جنوب السُّودان.. ماضيه وصيرورته (18 من 21)
الدكتور عمر مصطفى شركيان
[email protected]
مهما يكن من شيء، ففي جدال لازب مع أحد صحابي الذي أخذ يجادل بعنجهيَّة موغلة في حميَّة الجاهليَّة بأنَّ الدكتور جون قرنق لا يحق له أن يحكم السُّودان، وحينما سألته لِمَ؟ أفليس هو مواطن سوداني له كل الحقوق المكفولة له بحكم الدستور؟ شرع يراوغ شيئاً فشيئاً، وحين أطبقت عليه من كل صوب، ولم يجد بدَّاً للمراوغة أكثر مما أنفق من الوقت، قال كلمة يعف اللسان عن ذكرها في هذه الصفحات، واختلفنا الاختلاف غير المؤدِّي إلى الفرقة، وذلك لأنَّ الاختلاف المؤدِّي إلى الفرقة يبعث العداوة والبغضاء بين النَّاس. لعلَّ ما ذهب إليه صديقنا هو الغلو، والغلو طريق إلى التطرُّف الفكري والاعتقادي، والفهم الخاطئ يدفع الإنسان إلى فرض ما يعتقده ويؤمن به بالقوَّة اللفظيَّة أو الماديَّة إذا كان له إليهما من سبيل. كان الدكتور قرنق يتمتَّع بشخصيَّة حاسمة حازمة تحرِّك مشاعر الاحترام والتقدير، مفعمة بالذكاء والحكمة، ثمَّ كارزميَّة لافتة يثني عليها الذين عرفوه عن كثب بقولهم إنًّه ليمتلك بصيرة إستراتيجيَّة، وقدرة على رؤية الأشياء بأحجامها الحقيقيَّة. إذ هم يضربون بذلك مثلاً بالإشارة إلى أنَّ هذه الرؤية قد تجلَّت في قضيَّتين كبيرتين: الأولى رؤيته حول اتفاقيَّة أديس أبابا العام 1972م، والثانية خلال الأزمة التي أعقبت انسلاخ جماعة الدكتور رياك مشار من الحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان في آب (أغسطس) 1991م.
إنَّ إسهام الدكتور قرنق في الحركة السياسيَّة في السُّودان سيظل ماثلاً في الأذهان على مرِّ الحقب، طالما كانت قضايا العدالة والمساواة، والتنمية المتوازية عن طريق سياسة نقل المدينة إلى الرِّيف، والحقوق المدنيَّة وغيرها على لسان كل إنسان مهمَّش في السُّودان. ومع ذلك ظل أعداء قرنق يرجموه بفاحش القول، فجعلوا محاسنه عيوباً، ورشقوه بأليم السهام، وأخرجوه عن الدِّين، ثمَّ لم يتركوا شيئاً مستقبحاً إلا ورموه به. من ناحية أخرى “كان قرنق، رغم صورة المعاسر التي (كان) يتخيَّلها البعض عنه، أو (كان) يسعى شائنوه لاستحضارها في أذهان النَّاس عند التداول في أمره، من أقل النَّاس افتعالاً للمعارك مع الآخرين.”
غير أن مثل هؤلاء الأخيار من النَّاس لا يعيشون طويلاً ليقطف النَّاس ثمار عقولهم واجتهاداتهم. فإذا ألقينا نظرة فاحصة على مصير هؤلاء الأشخاص التاريخيين الذين كان دورهم عظيماً في مجتمعاتهم فسوف نجد أنَّه لم يكن مصيرهم سعيداً؛ إذ لم يصل هؤلاء إلى المتعة الهادئة والحياة الرغيدة. فعندما يبلغون مقاصدهم، أو قبل بلوغها، يسقطون، فتصبح مجتمعاتهم كالقشرة الخالية من النواة. فقد يموت أحدهم في سن مبكرة مثل الإسكندر المقدوني، أو يُقتل مثل يوليوس قيصر، أو يُنفى إلى سانت هيلانة مثل نابليون بونابرت، أو يُغتال مثل الزعيم الكونغولي باتريس لوممبا، أو المناضل أميلكار كابرال (غينيا بيساو) الذي اغتيل في 22 كانون الثاني (يناير) 1973م، أو الرئيس الغاني كوامي نكروما، أو رئيس بوركينا فاسو توماس سنكارا، أو الزعيم الموزمبيقي سامورا ميشيل، أو الدكتور جون قرنق، أو موت القائد يوسف كوَّة بداء عضَّال. تأسيساً على ذلك، فإنَّ الأهداف العامة التي سعى إلى تحقيقها هؤلاء العظماء إنَّما هي في حقيقة الأمر تعبير عن روح عصورهم وأممهم التي أرادت الرُّوح تحقيقها بواسطتهم. لذا فإنَّ هؤلاء الأبطال لا بد أن يُعدوا حكماء عصرهم، ولا بد من النَّظر إلى أعمالهم وكلماتهم على أنَّها تعبير ما عُمل، وأفضل ما قيل في العصر. كيف لا وإنَّ البطل هو ابن مجتمعه وعصره، وبذلك ارتأى كل من كارل ماركس وفريدريك أنجلز أنَّ البطولة هي من صنع الأمم والشعوب، وليس الأفراد؛ وما الأفراد إلا أدوات بيد الطبقة التي ينتمون إليها من أجل التعبير عن مصالحها وتحقيق أهدافها.
أولئك وهؤلاء لم يبتسم لهم الدهر، فتوفوا وهم في قمم أمجادهم، ومن يصحب الدهر، لم يعدم تقلُّبه، فإنَّه قد يسترد هباته، ويسترجعها عاجلاً أو آجلاً. هكذا أنشد الشاعر المعتمد بن عباد أعظم أمراء الأندلس، وفي ذروة عزِّه عندما صار الدهر عدوَّه الأكبر، وانهار أمام المرابطين، بعد أن كان الدهر حليفه، بل تحت إمرته، وها هو الآن لقد انقلب عليه وغدر به:
قَد كان دَهرُكَ إن تأمُرهُ مُمتثِلاً فَرَدَّكَ الدَهرُ مَنهيَّاً ومأمورا
لكن ما كان يحزُّ في نفسه، ويثير غضبه، أنَّه لم يعد بوسعه أن يهب شيئاً، ثمَّ طفق مرتجزاً، وأخذ يذم الدهر، ويستقبحه في قصيدة أخرى:
قُبِّحَ الدهرُ فَماذا صَنَعا كُلَّما أَعطى نَفيساً نَزَعا
للمقال بقايا باقيات،،،