“تس سليلة دبرفيل” لتوماس هاردي: فتاة ريفيَّة في تعاسة (4 من 9)
الدكتور عمر مصطفى شركيان
[email protected]
مهما يكن من أمر إمرؤ القيس، فبعد عودة الفتيات الأربع من تلك الرحلة التعبُّديَّة، وفي مساء ذلك اليوم، وفي حديثهنَّ الليليَّة، ها هي ريتي تتمنَّى أن تكون ميَّتة، وتقرُّ مريان بأنَّها سوف لا تهتم كثيراً أو قليلاً منذ اليوم، حيث انحدرت عواطفها إلى الدرك الأسفل، ومن ثمَّ شرعت تبوح بسرِّها لأوَّل مرَّة بأنَّها ستتزوَّج اللبَّان في ستيكلفورد، وهو الذي كان قد طلب يدها مرَّتين من قبل ورفضت، وها هي تقبل الآن بعدما ضاقت الأرض بما رحُبت – أي كما يقول المثل الشعبي السُّوداني “حليمة رجعت لقديمها.” أما إزابيل، التي أخذت تنمنم بكلمات غير مفهومة في بادئ الأمر، فقد شرعت تقول في نهاية الأمر إنَّها تمنَّت ثمَّ تمنَّت أن يقبِّلها كلير أثناء ذلكم العبور، لكنه لم يحرِّك ساكناً أبداً، لذلك لا ترغب أن تكون متواجدة هنا في تالبوثيز أكثر من ذلك، فسوف تغادر إلى ديار أهلها على التو.
وفي إحدى الأيَّام إذ يعود أنجيل كلير إلى أهله يتمطَّى؛ وإذ يخبر والديه بأنَّه يريد أن يتزوَّج بفتاة لها خبرة بالمزرعة، وتربية الحيوان ورعاية الدواجن واحتلاب الأبقار، وإدارة العمل والعمال في المزرعة؛ وإذ أنَّ والديه كانا قد فكَّرا في أن يتزوَّج ابنهما إحدى السيِّدات ابنة جارهم؛ وإذ يتمَّ النقاش في الأمر؛ ثمَّ إذ لم يفصح أنجيل عمَّن تدور في مخيَّلته من البنات. وفي طريق وداع الوالد للولد، شرع الأوَّل يتحدَّث عن تجاربه في الوعظ والإرشاد، وكيف أنَّه التقى بشاب غرير أرعن في منطقة تانتردج، وكان شاباً لاهياً ماجناً، ووالدته سيِّدة عمياء؛ وإذا هو يقول لابنه الذي كان على وشك المغادرة إنَّه حاول ما وسعته المحاولة أن يصلح هذا الشاب الماجن دون أن يرتقي إلى ذلك سبيلاً، بل نال منه الإساءات ما أكثرها وقلة الأدب؛ ثمَّ إذا هذا الشاب يُدعى أليكسندر المعروف اختصاراً بأليكس.
وها هو اليوم أنجيل كلير يعود إلى تالبوثيز، ويطلب يد تس للزواج، وها هي تمانع في الأمر لفظاً، وتصارع في الطلب شعوراً، وتقول إنَّها لتحبَّه، لكنها لم ترغب في الزواج منه لأنَّ والديه لسوف لا يرضيان باقتران ابنهما بفتاة من طبقة اجتماعيَّة وضيعة؛ ثمَّ إذا كلير يحاول إقناعها بأنَّها فتاة متديِّنة ترتاد الكنيسة للتعبُّد والتقرُّب إلى الله زُلفى، وإنَّ والده الأسقف لسوف يروق له هذا المسلك، ولسوف تتفقان في المذاق الكنسي. ويتوقَّف الأمر هنا لتواصل تس في احتلاب الأبقار برغم من أنَّها كلما حاولت أن تستمسك بالكاشطات تحت المضخَّة لتبريدها من أجل العمل إلا أنَّ يدها أخذت ترتجف، لأنَّ صلابة عاطفتها باتت مخدوشة، وظلَّت ترتعد تحتها مثلما يحدث للنباتات في حرارة الشمس المحرقة.
وتمر الأيَّام والأسابيع ويتفق العشيقان على الزواج، ويحدِّدان موعداً معلوماً ألا وهو اليوم السابق لأعياد رأس السنة. وقبيل الزواج يذهب الخطيبان للتسوُّق في إحدى أسواق مدينة مجاورة، وينزلان في فندق. فإذا أنجيل كلير يذهب لإحضار الحصين قبيل المغادرة في الصباح، ويترك تس تجلس في بهو الفندق، الذي ظلَّ مكتظاً بالنَّاس دخولاً وخروجاً؛ وإذا برجلين يمرَّان عليها، ويديم إحداهما النَّظر إليها، ويمتَّع نظره بالدهشة، ويبدو لتس بأنَّه من أهالي تانتردج، تلك المدينة التي عملت فيها من قبل كراعية دواجن، وكان لها فيها ما كان مع أليكس؛ ثمَّ إذا الآخر يقول معلِّقاً: “يا لها من آنسة حسناء! حقيقة حسناء، ولكن إذا لم ارتكب خطأً فادحاً – .” وفي تلكم الأثناء يعود أنجيل من الأسطبل، ويسمع ما تفوَّه به الرجل السليط اللسان من إساءة على صاحبته. وعلى التو يسدِّد أنجيل لكمة على وجهه قذفت به في دهليز الفندق؛ وإذا أنجيل يخرج خارج الفندق، ويشمِّر ساعده، وينتظره ريثما يخرج ويحاول الانتقام، بعد أن يفيق من الضربة القاضية، لكنه يختار الاعتذار، بعد أن نظر نظرة أخرى لتس؛ ثمَّ إذا أنجيل يمنحه خمسة قروشاً لشراء لصقة لجرحه الذي سبَّبه له على خدِّه، بعدما أحسَّ أنَّه كان على عجلة من أمره. وينصرف الرجلان إلى سبيلهما، ويقول الآخر للمفجوع هل حقاً أخطأت الآنسة تشبيهاً؟ كلا، ولكن لم أودُّ أن أجرح شعور السيِّد.
وتمر الأيَّام ويأتي يوم الزفاف، ويتمَّ ذلك في حضور صاحب المزرعة وبعلته والبنات الثلاث وثلة من أهل القرية. وما أن انتهت مراسيم الزواج في الكنيسة، وخرج الجميع، وقبَّل أنجيل كل من ريتي ومريان وإزابيل على خدودهنَّ، وهمَّ العريسان بالمغادرة، حتى تصايح ديك أبيض ذو تاج وردي كان قد قدم وجلس على سورٍ أمام المنزل، وعلى بضع ياردات منهم، وكان صياحه يخترق الآذان اختراقاً، ويبدو كرجع الصدى، ويتضاءل ثمَّ يتلاشى في وادي الصخور. وإذا بعلة صاحب المزرعة تتأوَّه “آه، تصايح الديك بعد الظهر!” وإذا بأحد الرجلين اللذان كانا يقفان ويحملان البوابة يقول للآخر هذا نذير شؤم! وإذا الديك يكرِّر الصيحة مباشرة نحو العريس أنجيل كلير؛ ثمَّ إذا تس تبدي اشمئزازها وانزعاجها من هذا الديك الصحوح، وتقول لبعلها “أأمر سائق المركبة ليتحرَّك بنا سراعاً؛ وإذا النَّاس يختلفون في تفسير تصايح هذا الديك بعد الظهر، فمنهم من قال إنَّه لإعلان عن تغيُّر الموسم من الخريف إلى الشتاء، ومنهم من اعتقد جازماً أنَّ في الأمر نذير شيء مأسوي قادم!
وللرواية بقيَّة،،،