيق الصبر والأنانيّة. فالتعليم ينبغي أن يُؤسَّس على الأخلاق وخدمة النَّاس، لا من أجل الرَّغبة في الحصول على المال والسلطة.
مهما يكن من شأن، ففي يوم 19 كانون الأوَّل (ديسمبر) 1955م عقد مجلس النواب جلسة أعلن فيها الاستقلال، وكانت مداخلة زعيم الأغلبيَّة آنذاك مبارك زروق: “إنَّ السُّودان إذ يقرِّر مصيره كوحدة مكتملة إنَّما يريد من كل أبنائه أن يقتسموا خيره، وأن يشتركوا في الحقوق والواجبات؛ الأمر الذي لا يتعارض مع خلق نظام لا مركزي بتدعيم الحكومة المحليَّة، وخلق المجالس، ورفع مستواها، والسير بهم في الطريق الديمقراطي الصحيح.” برغم من هذا الخطاب الاستهلالي في سبيل الاستقلال، إلا أنَّ السُّودان في ذلك الزمان قد افتقد قيادة رشيدة قادرة على إرساء دعائم الوحدة الوطنيَّة، وتعزيز عوامل الانتماء القومي لتراب هذا الوطن، وما مشكل وعود الفيدراليَّة كأساس للوحدة إلا واحداً من هذه العوامل التي لم تجد سبيلها إلى الوفاق الوطني. وقد دار لغط كثير حول هذا الشأن في الأدب السياسي حينذاك، ومن بعد تبعه وعد كذوب لم يكد يفضي إلى شيء. فقد أنشد إسماعيل بن القاسم بن سويد العنزي (المكنى أبو العتاهية) في أمر الوعود بأنَّ بعضها كالسحاب قوي الرعود، لكنه شحيح المطر، غير أنَّ وعد الفيديراليَّة في السُّودان لم يسقط وابلاً ولا طلاً، والوابل هو المطر الغزير، أما الطل فهو المطر الخفيف ذي الأثر القليل:
وبعض الوعود كبعض الغيوم قوي الرعود شحيح المطر
وفي أمر الفيديراليَّة وغيرها من القضايا الجوهريَّة استكثر أولئك وهؤلاء في الجدال الضال، كما أشرنا آنفاً، وذلك حين أباح لهم الزيغ، أو الميل عن الاستقامة والحق، الرُّوح الجدليَّة التي سادت، حتى خان ذلك الجيل قضيَّة الوطن، وأورث في النَّاس الاضطراب، ومن ثمَّ أودع الشعب السُّوداني مواضع الهلاك. وفي هذا الصدد نتمثَّل بشعر البروفيسور الراحل عبد الله الطيِّب حين أنشد قصيدته المعنونة “تصرَّمت السنون” العام 1977م. إذ لم يتعمَّد إلى التقميش، بل كان أشدَّ عنفواناً فكريَّاً وأدبيَّاً في تقصيد هذه القصيدة العابقة بالمرارة والغضب، حتى منذ عنوانها المقابري الجنائزي الكئيب “تصرَّمت السنون”، أي انقضت. ومن هنا تظهر جلالة الشعر في قلب المعركة الوطنيَّة. إذ أنشد البروفيسور الطيِّب – فيما أنشد:
وقد صِرْنا نجادل في ضلالٍ أباح الزَّيغُ فيه لنا الجدالا
وخان قضيَّة الأوطان جــيلٌ جديد صار يبغينا خــبالا
الجدير بالذكر أنَّ البروفيسور عبد الله الطيب هو الذي كان قد جايل ذلكم الجيل زمنيَّاً؛ أفلم يقل هيغل “كل إمرئ ابن زمانه!” وقبيل أن يختتم قصيدته إيَّاها مضى ينشد:
فلو درى القوم بالسُّودان أين هم من الشعوب قضوا حزناً وإشفاقا
جهلٌ وفقر وأحزاب تعـــــبث به هدَّت فوق الصبر إرعاداً وإبراقا
إنَّ التحزُّب سُمِّ فأجـــــــعلوا أبداً يا قوم منكم لهذا السُمَّ تـــــــرياقا

للمقال بقيَّة،،،

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.