تفاصيل أحداث القطينة المؤسفة بين الكواهلة الحسنات والنوبة
تقرير : زكريا أزرق: splmn.net
ولاية النيل الابيض هى إحدى ولايات السودان تحدها شمالا ولاية الخرطوم، وغربا ولاية شمال كردفان، ومن الجنوب الغربى ولاية جنوب كردفان، وولاية أعالى النيل من ناحية الجنوب، ومن جهة الشرق ولايتا الجزيرة وسنار. تبلغ مساحة الولاية 39,701 كيلومتر مربع. ومحلية القطينة هى إحدى محليات ولاية النيل الأبيض، وتقع جنوب ولاية الخرطوم على الحدود مع محلية جبل أولياء، وشمال عاصمة الولاية ربك. للمحلية تاريخ قديم وراسخ، فهى رائدة التعليم النظامى فى السودان حيث أسست فيها أول مدرسة سنة 1902 إبان الإستعمار الإنجليزي، وتحمل ذات المدرسة الآن إسم مدرسة علي إبن أبى طالب الأساسية للبنين. كما توجد فى القطينة كلية تقانة هى من أوائل كليات التقانة فى السودان تمنح شهادة الدبلوم فى عدد من التخصصات.
التعايش السلمي:
يعتبر التعايش السلمى والإجتماعى من مظاهر الحياة التى إتسمت بها محلية القطينة والتى تقطنها العديد من قبائل السودان ومن بينها النوبة، الكواهلة الحسنات، الكبابيش، الجعليين، الشوايقة، الدناقلة وقبائل دارفور المختلفة. لم يسجل تاريخ المحلية أى صراع قبلى أو عنف جماعى بين المجتمعات السكانية المتعايشة فى المحلية، فالحب والإحترام المتبادل والسلام الإجتماعى هى القيم السائدة. فى العام الماضى 2021 وقبيل عيد الفطر المبارك بيومين قمت بزيارة المنطقة لمواساة الأسرة فى وفاة إبن عمتى حماد إدريس البقيرى وصلنا فى الرابعة عصرا، ووجدنا الأهل والجيران قد عادوا من مراسم الدفن، وقد شد إنتباهى التنوع السودانى الجميل الذى كان حاضرا من جميع القبائل…كانت تحفة من الجمال عكست روح التعايش وحسن المعشر بين جميع المكونات الإجتماعية فى القطينة. وعقب الإفطار إذا بعربة بوكس تقف على الجانب الشرقي من مكان العزاء ويبدأ من على متنها بإنزال كميات من السكر، الدقيق، الزيت، خروف وبعض متطلبات الكرامة، فسألت من هؤلاء الناس؟ فرد لى أحد الحضور هؤلاء سكان الحلة وكلهم كانوا من العرب وليس النوبة. وبعدها جات عربة دفع رباعى عسكرية وبدأت أيضا بإنزال جوالات من السكر والدقيق وغيرها. الجدير بالذكر أن المتوفى يتبع للقوات المسلحة قيادة الجيش القطينة وأبناء النوبة بهذه الحامية ليس بالعدد البسيط، سكنوا أكثر من 30 عام فى المدينة وأصبحوا مواطنين يملكون المنازل والأراضى. بعد إنتهاء العزاء اخذنا جولة سياحية أنا وشقيقى الأكبر فى نواحى المدينة، وبهرنا بجمالها وطيبة أهلها وأراضيها الخصبة ومنازلها الواسعة وأشجار الفواكه المترامية داخل معظم بيوت المواطنين بالقطينة. قرر أخى شراء قطعة أرض فى القطينة عله يصبح من ساكنيها يوما. وفى اليوم الثانى وجدنا قطعة أرض بمساحة 400 متر فإشتريناها. فى الحقيقه كل من سألناه عن سكان القطينة وأهلها قالوا لنا الحمد لله نسكن مع أهلها وكلهم إحترام وعشرة وطيبة وصدق فى التعامل، ولم نحس يوما أننا غرباء بها غير أننا نجد الإحترام والحب والتقدير من أصحاب الأرض وأهل المدينة.
حقيقة أحداث الجمعة 9/9/2022
الرحمة والمغفرة للراحل أحمد الطيب الذى فارق الحياة مساء الجمعة إثر مشاجرة بينه وشاب من قبيلة النوبة. وقعت هذه الحادثة يوم الجمعة الموافق 9/9/2022 عقب صلاة العشاء أى الساعة الثامنة مساءا بالقرب من معسكر الجيش، ويبعد مسرح الحدث بشارع من محيط المعسكر بحي 15 الكداريس. يقول شهود عيان أن مكان الحادثة كان عبارة عن مساحة بها بعض الحشائش تمت نظافتها وترتيبها لإقامة صيوان لمناسبة زواج شقيق المتهم، وهذا المكان قد غير مسار الطريق الرئيسى للمارة والعربات. كما يقول شهود عيان أن القتيل أتى بعربة بوكس وإصر على المرور من ذات المكان، إلا أن الشباب منعوه ووجهوه بإستخدام طريق آخر بحجة أن المكان معد لمناسبة عرس ولكنه أصر على المرور بعربته، وبعد نقاشات طويلة تم السماح له بالعبور بعد أن تعرف عليه بعض الشباب، إلا أن القتيل عاد مرة ثانية بعد أن أخبره شباب آخرون تشاجروا مع نفس الشباب الذين قاموا بنظافة وترتيب مكان العرس أنهم تشاجروا وأن أحدهم تم جرحه بسكين والقتيل كان يحمل عصا فقام بضرب قصى وبطريقة غضب. قصى هو أحد الشباب المتواجدين بمكان المناسبة وقد ضربه القتيل حتى أغمى عليه والقاتل لم يكتف بذلك بل قام وللمرة الثانية بضرب صابر يوسف دوكة ضربة قوية، وبعدها بدأت تشتد المشاجرة.
إعتصام أمام محلية القطينة:
بتاريخ 13/9/2022 وبعد إنتهاء مراسم الدفن والعزاء تجمع شباب وأهالى الكداريس فى تمام الساعة السابعة صباحا أمام المحلية يحملون العديد من المطالب كان أبرزها ترحيل النوبة من محلية القطينة وإزالة السكن العشوائى نهائيا، بالإضافة إلى القبض على الجانى قاتل المرحوم أحمد الطيب. لكن المحلية لم تقم بدورها المنوط بها وهو التحرك الفورى وحماية المواطنين من أبناء النوبة من الهجمات التى باتت محتملة من أهالى القتيل على خلفية التهديدات، بل أنها تواطأت وتأخرت حتى تحرك الجموع وإتجهت إلى أحياء النوبة بالكداريس، بينما الشرطة سبقتها بعد أن عرفت الوجهة التى يقصدها الجموع المعتصمين وذهبت لأسر النوبة واخطرتهم بضرورة مغادرة القطينة خوفا عليهم. وبالطبع هذا دور سيئ للشرطة التى يناط بها حماية أرواح وممتلكات الشعب السودانى عامة دون تمييز على أساس العرق. بعدها غادرت الشرطة ولم تنتظر لتمنع الجماهير التى وصلت وهى غاضبة وقامت مباشرة بحرق بيوت وممتلكات النوبة وضرب وجرح العديد وهدم وتدمير متاجر تابعة للنوبة وقتل بعض الأبقار والأغنام التى يسعاها بعض الأهالى من النوبة كمصدر رزق، ثم أخذوا يكيلون الألفاظ البذيئة ووجهوا إساءات عنصرية لا تشبه ما عرفناه فى أهل القطينة من طيبة وكرم وحسن معشر وهذه خصال طيبة قلما تجدها فى المجتمعات الأخرى والتى تأثر أغلبها بضغوطات الحياة الإقتصادية والإجتماعية والتأثيرات السالبة للحداثة والتكنولوجيا التى دخلت بيوتنا دون إستئذان. تم وللأسف تهجير المواطنين بالقوة وتحت التهديد بالقتل حتى تقطعت بهم السبل ووصلوا جبل أولياء وتوزعوا داخل مدن الخرطوم راجلين فى وضع إنسانى مذرى، وأمام مرأى ومسمع الحكومة والتى من أوجب واجباتها حماية المواطن السودانى وعرضه ومكتسباته إلا أن الحكومة حادت عن الحق وتقاعست فى أداء واجبها فإستخسرت حماية المواطنين من أبناء النوبة، ليس لأى سبب غير أنهم نوبة….إنها العنصرية البغيضة.
زيارة والى النيل الأبيض لمحلية القطينة:
وصل والى النيل الأبيض إلى محلية القطينة على خلفية الأحداث المؤسفة، وفور وصوله دخل فى إجتماع مباشر مع موظفى المحلية وعلى رأسهم المدير التنفيذى للمحلية، وبعدها خرجوا للوقوف على أماكن الأحداث وعند وصوله، ووسط حشد كبير من مواطنى القطينة خاطب الجمهور بلغة عنصرية مشحونة بخطاب الكراهية الذى لا يجب أن يصدر من رجل دولة يناط به إرساء قيم العدالة والمساواة وتطبيق سيادة حكم القانون بين أبناء وبنات الشعب السودانى دون فرز بوصفه مسؤل من أى مواطن سودانى موجود داخل ولايته. إلا أنه آثر مخاطبة الحشد بأسلوب تعبوى وعنصرى بغيض (خطاب الوالى موثق فى فى تسجيل فيديو). يبدو أن والى الولاية والذين قاموا بحرق بيوت النوبة قد نسوا أن وجود النوبة هناك لم يكن طمعا فى أرض القطينة، بل فرضته ظروف الحرب التى هجرتهم من مناطقهم، فجاءوا نازحين ومحتمين وباحثين عن ملاذ آمن وحياة كريمة فى القطينة لأنهم ينظرون للكواهلة الحسنات كإخوة سودانيين. كما يعتبر النوبة أنفسهم مواطنين سودانيين لهم الحق فى التنقل والعيش الكريم فى أى بقعة من السودان. كما نسى هؤلاء أن فى جبال النوبة توجد قبيلة الكواهلة الحسنات ويتمتع منسوبوها هناك بكل الحقوق والواجبات إذ يتعايشون مع النوبة….يسكنون، يزرعون، ويعملون بكل حرية دون أى مضايقات من أحد.
كل هذه الأشياء والروابط التاريخية نساها هؤلاء وغابت عنهم الحكمة وصوت العقل بسبب جريمة إرتكبها شخص وتولى القانون أمره. بالطبع لا توجد قبيلة خالية من المجرمين بما فى ذلك قبيلة الكواهلة، وجريمة القتل نفسها لا تعدو كونها جريمة يطال مرتكبها القانون مثلها ومثل الجرائم الأخرى.
جريدة الدار تنشر خبرا كاذبا وتؤجج نار الفتنة بالتسويق للعنصرية وخطاب الكراهية:
بتاريخ 14 سبتمبر نشرت صحيفة الدار خبرا غريبا عن أحداث القطينة، وفيما يتعلق بأسباب تلك الأحداث جاء فى متن الخبر: ( وتعود التفاصيل الحادث إلي أن المرحوم أحمد الطيب إدريس كان يقود بوكس وأثناء قيادته للعربة إذ يداهمه عدد 5 أفراد وذلك بقصد السرقة وقام الشباب بمقاومتهم إلا أن يد العصابة كانت قاصمة الظهر حيث قاموا بتسديد عدة طعنات له مما أدى لمقتله فى الحال، وقامت شرطة القطينة بالقبض على أفراد العصابة وتجمع عدد كبير من سكان الحى بغرض القصاص وإزالة المنزل العشوائى للعصابة) ….إنتهي الإقتباس.
أولا: جريدة الدار جريدة معروفة للشعب السودانى وهى مشهورة بنقلها لأخبار الحوادث، إلا أنها هذه المرة وقعت فى خطأ جسيم وهى تتناول قضية حساسة تحتاج للتأنى والإحترافية فى جمع معلوماتها من مصادر موثوقة، أو إرسال أحد موظفيها للتحقيق فى القضية بدلا من نشر الخبر بهذه الكيفية.
ثانيا: الخبر تمت كتابته بعجالة فوردت فيه أخطاء إملائية وأخطاء فى سياق الجمل، وهذا إنما يدل على أن الخبر قد كتب ونشر بإستعجال، ودون مراجعة وتصحيح لغوى مما يؤكد كذب جريدة الدار والذى نقل الخبر ومن قام بكتابته وتحريره، فقد إنحازوا وبشكل مفضوح لطرف ضد الآخر وهذا واضح جدا من خلال الخبر المنشور.
ثالثا: الحادثة بدأت بمشاجرة عادية وليست نهب لعصابات كما إدعت جريدة الدار وهذا الأسلوب منافى لأخلاقيات المهنة وفيه خيانة للرسالة الصحفية والتي تحتم على أى صحفى أن ينقل الخبر بمصداقية ومهنية، ومن شهود العيان للمجموعتين، لكن الخبر وبالطريقة التى نشر بها قصد منه الوقوف مع أهل القتيل ضد أهل القاتل وتأجيح العنصرية والكراهية وهذا يطعن دون أدنى شك فى مصداقية جريدة الدار ونزاهتها في نقل الخبر .
رابعا”: أى منزل عشوائئ تتحدث عن إزالته صحيفة الدار؟ صابر يوسف دوكة المتهم بقتل أحمد الطيب هو إبن شقيق حسين دوكة المتواجد الأن فى المملكة العربية السعودية، وهو من سكان القطينة وضابط يتبع للقوات المسلحة ولديه أكثر من منزل ويسكن هو وأسرته وأسرة المرحوم يوسف دوكة فى القطينة لأكثر من 30 عاما، فأى منزل عشوائى تتحدث جريدة الدار عن إزالته بإعتباره يتبع للعصابة؟ هذا الكلام السخيف ينم عن تحيز عنصرى فاضح..
رسالة أخيرة:
ما حدث فى القطينة لا يعدو كونه جريمة إرتكبها شخص واحد وراح ضحيتها أحمد الطيب إدريس، له الرحمة والمغفرة ولأسرته المفجوعة الصبر وحسن العزاء، كما لهم كأولياء دم كامل الحق فى الإقتصاص لمقتل إبنهم. ولكن ما يجب أن يتعلمه الكواهلة الحسنات والنوبة على حد سواء هو الصبر على البلاء، ويتعين أن يكون القانون هو الفيصل بين المتنازعين والحق سينتصر لا محالة.
إن ما وقع من جريمة قتل أمر مؤسف بكل تأكيد، لكن يجب ألا يفسد الحب والإحترام والوئام الذى عرف به أهل القطينة بين المجموعات المختلفة. فالحكمة والإحترام والتعايش السلمى قيم يجب أن تنتصر وتعيد للمدينة بريقها الإجتماعى الذى يميز أهل القطينة. وما شاهدته إبان زيارتى للقطينة دليل صحة وعافية فى التعايش بينكم والنوبة ونتمنى أن ينصلح الحال وتعود الحياة كما كانت.