جنوب السُّودان.. ماضيه وصيرورته (19 من 21)
الدكتور عمر مصطفى شركيان
[email protected]
أفلم يكن من الأجدر على أهل العقد والحل في السُّودان أن يعتبروا بتواريخ الأمم التي خلت! خذ بلداً كإنجلترا في القرن السابع عشر، حيث يُعد أوليفر كرومويل (1599-1658م) أول العوام الذي أصبح رأس الدولة في إنجلترا، وهو الذي قتل الملك الغشيم ثم بات جنرالاً ناجحاً. ومع ذلك كان كرومويل يتحدَّر من أصول ويلزيَّة ريفيَّة، ومن أسرة وضيعة كانت تملك أرضاً، لكنها في الطبقة الدنيا من المجتمع في هونتينغدون عصرئذٍ، وكاد كرومويل أن يكون نسياً منسيَّاً. إذ لم تمنعه أصوله غير الإنجليزيَّة أن يكون قائداً أعلى للجيش البرلماني في البلاد، وقد ارتضى به الإنجليز البرلمانيُّون المتمرِّدون الذين ظلوا يحاربون تحت رايته ضد ملكهم في الحرب الأهليَّة الإنجليزيَّة (1642-1651م).
إذ تجدر الإشارة هنا بأنَّ الملك تشارلز الأوَّل ظلَّ يحكم البلاد دون استدعاء البرلمان منذ العام 1629م، وقد نفَّذ مخطَّطات كبير أساقفة كانتربري ويليام لود، التي قضت بعودة كنيسة إنجلترا إلى عهد ما قبل الإصلاح الكنسي، أي عصر الأصول الطقسيَّة، حيث تزوَّج تشارلز البروتستانتي بامرأة كاثوليكيَّة هي هنريتا-ماريا. وفي العام 1637م حاول الملك تشارلز أن يُجبر الإسكوتلنديين، وهم من الطائفة المشيخيَّة، على الخدمة الإنجليزيَّة الجديدة، مما أدَّى إلى تمرُّد الإسكوتلنديين. إذ كان الملك في ذلك الرَّدح من الزمان يمر بظروف اقتصاديَّة قاهرة، وكان في أمس الحاجة إلى المال، ومن ثمَّ استدعى البرلمان العام 1640م، ودخل كرومويل البرلمان ممثلاً لدائرة كمبردج. بيد أنَّ كرمويل كان قد انتخب عضواً برلمانيَّاً أوَّل مرَّة العام 1628م ممثلاً لدائرة هونتينغدون، وألقى خطبة واحدة قبل أن يبسط الملك تشارلز حكمه الشخصي في البلاد، ويثير غضب كثرٍ من مواطنيها. وحين نشبت الحرب الأهليَّة الإنجليزيَّة العام 1642م كان كرومويل في الأربعينيَّات من العمر، ودون أن يكون لديه أيَّة خبرات عسكريَّة.
وفي كانون الثاني (يناير) 1643م قاد كرومويل فوجاً من الخيالة في القيادة الجديدة التي تمَّ إنشاؤها باسم التجمُّع الشرقي، وخاض أول معركة حقيقيَّة في أيار (مايو) في بيلتون بمقاطعة لينكولنشير، حيث انتصر في هذه المعركة، وأبلى بلاءً حسناً. وحين تمَّ تعديل التجمُّع الشرقي ووضعه تحت قيادة إيرل مانشستر، ركَّز كرومويل جهوده على صد هجمات الجيوش الملكيَّة في الأراضي الوسطى وفي شمال البلاد. وفي 2 تموز (يوليو) 1644م قاد كرومويل 5.000 رجلاً في معركة مرستون مور؛ إذ احتشد في أرض القتال حوالي 40.000 رجلاً، وهي المعركة التي تعتبر أكبر المعارك في التاريخ الإنجليزي. وقد جاءت هزيمة القوَّات الملكيَّة نسبة لتفوُّق القوَّات البرلمانيَّة تعداداً. غير أنَّ محاولات إنهاء قوَّات الملك تعثَّرت بشكل ما. إذ تآمر كرومويل مع رفيقه في السِّلاح الجنرال ويليام وولر في البرلمان ضد الخامل مانشستر، الذي لم يكن يتصوَّر ذلك الخبث السياسي. ففي تلك الأثناء تمَّ تشريع قانون الحظر الذاتي (Self-denying Ordinance)، الذي يحظر كل أعضاء البرلمان الذين يحملون الرتب العسكريَّة من تقلُّد الوظائف البرلمانيَّة، وتمَّ المصادقة عليه في نيسان (أبريل) 1645م. هذا القانون، الذي بموجبه أنهى سيرة ومشاجرات الجنرالات في البرلمان، قد تمَّ إيداعه في البرلمان بتواطؤ من كرومويل، وهو الذي كان سياسيَّاً حاذقاً.
على أيٍّ، فقد أصبح توماس فيرفاكس القائد الأعلى للجيش النموذجي الجديد بعد الإصلاحات العسكريَّة، وكان من المتوقع أن يعود كرومويل إلى الحياة المدنيَّة، لكن قائد القوَّات الملكيَّة الأمير روبرت لم يزل يثير مشكلات أمنيَّة في البلاد. ومن هنا استدعت الضرورة الملحَّة، وتمَّ إرسال كرومويل للتعامل مع الأزمة في الأراضي الوسطى، والتقى الجمعان في قرية نيزبي بمقاطعة نورثهامبتونشير في 14 حزيران (يونيو) 1645م. هكذا اكتملت مسيرة كرومويل من شخصيَّة ريفيَّة بالكاد لا يُعرف عنها شيئاً إلى رمزٍ وطني، لكن ظلَّت الانقسامات حاضرة داخل البرلمان، والأسئلة الملحَّة ما زالت تُطرح: ماذا نفعل بالملك؟ والانقسام بين الطائفة المشيخانيَّة، التي كانت تفضل الحل الدِّيني البسيط مثلما كان الأمر قائماً في أسكوتلندا من ناحية، والمستقلين من ناحية أخرى من أمثال كرومويل وغالبيَّة أعضاء الجيش النموذجي الجديد، الذين ارتأوا في الأمر المثاليَّة الرحيبة الكبرى. لكن التساؤل الذي يتبادر إلى ذهن كل مراقب سياسي هو ما هي الأسباب التي تؤدِّي إلى نشوب الحروب الأهليَّة؟
للمقال بقيَّة،،،