تعليق علي مقال د. حافظ الزين_ المتعلق بالعلمانية

بقلم د/ جودات الشريف حامد

 

 

جاء مقال د. حافظ الزين كمحاولة لتقديم صياغة سودانية خاصة للعلمانية، تدمج بين القيم الدينية والمبادئ الديمقراطية، في سياق سياسي وفكري جديد تتبناه قوات الدعم السريع عبر مجلسها الاستشاري. ورغم أهمية الطرح في تأكيده على عدم عداء العلمانية للأديان، إلا أن من الضروري التذكير بأن جوهر العلمانية، كما استقر في الفكر الإنساني، ليس نفي الدين ولا تجاهله، بل تحييد الدولة عن توظيفه في السلطة، بما يحفظ مكانة الدين من التسييس، ويصون الدولة من التقديس.

 

العلمانية في أصلها لا تناقض الإيمان، بل تمنع اختزال الإيمان في قرارات سياسية أو مؤسسات حاكمة. وحين يشير الدكتور حافظ إلى أن “العلمانية لا تعني فصل الدين عن الدولة”، فهو يصحح انطباعًا شائعًا، لكنّه يقف في منطقة رمادية: فالفصل المقصود ليس القطيعة أو العداء، بل هو تنظيم العلاقة بين المجالين، بحيث لا تطغى سلطة المعتقد على سلطة القانون، ولا تُفرَض معتقدات الأغلبية على الأقلية. وهذه ضرورة موضوعية في بلد كالسودان، متعدد الهويات والانتماءات، حيث يتحوّل أي دمج قسري بين الدين والسياسة إلى وصفة للتفكك والصراع الأهلي.

 

ما طرحه د. الزين من “العلمانية الثقافية المستقلة” يبدو كمسعى لخلق توازن بين احترام الإرث الديني وضرورات بناء دولة حديثة، لكن هذا التوازن لا يتحقق إلا إذا تم الاعتراف الصريح بأن الدين، مهما كانت قدسيته، لا يمكن أن يتحول إلى مصدر للشرعية السياسية أو الحصرية الأخلاقية في الفضاء العام. فالدولة العادلة هي التي تساوي بين جميع مواطنيها في الحقوق والواجبات، دون النظر إلى خلفياتهم الدينية أو الثقافية. وهذا هو جوهر العلمانية التي لا ترفض الدين، بل ترفض استغلاله.

 

كما أن الربط الذي أشار إليه المقال بين العلمانية والعدالة، ومبدأ “إعطاء كل ذي حق حقه”، لا يتحقق إلا في ظل نظام يضمن حياد الدولة أمام جميع العقائد. فالدولة التي تمثل المسلمين نسبة 95%، لا تصبح إسلامية بالضرورة، لأن الدولة لا تحكم باسم الأكثرية الدينية، بل باسم الشرعية الديمقراطية والدستور، وإلا فسنعود إلى منطق “دولة الأغلبية” المضلل الذي طالماً أذكى نيران الحروب الأهلية في السودان، باسم الدين أو العرق أو الجغرافيا.

 

إنما طرحه د. حافظ كوجهة نظر عن العلمانية ، إذا تُرجم فعليًا إلى واقع لاحترام التعدد وتعزيز الحياد المؤسسي، يمكن أن يمثل تطورًا نوعيًا في الخطاب السوداني حول العلاقة بين الدين والدولة. لكن على هذا الطرح أن يخرج من دائرة التوفيق الخطابي إلى وضوح مبدئي: بمعنى أن لا سلطة دينية فوق سلطة الناس، وأن الإيمان الحقيقي لا يحتاج إلى مؤسسات سياسية تُفرض باسمه.

 

العلمانية، في هذا السياق، ليست خيارًا “غربياً” يُستورد، بل ضرورة وطنية في مجتمع متنوع، يسعى إلى بناء دولة مدنية يتساوى فيها الجميع، لا دولة عقيدة واحدة أو طائفة واحدة. وإذا كنا نبحث عن الدولة العادلة حقًا، فلا بد أن نبدأ من القاعدة: لا قداسة في السياسة، ولا سياسة في القداسة

 

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.