تعقيدات الراهن السياسي في السودان وضرورة التفكير خارج الصندوق

 

وثائق ميثاق السودان التأسيسي (ميثاق المبادئ والدستور) الموقعة في نيروبي في 22 فبراير 2025م يجسدان تماماً مشروع السودان الجديد الذي ناضل من أجله الحركة الشعبية لتحرير السودان-شمال لأكثر من اربعين عاماً وبذلك يعتبر هذه الوثائق الأكثر تقدماً في تاريخ السودان الحديث من حيث مخاطبة الأزمة السودانية المستفحلة ومعالجة جذور وأسباب الصراع والحروب في السودان والى الأبد وليس هنالك أي بند يمكن ان يشكل مصدر قلق للشعوب السودانية المهمشة وخاصة شعبنا في دارمساليت، لأن الوثائق تضمنت كل ما كان ينقص الدساتير السودانية منذ خروج المستعمر من السودان وإعلان الاستقلال المزعوم في 1 يناير 1956م بالاخص النص صراحةً على “الأعتراف بالملكية العرفية التاريخية للقبائل والمجتمعات المحلية في الأراضي والموارد”.

هذه الوثائق تعتبر نجاح كبير وإنجاز تاريخي حققته الحركة الشعبية والشعوب السودانية المناضلة في سبيل إعادة بناء سودان جديد بأسس مغايرة عن التي بنيت عليها السودان والتي مَثَّلَت وما زالت تُمثِّل مصدر إمتيازات لأقلية ظلت تَستَخدِم الدولة السودانية كشركة خاصة لتحقيق مكاسب سياسية وإجتماعية وإقتصادية وثقافية ودينية ومنع الآخرين منها وذلك بخلق موانع هيكلية تمنع الآخرين من الحصول على ما يتمتع به هؤلاء الأقلية من الإمتيازات نتيجة لسيطرتها المطلقة على أجهزة الدولة.

وأهم ما جاء في وثائق نيروبي هو تضمين المبادئ فوق الدستورية و هي لب القيم التي تُبنى عليها اي دولة حديثة تحترم إنسانية الإنسانية وتضمن كافة حقوقه المنصوص عليه في المواثيق الدولية لحقوق الإنسان. هذه الخطوة مهمة جداً لضمان عدم حدوث اي إنتكاسة واختطاف للدولة مستقبلاً من القوى الرجعية الظلامية (قوى السودان القديم) وإرجاع السودان آلاف السنين الضوئية إلى الوراء.

وثائق ميثاق السودان التأسيسي يعتبر أكبر إختراق حقيقي أحدثته الحركة الشعبية خلال مشوارها النضالي التحرري الطويل وبحثها عن معالجة الخلل البنيوي في تركيبة الدولة السودانية لضمان تحقيق السلام الدائم والمستدام وإن كان هنالك تساؤلات ومخاوف (مشروعه وموضوعية) حول إمكانية إلتزام كل الأطراف الموقعة على الوثائق بتنفيذ ما ورد فيها وخاصة قوات الدعم السريع بسبب تاريخها الدموي وإنتهاكاتها وجرائمها ضد الشعوب السودانية (ولا يمكن لأحد إنكارها) وعدم إنضباط عناصرها بعقيده تحترم القوانين الإنسانية الدولية وحقوق الإنسان. وبالتالي المحك الحقيقي هو ما اذا كان التحالف ستمتلك الآليات والوسائل التي تضمن وتلزم أطراف التحالف بتنفيذ ما تم التوقيع عليه في نيروبي.

وفي المقابل الوثيقة الدستورية إنتاج بورتسودان 2025م يوضح بلا شك محاولة لإعادة تدوير وإنتاج السودان القديم (نسخة شيخهم الترابي) مرة أخرى نتيجة للضغوط الكبيرة الذي يتعرض لها البرهان من قبل الإسلاميين والذين يحاربون في صفه منذ بداية الحرب الدائر في 15 أبريل 2023م وإن أنكر ذلك الداعمين للبرهان والمؤسسة العسكرية من الشعوب المهمشة (ولن يستطيع هؤلاء المهمشين أن يفعلوا شيئا حيال ما يقوم به البرهان من تغييرات في الوثيقة الدستورية لتأسيس قبضة وسيطرة العساكر وتمكين نفسه أو التمهيد لعودة الإسلاميين ودعاة دولة النهر والبحر العنصريين) غير لعب دور الآليات وإنتظار الشفقة من جنرالات الجيش ومؤسسات السودان القديم والتي لا تؤمن الإ بمنطق القوة والعنف.

والمؤسف حقاً رغم إدعاء الكثير من المهمشين الوعي والأستنارة هو عدم إمكانيتهم من معرفة وتحديد تكتيكات وإستراتيجيات نخب السودان القديم في إدارة الأزمات وإستقطاب وحشد المهمشين لدعمهم في الوقت الذي يحسوا فيه بتهديد حقيقي لبنية دولتهم العنصرية وخاصة إستخدام تكتيك الترميز التضليلي والذي يجيدها المركز بإمتياز. مثلاً بعد التوقيع على ميثاق السودان التأسيسي في نيروبي، قام حزب الأمة القومي بعزل اللواء فضل الله برمة من رئاسة الحزب بدعاوى خرق مبادئ الحزب وممارسة صلاحيات لا يملكها كرئيس مكلف وقام بالتوقيع على ميثاق ينص على مبدأ العلمانية وحق تقرير المصير. وبالتالي قام حزب الأمة بتكليف المحامي الأستاذ محمد عبدالله الدومة رئيساً لحزب الأمة خلفاً ل فضل الله برمة. طبعا لا يختلف إثنان حول أهلية وإمكانية وكفاءة الأستاذ محمد عبدالله الدومة لرئاسة الحزب ولكن يجب أن نتسائل لماذا هو تحديداً في هذا التوقيت بالضبط رغم أن حزب الأمة رفض تعيين محمد عبدالله والياً في الجنينة في يوليو 2020م ضمن استحقاقات حزب الأمة كأحد مكونات الحرية والتغيير ورغم موافقة ومطالبة جماهير الولاية بتعيينه بالخروج في مسيرات هادرة ما زالت مترسخة في أذهان كل السودانيين ولكن رغم هذا الرفض من حزب الأمة أصَّر الأستاذ محمد عبدالله وقَبِل بالتكليف استجابتاً لإرادة المواطنين بدارمساليت وكان مستعداً للتضحية بعضويته في الحزب في سبيل تحقيق رغبة هؤلاء الجماهير. وبعد كل ذلك، المُستَغرَب أن يقوم حزب الأمة بتعينه رئيساً في هذه الظروف الإستثنائية من تاريخ السودان وذلك بهدف وضعه في الواجهة لخدمة أغراض خاصة بشلة بورتسودان.

هذا التصرف لا يخرج عن دائرة تضليل شعبنا في دارمساليت ومحاولة رخيصة لحشده وشحنه ضد ما تم الأتفاق عليه في نيروبي. المتابع للهجمة الإعلامية الشرسة والاغتيال السياسي الموجه ضد شخصية الرفيق القائد عبدالعزيز آدم الحلو بصفته فرد من قبيلة المساليت منذ ظهوره ومخاطبته الجلسة الافتتاحية في نيروبي (رغم أنه لم يذهب الى هناك ممثلاً لقبيلة المساليت بل رئيساً لتنظيم الحركة الشعبية لتحرير السودان-شمال وممثلاً لأحلام وتطلعات الملايين من الشعوب المهمشة التَّواقة للحرية)، وتصويره كأنه يدير الحركة ويتخذ قراراته بإنفرادية دون الرجوع لمؤسسات الحركة، المتفحص لكل هذا الضوضاء يدرك تماماً المغزى من تعيين الأستاذ محمد عبدالله الدومة وهو محاولة هزيلة لتقسيم شعبنا في دارمساليت الذي ظل يناضل لفترة طويلة ضد أنظمة السودان القديم وتجييشه ضد الرفيق القائد عبدالعزيز (باعتباره مسلاتي وما واقف معاكم) وتضليلهم برئاسة الأستاذ محمد عبدالله لحزب الأمة (باعتباره مسلاتي وواقف مع الدولة وبالتالي لازم تدعموه). نؤكد بأن هذه الوسائل لن تنطلي على شعبنا.

ونؤكد مرة أخرى لشعبنا في دارمساليت وكل الشعوب السودانية بأن الحركة الشعبية ليست عدوة الشعوب المهمشة أو أي شعوب اخرى في السودان بل تقاتل من أجلهم لوضع حد نهائي لسلسة الحروب المزمنة التي يعاني منها السودان منذ ما يقارب السبعين عاماً ولتحقيق ذلك يستخدم الحركة عدة وسائل وتكتيكات والتي قد يُساء فهمها احياناً.

نعلم تماماً بأن الواقع السياسي في السودان أصبح معقداً يصعب فهمه بسهولة ولكن يجب النظر وتحليل الواقع بتجرد وفقاً للمعطيات الموجودة وعدم الإنجرار وراء الخطابات العاطفية وما يحدث من تغبيش متعمد للوعي من قبل أعداء التغيير الحقيقي وداعميهم من شعوب الهامش ويجب الصمود تجاه الضغوط النفسية الهائلة والإستقطاب الحاد التي تمارسه بعض الجهات وعلى شعبنا التفكير خارج المألوف لتحديد الجهة التي تخدم أهدافكم الإستراتيجية والوقوف في الجانب الصحيح من التاريخ بدلاً من لعب دور الكمبرادورات والآليات ومساعدة قوى السودان القديم (بالمجان) الذي ظلت تضطهد شعبنا منذ سنين في تحقيق أهدافهم بإعادة إنتاج نفسها والإستمرار في الظلم والإضطهاد والتهميش على حساب الشعوب المهمشة لأن السودان لن يعود كما كان وأن الخيارات الداعية للاصطفاف حول صانع الأزمات لن تقود لتحقيق أهداف الثورة و التحرير ويجب على شعبنا إدراك هذه الحقائق قبل فوات الأوان.

رسالتنا الأخيرة لكل السودانيين الذين تضرروا تاريخياً من أزمات الوضعية التاريخية المختلة والمشوهة للدولة السودانية، ألا تقفوا في الصف الخاطئ من التاريخ وتندموا عليه يوماً ما.

النضال مستمر والنصر أكيد

مجتبى حماد آدم
الثلاثاء الموافق 25 فبراير 2025م

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.