جبال النُّوبة في سنوات الجمر الملتهبة (1 من 4)
الدكتور عمر مصطفى شركيان
يا تُرى ما الذي كان يختمر في مخيَّلة القادة الإسلامويين حين خلوا إلى أنفسهم وقرَّروا خوض حرب الإبادة التي لا تبقي ولا تذر ضد أهل الجنوب وقوميَّتي النُّوبة والفونج، وأخيراً سكان دارفور الأصلاء ممن أسموهم الزرقة. لقد ارتأى هؤلاء القادة الإسلامويُّون أنَّ هناك ثمة ثلاثة عوامل جديرة لإبادة هذه الأقوام. العامل الأوَّل الذي كان يعشعش في مخيَّلتهم هو تمرُّدهم على سلطة الدولة المركزيَّة القابضة، وإزاء ذلك يستوجب إعمال القوَّة الأمنيَّة لإخضاعهم رغم أنوفهم، بغض الطرف عما إذا كان تمرُّد تلك القوميات في سبيل المطالبة بالحقوق الدستوريَّة المتمثلة في العدالة والمساواة، والتقاسم العادل في السلطة السياسيَّة والثروة القوميَّة أم لا. وفي إحقاق تلك الحقوق يمكن أن يكون هؤلاء القادة قد عكسوا الصورة الحقيقيَّة للسُّودان داخليَّاً في الوحدة الوطنيَّة، وخارجيَّاً في التمثيل الديبلوماسي. إذاً، كان الأمر يتطلَّب حلاً سياسيَّاً.
أما العامل الثاني الذي استند إليه أهل العقد والحل في الخرطوم في شن الحروب الاستئصاليَّة ضد هؤلاء المغلوبين على أمرهم فهو العامل الدِّيني والإفتاء بأنَّ المتمرِّدين “كفار ملاحدة يحاربون أهل السُّودان المسلمين”، مع علمهم علم اليقين بأنَّ وسط المحاربين ومجتمعاتهم من هم مسلمين يقيمون الصلاة آناء النهار وزُلفي، ويرتِّلون القرآن ترتيلاً. غير أنَّ هذا العامل كان أداة لتجييش الشعب السُّوداني، وتمليش الشباب، واستحجار قلوبهم في محاربة المواطنين الضعفاء الذين لا حول لهم ولا قوَّة. اعتقد أهل “الإنقاذ” – رجالهم ونساؤهم – أنَّ الخروج عن السلطة والتنديد بنظامهم الجائر، المخالف لما تعارف عليه السُّودانيُّون، يعني أنَّ الثائر مارق من الإسلام، وملحد، وهو الملعون عدو الله، ثمَّ هو الخائن الفاسق. ألم تروا كيف دعا كبيرهم الذي علَّمهم السحر، أي رئيس نظلمهم، بأنَّ على أعضاء المعارضة أن يغتسلوا من ماء البحر الأحمر، ويتوبوا إلى الله متاباً، وينوبوا إليه. أما من رضي بالسلطة القائمة، برغم من عسفها، وبارك القائمين على أمرها، فهم في عينهم، المحافظ على دينه، الورع، التقي، برغم من أنَّ الدولة لم يكن لها من الدين إلا المُسُوح. حينما أقدم الأستاذ علي عبد الرازق على الكتابة في الإسلام وأصول الحكم، وعلى مهاجمة الخلافة، أثبت أنَّها منصب سياسي لا صلة بينها وبين الدين. وأهل “الإنقاذ” ليسوا أوَّل من ادَّعوا أنَّ الملائكة كانت تنصر أتباعهم وتقوِّي من عزائمهم، بل فعل ذلك صاحب الزَّنج (أو الزِّنج) علي بن محمد في البصرة. ففي إحدى المعارك وقع عليٌ ونفر يسير من أصحابه في مأزق، وتعرَّضوا للموت، فلما قرُّب جمعُ العدو منهم قال علي: “اللهم إنَّ هذه ساعة العسرة فأعنِّي، فرأيت طيوراً بيضاً تلقَّت ذلك الجمع.” فقد كان علي بن محمد يدَّعي الوحي الذي يبشِّر بالخلاص، وذلك اعتقاداً منه أنَّ هذا يفعل فعله في العبيد، ويدفعهم إلى الثورة، ولقد كان.
العامل الثالث فهو العامل العنصري البغيض. وفي العنصريَّة هذه يقول الدكتور الراحل منصور خالد إنَّها تعبِّر عن “استثناء كل الخائص الموضوعيَّة التي تميِّز الفاعل السياسي أو المبدع الفني عن الآخر، وقَصرُ الحديث على عرقه أو الإقليم الذي نشأ فيه يعكس أمرين: الأول هو فقدان الموضوعيَّة، والثاني هو العنجهيَّة العرقيَّة.” قد ظلَّ هذا العنصر مكتوماً في المجالس العامة. أما في المجالس الخاصة، فقد ظلَّ يتمظهر في التفكُّه والتعيير والتنابذ بالألقاب وبئس الاسم الفسوق، ولكن قد طفح الكيل في هذا المجال في العهد “الإنقاذي”، حتى طفق رئيس النظام إبَّان المعارك التي خاضها الجيش السُّوداني ضد جيش دولة جنوب السُّودان، ووصف البشير أهل الجنوب بالعبيد مسترشداً ببيت الشاعر العربي أبي الطيب المتنبي الذي فيه ذمَّ حاكم مصر كافور الإخشيدي:
لا تشتري العبد إلا والعصا معه إنَّ العبيد لأنجاسٍ مناكيد
وما أنَّ سقط النظام “الإنقاذي” حتى عجَّت وسائل التواصل الاجتماعي بكمٍ هائلٍ من التسجيلات الصوتيَّة والكتابات الإنشائيَّة تحمل نعرات عنصريَّة سافرة ضد النُّوبة وأهل دارفور ممن نعتوهم بالزرقة التماساً للفرقة وإرصاداً للفتنة، وكانت الدولة كفيلة بأن توقف هذا التفاخر بالأنساب من جهة من ادَّعوا أنَّهم أحفاد آل البيت النبوي، وأن تستخدم القانون من أجل كبح جماحهم، حتى يكفوا عن سب الأغيار دون حق. ولعلَّ سكوت السلطات عن ذلك تشي بأن الأمر يبدو مدعوماً من قبل طرف أو أطراف في الدولة العميقة لحاجة في نفس يعقوب ارتضاها، وذلك لتحقيق مصالح سياسيَّة بإلهامهم بهذا الفجور على حساب تماسك النسيج الاجتماعي.
مثلما جاء النازيُّون إلى السلطة من بطون الشعب الألماني، هكذا نجد أنَّ أهل “الإنقاذ” لم يهبطوا من السماء غولاً، ولم يخرجوا من الأرض بعد تشققها شقاً، بل إنَهم لنبتٌ شيطاني انبثق من أشرار أهل السُّودان، واصطحبوا معهم أسوأ ما في أخلاق بعض النَّاس في المجتمع السُّوداني، وأصحاب الضمائر المحطَّمة، والأجساد الميَّتة، إنَّهم لأهل السفه والطيش والدناءة والمقاذعة (المشاتمة) في السُّودان، كانوا وما زالوا ينطقون بالزور في كل شيء. كان تخطيطهم في إدارة الحرب الشعواء على أقوام البلد الأصلاء أشبه بما قام به النازيُّون في ألمانيا ضد اليهود.
أجل، فالتاريخ يخبرنا أنَّه في كانون الثاني (يناير) 1942م عُقِدت أخطر الاجتماعات في التاريخ النازي في قصر على شاطئ فانسي، وهي بحيرة تقع في ضاحية من ضواحي العاصمة الألمانيَّة برلين. إنَّ الخمسة عشر رجلاً الذين حضروا هذه الجلسات لم يكونوا من المجرمين الجهلاء، بل كان أغلبهم محامين مؤهلين، وكان ثمانية منهم من حملة إجازة الدكتوراه في المجالات الأكاديميَّة المختلفة. إذ كان موضوع النقاش في تينك الاجتماعات هو استئصال اليهود من شرفة التاريخ، وقد علم النَّاس عن أمر هذه الاجتماعات من خلال محضر الجلسات الذي كان يسجِّله أدولف أيخمان، وهو الذي حضر هذه الاجتماعات بصفته خبيراً في شؤون اليهود. لم يكن أيخمان في زعمه بكاشحٍ، والكاشح هو العدو المبغض الذي يخفي عداوته، بل كان بوَّاحاً بما هو مؤمن به، ومستعداً على الإقدام عليه. حين دعا راينهارد هايدريش، الذي كان رئيس الشرطة والساعد الأيمن لهاينريش هيملر في قيادة أس أس، لهذه الاجتماعات أراد أن يؤكِّد ثلاثة أهداف: أولاً أراد أن يثبت بأنَّه على رأس التنظيم الذي كان يسميه النازيُّون تلطفاً ب”الحل النهائي”، وهي السياسة التي عُني بها إبادة اليهود. ثانياً كان يسعى أن تقوم كل المجموعات المختلفة ذات الصلة – كوزارة الخارجيَّة والداخليَّة وهلمجرَّاً – بدعم الاقتراح الذي سوف يأتي به في سبيل دفع الأمور إلى الأمام. ثالثاً كان يرغب في مخاطبة السؤال حول من ذا الذي ينبغي نفيه ومن ذا الذي يجب أن يبقى، وهل أنصاف اليهود ينبغي أن يتم تصنيفهم كألمان أم لا؟ ففي العام 1940م اختمرت في مخيَّلة النازيين فكرة نفي ملايين اليهود إلى جزيرة مدغشقر على السواحل الشرقيَّة لإفريقيا قبل إلغاء الخطة باعتبارها غير عمليَّة. كذلك اقترحت بريطانيا في عهد رئيس الوزراء ونستون تشرشل أن تكون أوغندا أرض الميعاد لليهود، دون أن تكون هناك أيَّة علاقة تاريخيَّة أو دينيَّة بين اليهود وأفريقيا الوسطى.
كانت إحدى المخططات هي إرسال اليهود إلى مناطق الاتحاد السوفييتي المحتلة لإجبارهم على تشييد الطرق حتى تستسلم أغلبيتهم – بلا شك – إلى الفناء الطبيعي، وكان هايدريش مهتماً بشكل خاص بأنَّ كل من نجا من هذه التجربة الوحشيَّة ينبغي “التعامل معه كما يجب” – وهي شفرة تعني القتل. وفي حال إبقائهم أحياءً فإنَّهم لسوف يمسوا الخلية الجرثوميَّة لجيل اليهود الجديد.
إنَّ مؤتمر فانسي ليعتبر درساً قاسياً في عمليَّة صنع القرار، واستهلالاً للسبيل المعوج الذي أدَّى إلى مقتل ستة ملايين من اليهود فيما عُرِف تاريخيَّاً ب”الهولوكوست”. فبعد هذا السرد ألا تروا أنَّ الذي قام به قادة حكومة الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة في الخرطوم تجاه شعب الجنوب والنُّوبة ودارفور ما هو إلا صورة كربونيَّة لما أقدمت عليه ألمانيا النازيَّة إبَّان حكم أدولف هتلر! فقد قام النازيُّون الإسلامويُّون في السُّودان بفرض حصار حول منطقة جبال النُّوبة، ومنع دخول مواد الإغاثة للمواطنين، حتى يفنوا فناءً طبيعيَّاً (Natural wastage) – إذا استعرنا لغة هايدريش، ثمَّ كان ما أسمَّوه “قرى السَّلام” ما هي إلا معسكرات اعتقال أشبه بمعسكرات اعتقال اليهود وتعذيبهم في ألمانيا النازيَّة-الهتلريَّة.
ومن بعد انبرى أحد أبناء النُّوبة من سدنة نظام الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة ليقول إنَّ النُّوبة غير محتاجين للإغاثة لأنَّهم مكتفين ذاتيَّاً دون أن يأتي بالحجج البوالغ، وفي المثل: “الحق أبلج، والباطل لجلج”. هذا الكلام أشد وقعاً من النِّصال، وأحمى من حديد حار، لو أدركه قائله قبل قوله لأمسك لسانه عن التفوُّه به، ولو عقله لما ابتدره، ومن عرف قدر نفسه استبان أمره. كان مبعث ترهاته ما أصاب من مال ﴿وإن أدري لعلَّهُ فتنةٌ لكُمْ ومتاعٌ إلى حينٍ﴾ (الأنبياء: 21/111)، حتى استعجل لذَّته، وبقيت عليه التبعة. ليس من الحزم أن يصمت الرجل عند إيراد الحجة، ولكن من الإفك أن ينطق الرجل الخنا، ويصوِّر الكذب في صورة الحق؛ والخنا هو الفحش من الكلام. فقد أقدم على ذلك ذلكم الدكتور المستكوز افتخاراً بالكذب، وجراءة على الإفك. وما أن سمع القائد يوسف كوَّة مكِّي، الذي كان يحدِّثني عن أمر هذا الدكتور النُّوبوي الأرزقي، حتى بعث له برسالة تليق به، وأردف القائد كوَّة قائلاً إنَّ الرِّسالة قد وصلته، ورب باحث عن حتفه بلسانه يناله. وإنِّي لأعجب وأغضب في الحين نفسه ممن كان يقف مع هؤلاء القتلة المكرة ممن استباحوا دماء أهليهم من الأبرياء العزل دون جريرة جنوها! وكيف سمحت لهم أنفسهم الأمارة بالسوء أن يساندوا أهل “الإنقاذ” الذين ران على قلوبهم كل ما هو منافي للطبيعة وأعمال البشر السوي، وذلك من أجل أكل مال السحت، وكل ذلك ضد أهليهم وهم يغالبون نوائب الدهر، أو هماً من هموم الحياة، أو رزءً من أرزائها. وإذا دجا ليل الحوادث حولهم، لا يجدون ما يتدثَّرون به إلا الأهدام، والأهدام جمع هِدم (بكسر الهاء)، وهو الثوب البالي (أي هدوم باللغة العربيَّة السُّودانيَّة العاميَّة). هذا ما أجبرتهم عليه حكومة “الإنقاذ”. وما أكثر ما يتمثَّل النَّاس بقول أبي الطيب المتنبي في أمر هؤلاء الانتهازيين من أهل الهامش:
ومن جهلت نفسه قدرها رأى غيره فيه ما لا يرى
لعلَّ يوسفاً هو ذلكم القائد الفذ الذي قال ذات يوم: “لا أشعر بأنَّني قائد أو زعيم؛ أنا أشعر فقط بأنَّني معلِّم، الذي من أهدافه تعليم الشعب عن حقوقه وكيفيَّة الحصول عليه.” واستطرد في القول: “ينبغي أن يشعر أي شخص بالحريَّة، والاعتداد بالنفس، والثقة في ثقافته، وعليه أن يطالب بحقوقه، ويناضل في سبيل الحصول عليها، حتى ولئن تمَّ سلب تلك الحقوق بواسطة يوسف كوَّة، فعليه أن يناضل في سبيل انتزاعها.” كان يوسف واحداً من القادة الأفارقة من ذوي الرؤية الصائبة، وهو الذي ألهم النُّوبة بفخر جديد، وثقة جديدة في الأفريقانيَّة. وفي قيادته للجيش الشعبي لتحرير السُّودان في إقليم جبال النُّوبة نجده كان قد أعطى النضال بعداً قوميَّاً، وقد أثبت أنَّ الكفاح المسلح ينبغي أن يسير جنباً إلى جنب مع احترام حقوق الإنسان والمجتمع الإنساني. هذا ما كان من أمر يوسف كقائد قومي، والقادة القوميُّون يعبِّرون دوماً عن مجتمعاتهم التي أتوا منها، حتى إذا ظلَّت أفكارهم غير مستساغة في نظر كثرٍ من مواطني المجتمعات الأخرى. وتاريخ العالم، كما جاء في الفكر الكارليلي (نسبة إلى الفيلسوف الإسكتلندي توماس كارليل (1795-1881م))، ما هو إلا سيرة ذاتيَّة للرجال العظماء.
للمقال بقيَّة،،،