تراث جبال النوبة في الماضي والحاضر ومألات المستقبل
✍🏿 بقلم: الأستاذ يوسف أمين أحمد كاكتلا (٢ - ٤)
نواصل بالقول ظل هذا العنصر السكاني القديم، والمعروف في كتب التاريخ بثقافة المجموعة الأولى (أ) يعيش في المنطقة المعروفة حاليا بالولاية الشمالية حتى نحو القرن الثالث والعشرون قبل الميلاد، حيث تعرض لوصول مجموعة مهاجرة، يرى اغلب المؤرخين، انها أتت من المناطق الواقعة غربي النيل (على الأرجح هم سكان جبال النوبة الحاليين) وقد تحركت تلك الهجرات بفعل تغير المناخ في المنطقة التي أصبحت اليوم الصحراء الكبرى، وبدأت آثاره في قلة موارد المياه والغطاء النباتي، فازدادت التحركات السكانية متجهة نحو النيل.
فالوافدون الجدد من مناطق الصحراء غربي النيل، ذو بشرة سمراء مثل السكان الذين نزلوا عليهم ويذكر المؤرخون أنهم كانوا رعاة بقر وتحركوا بأبقارهم ذات القرون الكبيرة نحو النيل، إذ أن مناطقهم أصبحت غير صالحة لرعي البقر. ويرى المؤرخون أن هؤلاء الوافدين المعروفين بالمجموعة الثقافية (ج) ينتمون إلى سلالة المجموعة الثقافية (أ) المستقرة على النيل، ويبدو أن مجموعة منهم تحركت جنوبا نحو أواسط وغرب دارفور، وربما ما تزال سلالة أبقار ((المجموعة ج)) وسلالات الأبقار التي ذكرها المؤرخون موجودة حتى الآن عند قبائل البقارة في غرب السودان
فالتداخل بين سكان وادى النيل السوداني وسكان غرب السودان يعود إلى قرون كثيرة قبل ميلاد المسيح وآثار الحضارات المتعاقبة التي ما زالت توجد أطلالها على النيل اليوم، قامت نتيجة التلاقح السكاني بين الشعوب المستقرة على النيل وروافده وسكان المناطق المتصلة بالنيل وخاصة المناطق الغربية. ويبدو أن أعداد الوافدين الجدد ((المجموعة ج)) إلى النيل كانت كبيرة، فلم يتركوا آثارهم على مناطق النيل فقط، بل إمتدت تلك الآثار إلى مناطق شرق السودان، حيث أثبتت الحفريات الأثرية للمقابر القديمة في شرق السودان، كما ذكر (أركل)، أن السكان هنالك ينتمون إلى سلالة المجموعة (ج) نفسها وأضاف (أركل) أن البديات والميدوب ونوبا الجبال والبجا الذين هم سلالة (الميجا أو ميجالو)، كل هؤلاء هم سلالة الجنس الأسمر نفسه الذي كان مستقرا في الصحراء غرب النيل.
كل هذه المجموعات التي إستقرت في شمال السودان، إلى جانب مجموعات أخرى في الوسط والشرق، أسست فيما بعد دولة كوش فى (كرمة)، بعد أن استقبلت المنطقة تحركات سكانية من الغرب والجنوب الغربى، وقد إمتدت حدود دولة كوش شمالا حتى أسوان كما وضح ذلك المؤلف محمد إبراهيم بكر.
إذا سكان منطقة الصحراء الغربية والبحر الأحمر شرقا ودارفور جنوبا كانوا ينتمون إلى سلالة ثقافية واحدة، وقد تأثروا عرقيا وثقافيا بالهجرات المتصلة من المناطق الواقعة إلى الغرب والجنوب الغربي، وهي مناطق دارفور وكردفان الحاليتين وإمتدادهما شمالا وغربا وهذا هو بيت القصيد ((وحدة سلالة الهامش السودانى منذ آلاف السنين)). وهكذا يتبين لنا الأثر الواضح، على التكوين السكاني السوداني، جاء من ناحية الصحراء الغربية للنيل، كنتيجة طبيعية للعلاقة بين المناطق الخصبة ذات الموارد المائية الدائمة، وبين المناطق الجدبة قليلة الموارد، تماما مثل علاقة صحراء شبه الجزيرة العربية بتاريخ بلاد ما بين النهرين القديم.
الخلاصة إذا مفادها أن التحركات السكانية حدثت على مر العصور بين الصحراء والنيل، ولم يقتصر تأثيرها على مناطق النيل وروافده فحسب، بل تعدى ذلك إلى مناطق الشرق، كما رأينا فى مثال آثار المجموعة (ج)، ولذلك فإن المؤرخين يرون أن البحث عن تاريخ السودان على الأقل حتى نهاية العصر المروي، ينبغى أن يتجه غربا وليس شرقا كما يتردد فى التراث والروايات الشفاهية المحلية فى السودان. وبناءا على ذلك فإن قبائل غربى نهر النيل (النوبة) كانت فى القرن الثالث قبل الميلاد منتشرة في المناطق المعروفة ب كردفان ودارفور (والصحيح في مسمى كردفان هو كردي فار لأن اول من سكن فى تلك المنطقة من أجدادنا كان يسمى كردي، وكان يمتطى صهوة جواده الأبيض متفقدا أحوال رعيته ويطوف حول جبل مدينة الأبيض المعروف وكلما رآه الإعراب الذين كانوا بأعداد قليلة حين ذاك، كانوا يفرون من أمامه خوفا من أن يصيبهم مكروه ولذلك كانوا يقولون بلغتهم كردي فار، أى غاضب ومكشرا عن أنيابه إستعدادا لمواجهته. وأخيرا تم إستبدال حرف راء الأخير بحرف نون لتكون كردفان تمشيا مع التغيرات التى طالت معظم أسماء مناطق جبال النوبة سواء أسماء أماكن أو أسماء الناس.
وقد خرجت هذه القبائل عن طاعة مملكة مروى وكونت وحدات إدارية مستقلة عنها، ولعل خروج هذه القبائل عن طاعة مملكة مروى حدث تدريجيا، حيث تكاثرت أعدادها، وربما تمكنوا من وضع يدهم على مسالك التجارة بين مصر ومناطق الجنوب عبر الواحة الخارجة والواحات الواقعة جنوبها، وهذا الطريق هو ما عرف في العصور اللاحقة ب(درب الأربعين). وقد حافظت قبائل النوبة على مواقعها وإستقلالها من مروى في المناطق الواقعة غربي النيل، فقد ذكر (أركل عن بطليموس) أن النوبة يسكنون الساحل الغربى للنيل والأراضى الداخلية ويعتقد المؤرخ المذكور أن إرتباط النوبة بغربى النيل يرجح أن موطنهم الأصلى إمتد من كردفان جنوبا وحتى مناطق غربى وادى حلفا شمالا. وكانت كردفان كذلك مرتبطة إرتباطا قويا بالنيل شمالا عبر وادى المقدم ووادى الملك، اللذان يجريان من شمال كردفان ويصبان فى النيل فى منطقتي كورتى والدبة على التوالى. ويرجح (أركل) أن التشابه بين لغة النوبة الحالية فى شمال السودان وبين لغات الكثير من سكان شمال وجنوب كردفان يرجع إلى تلك الصلات ويرى أن مملكة مروى عندما سقطت في الشمال، ظلت قائمة في كردفان ودارفور، وإستدل بأن إسم كوش الذى لم يعد مستخدما فى الشمال بعد سقوط مروى، ظل حيا بين سكان كردفان ودارفور، كما فى مناطق جبل ميدوب شمال كردفان والكاجار أو البرد في وسط دارفور، الجدير بالذكر اننا فى قبيلة جلد ما زال إسم كوشى مستخدما بكثرة بالنسبة للنساء.
يبدو أن إنتشار جماعات النوبة الواسع فى مملكة مروى واضحا فيما ورد في لوحة عيزانا ملك اكسوم (الحبشة) والتي دون فيها إنتصاراته على دولة مروى. فالنوبة هم سكان جزيرة مروى الذين وصفهم عيزانا بالنوبة السود، فالنوبة هم كل سكان منطقة الجزيرة ما بين النيلين الأبيض والأزرق ومنطقة البطانة بين النيل الأزرق ونهر عطبرة فى ذلك الزمن الغابر، والنوبة أيضا فى النقش هم سكان الشمال الذين وصفهم عيزانا بالنوبة الحمر، فهم سكان نهر النيل شمالى نهر عطبرة وحتى حدود السودان الشمالية. النوبة في نقش عيزانا هم الثوار الذين هددوا (أكسوم) على حدودها الغربية. النوبا في نقش عيزانا هم أصحاب المدن المشيدة بالطوب والقصب وهم أصحاب المزارع والنحاس والحديد والمعابد والتماثيل، وبناءا على ذلك وكما ورد في المصادر القديمة فالنوبة هذا الإسم الذى أطلق على سكان الوسط والشمال هو الهوية التى عرف بها جميع أولئك السكان. ويبدو مفهوم وإطلاق إسم النوبا على كل السكان واضحا أيضا حتى بعد سقوط مملكة اكسوم بزمن طويل، كما ورد فى كتابات الرحالة في القرن الخامس عشر الميلادى أن النوبة هى بلاد المملكتين المسيحتين اللتين قضى عليهما الفونج، وأن حدود مملكة علوة الجنوبية تمتد حتى جنوبى بحيرة تانا وهى آخر مملكة للنوبة والمعروفة تاريخياً بخراب سوبا، وربما بعدها إحتمي نوبة غربي النيل وكردفان بالجبال حتى تاريخ هذا اليوم، هذا هو تاريخ وتراث النوبا (النوبة) في العهد الذهبى، سطروا ملاحم وبطولات وحفظوا لنا البقاء، ولكن السؤال الأساسى والجوهريدى أين النوبة اليوم وهذا ما سوف نتناوله في المقال الأخير بتجرد وبشفافية والي ذلك الوقت إذا مد الله فى الآجال.