“تس سليلة دبرفيل” لتوماس هاردي: فتاة ريفيَّة في تعاسة (6 من 9)
الدكتور عمر مصطفى شركيان
فها هي تس تغادر بيت أهلها صوب قرية أخرى بحثاً عن العمل، وبعد أن تلقَّت خطاباً من مريان تفيدها بأنَّ هناك ثمة فرصاً للعمل في المزرعة التي تعمل فيها هي الأخرى، فالحلال لا يأتي إلا قوتاً، والحرام لا يأتي إلا جزافاً. ففي سيرها إلى القرية إيَّاها، وفي قارعة الطريق إذ هي تقبل على رجل؛ وإذ هي تنظر إليه بعد الاقتراب منه، وتدرك أنَّه هو ذلكم الرجل الذي كان بعله قد سدَّد له ضربة قاضية في بهو الفندق من قبل؛ وإذ هو يتعرَّف عليها بعد أن نظر إليها ويذكِّرها بما حدث؛ وإذا بقلب تس يبلغ حنجرها، وتسرع في الخطى تارة، ثمَّ تفرُّ فراراً تارة أخرى كأنَّها فرَّت من قسورة لتلقي بنفسها في مزرعة أحد القرويين، ثمَّ تنشئ لنفسها تلَّاً من أوراق الشجر الجافة، وتختبئ داخلها، وتنام حتى الصباح لتعاود سيرها.
وبعد وصولها في اليوم التالي ومقابلة مريان استخدمتها زوجة صاحب المزرعة الذي لم يكن متواجداً في ذلك الوقت، ومن ثمَّ انطلقت تعمل مع زميلاتها في المزرعة في حصاد المحاصيل، وقد التحقت بهنَّ إزابيل، وكذلك وجدت اثنتين من الفتيات اللتان تشاجرتا معها في تانتردج قبل سنوات. وفي اليوم التالي بينما كنَّ منغمسات في العمل في المزرعة إيَّاها جاء صاحب المزرعة لتفقُّد سير العمل وأحوال العمال؛ فإذا به ينظر إلى تس ويديم النظر إليها؛ وإذا تس تلتفت إليه وتدرك أنَّه الرجل الذي هرب منه في الطريق العامة؛ ثمَّ إنَّه الرجل الذي كان زوجها قد لطمه في الفندق من قبل، ومن ثمَّ يشرع في الحديث إليها تأنيباً، وينذرها إنذاراً، ويتوعَّدها وعيداً. غير أنَّ تسَّاً لم تكن تأبه بما يقول، وتشجَّعت وواصلت عملها وكأنَّ شيئاً لم يكن. وفي أمسيَّة من الأمسيات، وذلك بعد أن احتست مريان خمراً حتى لعب الخمر بعقلها، ومن ثمَّ طفقت تفوح بمكنون أسرارها حيث أخبرت تسَّاً أنَّ زوجها أنجيل كان قد رام ورغب في استصحاب إزابيل إلى البرازيل، وهو الذي كان قد حملها في مركبته حتى محطة السكة حديد، لكنه غيَّر رأيه. ومن هنا أخذت الدموع تسيل على وجنتي تس مدراراً، ويحول الأسى وجهها شاحباً، وأخذت أحشاؤها تحترق، وأمست عواطفها تتمزَّق إرباً إرباً.
وذات مرَّة عزمت تس أن تزور والدي زوجها لعلَّها تجد منهما خبراً عن بعلها؛ فإذا هي تختار عطلة نهاية الأسبوع لسفرها؛ ثمَّ إذا هي تغدو في فجر الأحد والطير في وكناتها قاصدة القرية التي ظنَّت أن تجد فيها والد بعلها. وما أن وصلت إلى هذه القرية حتى قصدت الكنيسة عسى أن تجد والد زوجها الأسقف يخطب في العابدين والعابدات. فإذا هي تدخل الكنيسة خلسة في حين غفلة من أهلها؛ وإذا هي تنتبذ لنفسها مكاناً قصيَّاً؛ وإذا هي ترنو إلى الخطيب وهو يخطب خطبة مرعدة، ثمَّ تديم النَّظر إليه؛ وإذا هي تشعر بالدم وبالكاد يفور في شرايينها وأوردتها. وما هي إلا لحظات حتى ينظر إليها الأسقف ويعرفها، ومن ثمَّ يشرع في التلعثم في الكلام، ولا يكاد يبين من الأمر شيئاً. تُرى من ذا الذي يكون هذا الخطيب؟ إنَّه أليكس دبرفيل، وهو ذلكم الشاب النزق الذي كان قد حمَّلها سفاهة في تانتردج، وها هو قد تاب إلى الله متاباً بعد أن جادله والد بعلها في القريَّة إيَّاها، وها هو الآن رجل تائب أو شبِّه لها بذلك، وصار رجل دين، وبرز في ثياب الواعظين، يسبُّ الماكرين، ويجادل من لم يهده رشده إلى الدِّين.
وما أن فرغ من خطبته البتراء – أو بالأحرى لنقل بتر خطبته من يدري – حتى يجيء سراعاً، ويتبادل أطراف الحديث مع تس محاولاً معرفة الكثير أو القليل عنها بعد غياب دام ثلاث سنوات، إلا أنَّ تسَّاً كانت شحيحة في أشدَّ ما يكون الشحُّ في حديثها، وأبت أن تجود له بأيَّة معلومة. وفي نهاية الأمر يذهب أليكس إلى قرية مجاورة حيث كان له فيها موعد للوعظ والإرشاد، وودَّعها على أمل أن يلتقيها مرَّة أخرى. ثمَّ تقفل تس راجعة إلى مضجعها ومكان عملها. وبعد زيارة ثمَّ زيارة أخرى يحضر إليها أليكس، ويحاول التقرُّب منها حبَّاً وولهاناً، والتودُّد إليها بشيء من العاطفة الجيَّاشة، ويطلب يدها للزواج بعد أن أخبرها بأنَّه باع منزل والدته، وهو الآن ينتوي الهجرة إلى إفريقيا لتبشير الأفارقة بالمسيحيَّة والانخراط في شيء من التجارة. إزاء ذلك يطلب منها أن تكون زوجته، وأن تسافر معه إلى إفريقيا. غير أنَّ تسَّاً ترفضه وتلفظه لفظاً غليظاً، وتزجره زجراً كبَّاراً، وتخبره بأنَّها متزوِّجة. وبعد الإلحاح، الذي لم يكد يأتي بشيء، يغادر أليكس إلى حيث أتى حسيراً مكسوف البال.
وللرواية بقيَّة،،،