“تس سليلة دبرفيل” لتوماس هاردي: فتاة ريفيَّة في تعاسة (3 من 9)
الدكتور عمر مصطفى شركيان
[email protected]
وفي أمسيَّة من الأمسيات، أو مغرب من المغارب، كان مستر كلير يجلس في حديقة الدار، فإذا بالفتيات الثلاث يتدافعن نحو نافذة إحدى الغرف وهنَّ في فساتين النوم وحافيات الأقدام؛ وإذا هنَّ يتأرجحنَّ ويتزاحمنَّ يمنة ويسرة كل واحدة منهنَّ تريد أن تظفر بمشاهدة شخصه والاستمتاع برؤيته وحدها لا شريكة لها؛ ثمَّ إذا كل واحدة منهنَّ تمني نفسها وحدها بأن تتزوَّجه. إذ كانت هناك البهيجة المدوَّرة، والشاحبة ذات الشعر الأسود، ثمَّ التي هي بذات اللون الفاتح، وتريس شعرها ذي اللون الكستنائي.
وها هي الحال حتى طفقت ريتي تقول لأصغرهنَّ لا تدفعني إنَّك لتراه كما أراه أنا، وهي بالكاد لا تحرِّك عينيها من النافذة شبراً، أو تنطق حرفاً. “ليست هناك ثمة فائدة في أن تكوني في الحبِّ معه أكثر مني،” هكذا قالت ريتي بريدل لمريان صاحبة الوجه البشوش وأكبرهنَّ سناً، “وذلك لأنَّ عواطفه متعلِّقة بخدود أخرى غير خدودك.” ومع ذلك أمست ريتي تنظر، وكذلك الاثنتان. “لقد ظهر هناك مرَّة أخرى،” هكذا صرخت إزابيل هيويت، وهي تلك التي كانت شعرها أسود رطباً، وذات شفتين مصممتين بدقة متناهية. ومن هنا ردَّت ريتي على إزابيل قائلة: “ينبغي ألا تقولي أي شيء، لأنَّك قبَّلت ظله تقبيلاً!” وطفقت مريان سائلة: “ماذا تقولين، هل رأيتيها تفعل ذلك؟” وردَّت ريتي: “لِمَ لا – كان يقف في الدهليز للتخلُّص من مخرجات اللبن، ووقع ظلُّه على الحائط خلفه بالقرب من إزابيل، التي كانت تقف هناك هي الأخرى لتفرِّغ اللبن في البرميل، ووضعت فاها على الحائط وقبَّلت ظلال فاه، لكنه لم يفعل شيئاً.” “آه، يا إزابيل هيويت!” ومن هنا ظهرت بقعة ورديَّة وسط خد إزابيل هيويت، وأعلنت بهدوء: “حسناً، ليس هناك ثمة أذى في ذلك إذا كنت في حبٍّ معه، وكذلك أنتِ يا ريتي ومريان هي الأخرى.” أما وجه مريان فإنَّه لم يبد احمراراً من الخجل أكثر من لونه البمبي القديم، وردَّت معقَّبة: “أنا، وأيم الله حكاية! ألا تراه هناك للمرَّة الثانية، ما أعظم العيون، وما أعظم الوجه! إنَّه لمستر كلير!” وفيما هنَّ في هذه الحال يتجاذبن أطراف الحديث عن هذا الشاب الذي سكن قلوبهنَّ، ويتنافسن في زواجه من اتجاه واحد، ويقذفنَّه بقبلات على الهواء، غير أنَّهنَّ أدركن أنَّه مملوك لتس ديبريفيلد – كما أفادت مريان – لأنَّها ظلَّت تراقبه يوميَّاً، ومن ثمَّ توصَّلت إلى هذه الحقيقة.
مهما يكن من أمر، فقد قضين ليلتهنَّ بين أحداهنَّ باكية شاكية، وأخرى صاحية ساهرة حيث لم تذق من حلاوة النوم شيئاً، وثالثة باتت تغط في النوم وتكثر في الغطيط، عملاً بالمثل الشعبي السُّوداني القائل “إذا كثرت عليك الهموم إدمدم ونوم!” وقد ظهرت آثار ذلك كله عليهنَّ في الصباح حين أقبلن إلى العمل بعيون ناعسات، وخدود حمراوات، وكثيراً من التثاؤب والاضطراب.
وفي إحدى أيَّام الأحد خرجت هذه الفتيات الثلاث ورابعهنَّ تس إلى الكنيسة التي تبعد بضع أميال من المزرعة، وذلك للتعبُّد إلى الله والتبتُّل إليه تبتيلاً. وكانت أمطار الليلة الماضية قد أفسدت الطرق، وملأتها بالمياه الغزيرة، وكستها طيناً وكدراً، مما تسبَّب في تعطيل حركة سيرهنَّ إلى الكنيسة إيَّاها. وفيما هنَّ في هذه الحال الكارثيَّة لاح لهنَّ أنجيل كلير، وهو الذي كان قد خرج ليتفقَّد أحوال العلف الذي ربما أتلفه الفيضان. فإذا هو يتقدَّم نحوهنَّ؛ وإذا هو يتطوَّع في حملهنَّ للعبور بهنَّ إلى اليابسة؛ ثمَّ إذا هنَّ في قبول العرض يتردَّدن في أوَّل الأمر، ويتلعثمن في الحديث؛ ثمَّ إذا هنَّ يوافقن في قبول العرض في نهاية الأمر. إذ يبتدئ كلير بمريان أوَّلاً، وإزابيل ثانياً، ثمَّ بريتي ثالثاً. وفي كل ذلك بالكاد لم ينظر إلى تس، بل حبس نظره، ونظر إلى غيرها ليضلِّل أترابها، حتى يظنَّن أنَّه ليس بينهما حبٌ ولا يحزنون، وكأنَّه ممتثلاً قول الشاعر المخزومي القرشي عمر بن أبي ربيعة حين أنشد:
إذا جئت فأمنح طرف عينيك غيرنا
لكي يحسِبوا أنَّ الهوى حيثُ ينظُرُ
هذا، فقد أخَّر كلير إسعاف تس كما فعل إمرؤ القيس حين تأخَّر في تسليم ثياب عشيقته عنيزة، ثمَّ لم يأخِّرهنَّ حتى يجوعنَّ كما فعل أمرؤ القيس نفسه حين ظعنت النساء إلى الغدير المسمَّى “دارة جُلْجُل” وفيهن عشيقته عنيزة ابنة عمِّه شرحبيل، واضطرَّ أن يعقر للعذارى دابته، فجعلنَّ يلقي بعضهنَّ إلى بعض شواء المطيَّة، استطابة أو توسُّعاً في طول نهارهنَّ، وشحمها كالإبرسيم الذي أُجيد فتله:
ويوم عقرتُ للعذارى مطيَّتي
فيا عجباً من كورها المتَحَمَّل
فظلَّ العذارى يرتمين بلحمها
وشحمٍ كهُدَّاب الدَّمَقْس المُفَتَّلِ
وللرواية بقيَّة،،،