تسليم عمر البشير ومن صدرت بحقهم أوامر قبض للمحكمة الجنائية الدولية، من واجبات تحقيق العدالة

د.أبوذر الغفاري بشير عبد الحبيب

 

تضاربت آراء المعلقين على ما صرح به السيد محمد حسن التعايشي عضو مجلس السيادة، حول الاتفاق مع الحركات المسلحة على مثول المتهمين بجرائم حرب وجرائم الإبادة الجماعية وحقوق الانسان، الذين صدرت بحقهم أوامر قبض لدى المحكمة الجنائية الدولية، ويشمل هذا التصريح الرئيس السابق عمر البشير ووزير داخليته عبد الرحيم محمد حسين والوالي أحمد هرون، وعلي كوشيب أحد زعماء مليشيات الجنجويد. وقد أسس عدد من الذين أبدوا اعتراضهم على عزم الحكومة على تسليم المتهمين، على مفهوم السيادة الوطنية وأنه يتعين الاقرار للمحاكم الوطنية بممارسة دورها القضائي مستندين في ذلك إلى ميثاق المحكمة الجنائية الدولية الذي يسمح بمحاكمة المتهمين في إطار النظم الوطنية إذا قامت بدورها المطلوب في إجراء التحقيقات اللازمة والمحاكمات العادلة. كما اعترض آخرون على التسليم بحجة أن محكمة الجنايات الدولية محكمة سياسية.
لا أظن أن العقدة تتعلق بعدالة المحاكم الوطنية التي يمكن ان تتولى النظر في التهم الموجهة للمتهمين ونزاهتها، وفي تقديري أن القضاء السوداني أثبت بعد انتصار الثورة كفاءة في المحاكمات التي لها علاقة بالنظام السابق، ويتضح ذلك جلياً من خلال محاكمة عمر البشير في تهمتي الثراء غير المشروع والتعامل بالنقد الأجنبي، ومحاكمة قتلة الشهيد أحمد الخير، فقد أتسمت القرارات التي صدرت بخصوص المحاكمتين، بمستوى عال من المهنية والتأسيس القانوني الجيد، بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع مخرجاتها النهائية. بينما يكمن جوهر المشكلة في التشريعات الوطنية التي يمكن أن يتم الاحتكام لها. حيث إنها لا تحقق العدالة المطلوبة، وتسمح بإمكانية إفلات المتهمين من العقاب. ويتضح ذلك من خلال النظر في التشريعات التي تطبقها المحاكم الوطنية:
1- تتعلق التهم التي صدرت بموجبها مذكرات توقيف على المطلوبين الأربعة من المحكمة الجنائية الدولية بجرائم الحرب وجرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية، ولم يكن القانون السوداني يتضمن جرائم خاصة من هذا النوع، وإنما أدخلت بموجب تعديل على القانون الجنائي السوداني في العام 2009، حيث أضيف الباب الثامن عشر على القانون الجنائي لسنة 1991 تحت مسمى الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب، واحتوى على منظومة تشريعية متكاملة لهذه الجرائم والمعاقبة على ارتكابها. ووفقاً للقاعدة القانونية المستقرة التي تقضي بعدم سريان القانون بأثر رجعي، فإن هذا الفصل لا يجوز تطبيقه على كل الانتهاكات القانونية التي حدثت قبل سريان التعديل على القانون الجنائي. ومن المعلوم أن النزاع المسلح الذي تتعلق به هذه التهم اندلع في العام 2003 مما يعني أن المحاكم الوطنية قد تواجه تحدياً قانونياً واضحاً في محاكمة المتهمين عن الجرئم التي وقعت خلال الفترة من 2003 وحتى 2009. ورغم أن بعض النظم القانونية الأجنبية تسمح بتطبيق العقوبات بأثر رجعي في الجرائم ذات الخطورة، إلا أن هذا المعيار هش نسبياً في القانون السوداني، ويحتاج إلى جهدر مقدر لاقناع القضاء الوطني بمشروعيته وجدواه.
2- فطنت الوثيقة الدستورية إلى إمكانية سقوط جرائم الحرب والإبادة الجماعية وحقوق الانسان بالتقادم في ظل القواعد المدرجة في القانون الجنائي، وسعت إلى تلافي هذا الخلل فنصت على عدم تطبيق قاعدة السقوط بالتقادم على جرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية وجرائم القتل خارج نطاق القضاء وانتهاكات حقوق الانسان والقانون الدولي الانساني. ولكن تظل المشكلة قائمة وهي عدم انطباق النصوص المدرجة في القانون الجنائي على الأفعال التي تمت قبل سريان هذه النصوص، وهو ما لم يتم معالجته في الوثيقة الدستورية، مما يجعل من نصوص عدم السقوط بالتقادم المذكورة في الوثيقة الدستورية وكأنها ليست بذات قيمة، لعدم انطباق النصوص التي أدرجت في القانون الجنائي في العام 2009 على الأفعال التي جرت قبل ذلك التاريخ.
3- يواجه القضاء الوطني في السودان تحديات جدية تتعلق بالعقوبات التي يمكن أن توقع على بعض المتهمين، نظراً لبلوغهم سن السبعين بما فيهم رئيس الجمهورية السابق. فقد نصت المادة (48) من القانون الجنائي لسنة 1991 على اتخاذ تدابير خاصة بالشيخ الذي بلغ السبعين من العمر، وذكرت أنه في غير جريمة الحرابة لا يجوز الحكم عليه بالسجن، ويجوز للمحكمة تسليمه لوليه لرعايته أو تغريبه أو إيداعه إحدى مؤسسات الإصلاح والرعاية لمدة لا تتجاوز سنتين. وسار على نفس الاتجاه البند الرابع من المادة (33) من ذات التشريع حيث نص على أنه في غير حالة جريمة الحرابة لا يجوز الحكم بالسجن على من بلغ السبعين من العمر، فإذا عدل عن الحكم بالسجن أو سقط لبلوغ عمر السبعين تسري على الجاني عقوبة التغريب. وقد ثبتت هذه التحديات عملياً من خلال المحاكمة التي جرت للرئيس السابق، والتي لم تجد فيها المحكمة بداً غير اتخاذ التدابير الخاصة بمن بلغ السبعين من العمر رغم إدانته بالتهم المنسوبة إليه. وهذه الدلائل تشير إلى اتجاه واحد هو إمكانية إفلات المتهمين من العقوبات.
يرفع كثير من الذين يعارضون تسليم المطلوبين إلى المحكمة الجنائية، دفعاً غير مؤسس بأن محكمة الجنايات الدولية محكمة سياسية. والذي يتابع كيفية اختيار قضاتها والمعايير المتبعة في انتقائهم يلحظ القدرات المهنية والخبرات القانونية الرفيعة التي يتمتعون بها. كما أن التجارب العملية في الأحكام التي صدرت عنهم أثبتت صحة هذه الفرضية في القضايا التي تم إصدار أحكام بشأنها. وقد مثل أمامها بكامل طوعه واختياره بحر إدريس أبو قردة وزير الصحة في النظام السابق، وكان متهماً بارتكاب جرائم حرب، لاشتباهه بقيادة هجوم أدى إلى قتل عدد من جنود قوة الاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة المشتركة لحفظ السلام في شمال دارفور، وخلصت المحكمة إلى عدم كفاية الأدلة التي تثبت مسؤوليته الجنائية كشريك أو كشريك غير مباشر في الجرائم التي نسبها إليه الاتهام، مما يدعم فرضية عدالة المحكمة وعدم انسياقها وراء الاتهامات دون دليل.
السبيل الواضح لتحقيق العدالة في قضية المطلوبين لدى المحكمة الجنائية الدولية هو مثولهم أمامها، دون حساسية تتعلق بالسيادة الوطنية. فحين يصوغ المطلوبون للعدالة التشريع الوطني بما يساعدهم على عدم الخضوع لأحكامه عن جرائم خطيرة اتهموا بارتكابها فإن القانون الدولي هو الحل.

2 تعليقات
  1. محمود أبكر يقول

    لك كل الشكر والتقدير دكتور أبو زر الغفاري.

    القانون الجنائي السوداني لسنة 1991م يعتبر حجر عثرة لمحاكمة رموز النظام البائد المتهمين بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية
    كذلك كل القوانين يجب تعديلها حتى تتواكب مع حكومة الثورة
    كذلك لابد من تغيير العقيدة القضائية أسوة بتغيير العقيدة العسكرية لأن كثير من القضاء التحقوا بالسلك القضائي بطريقة معيبة ، كذلك لابد من توفر الإرادة الحقيقية لمحاكمة رموز النظام السابق من دون أي محاباة وهذا يقودنا بالضرورة من الفصل بين السلطات اي فصل السلطة القضائية من السلطة التنفيذية

  2. ياسر عبدالوهاب عبدالغني يقول

    هل وجود المحكمة الجنائية الدولية يشكل اعتداء على سياده الدول؟ الاجابه بكل ثقه لاَ وذلك لسبب بسيط هو ان المحكمه الجنائية الدولية تم إنشاء وها بمقتضى اتفاق دولي؛ يستند الي تراضي الدول فاذا قررت الدوله بمحض ارادتها وارتضت الالتزام باحكامه حتي تلك المقيده لسيادتها فان ذلك لا يتعارض وتلك السياده لان التراضي علي الارتباط بمعاهده دوليه يشكل ممارسه للسياده وليس هجرا لها او اعتداء عليها

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.