بين شرط العلمانية وفرض الثورة، فالتاريخ لا يصنعه الإصلاحيين! او في هل هي اللحظة التاريخية الحاسمة؟ 3-1

✍️ بروف: خالد كودي

 

ما هو مفهوم العلمانية، وما الدوافع وراء الاصرار علي طرحها الآن، في ظل الحروب المدمرة التي يشهدها السودان في المناطق التي تتنازع القوات المسلحة السودانية ومليشيشيا الدعم السريع علي السيطرة عليها؟

ما الدور الذي يمكن أن تلعبه العلمانية فيفي السودان في وقف كل حروب السودان، وفي تطور وتقدم الدولة السودانية؟

هل من الممكن أن يتم تطبيق العلمانية في السودان وفرضها على الدستور والقوانين الأخرى ثوريا و دون الحاجة إلى موافقة أي جسم تشريعي قومي؟

هل الثورة في السودان أمر مبرر، وهل تعتمد شرعية الثورة على وجود هيئات تشريعية تصادق عليها وتجيزها؟

هل يمكن اعتبار العلمانية ثورة، او أحد أوجه وملامح الثورة ، أو أحد أهدافها الأساسية ولاتحتاج الي هيئة تشريعية تصادق عليها وتجيزها- مثلها مثل الأهداف الثورية الأخرى التي لم تحتاج الي الاجازة والقبول من أي مؤسسات تشريعية؟

الأحزاب اليمينية الدينية في السودان، التي تشمل الأحزاب الإسلامية بأسمائها المتعددة، تظهر تباينًا مصطنع في مدى تشددها وفي كيفية رغبتها بتطبيق مبادئ الإسلام على الحياة الخاصة والعامة، فضلًا عن مستويات تحمسها المختلفة لفرض الشريعة الإسلامية على النظام القانوني للدولة. رغم هذه الاختلافات، تجمعهم نقطة توافق واضحة في مقاومتهم للعلمانية، إذ يرون أن أيديولوجيتهم لا تتماشى مع أي شكل من أشكال الحكم لا يقع ضمن الإطار الإسلامي. تضم هذه الجماعات من يعتقد أن السودان، بأغلبيته المسلمة، يجب أن يُحكم وفقًا للإسلام، متطلعين بحنين إلى عصور ازدهار الحضارات والممالك والإمبراطوريات الإسلامية السالفة، وينشرون دعواتهم لعودة مثل هذه الأمجاد.

بعض الأحزاب الدينية في السودان تروج لتبني نسخة معاصرة من الشريعة الإسلامية، مدعيةً أن نموذجها يختلف عن الأشكال التي شهدها العالم في تجارب كل من الإخوان المسلمين وحكومة الإنقاذ بالسودان، طالبان في أفغانستان، داعش في سوريا والعراق، والمنظومات الحاكمة في السعودية وإيران .. والخ. تزعم هذه الأحزاب أنها تقدم نموذجًا أكثر تقدمًا ومصداقية، وأنها تمثل تفسيرًا أقرب إلى جوهر (الإسلام الصحيح). هذه الادعاءات تولد حالة من الإرباك بين الكثير من السودانيين، إذ يتساءل كثيرون عن صحة هذه النماذج ومشروعيتها الإنسانية ومدى قابليتها للتطبيق في الواقع المعاصر.

في الجانب الآخر، تقدم الأحزاب السياسية النخبوية غير الدينية في شمال السودان تبريرات صريحة لموقفها من عدم إعطاء الأولوية للعلمانية في أجنداتها السياسية، مستندة في ذلك إلى عدة أسباب متنوعة.

أولًا، لابد من القول انه تُظهر بعض هذه الأحزاب دعمًا للعلمانية في الخفاء وداخل الغرف المغلقة دون التصريح عن ذلك علنًا. يعزون هذا التحفظ إلى كون أغلبية السكان في السودان مسلمين، مشيرين إلى ضرورة الأخذ برأي الشعب في قضية العلمانية قبل اتخاذ أي قرار يتعلق بها، معتبرين أن هذه القضية تؤثر على جميع السودانيين. يُنظر إلى هذا التوجه كإقصاء للأشخاص الذين يرون في العلمانية ملاذًا من الظلم والتهميش، كأنهم ليسوا جزءًا من الشعب السوداني الذي يقصده هؤلاء!

ثانيًا، يرى بعضهم أنه من الضروري تثقيف وتعليم الشعب السوداني حول مفهوم العلمانية وأنها ليست معادية للدين، ملقين بالمسؤولية على عاتق من يدعمون ويروجون للعلمانية في السودان.

ثالثًا، يرى بعض الأشخاص أنه من الضروري، من وجهة نظر ديمقراطية، أن يُمنح السودانيون الفرصة للتصويت على ما إذا كانوا يفضلون نظام العلمانية أو إقامة دولة تتبنى الدين بشكل معين، مع مراعاة أن الأغلبية في السودان مسلمة. هذا المسار قد جر العديد من النخب إلى فخ دعم مؤتمر دستوري تروج له الأحزاب الشمالية والدينية بالإضافة إلى مراكز القوة التقليدية، حيث يبدو أن الهدف هو استخدام الأغلبية العددية (الميكانيكية) لفرض إعادة تشكيل دولة دينية بدرجة ما. في هذا السياق، تعتقد مجموعات واسعة من النخب ومؤسساتها أن العلمانية لا تشكل أولوية حالية ولا تستحق النقاش في هذه المرحلة. من ناحية أخرى، يعتبر البعض أن الحل الأمثل يكمن في تأسيس “دولة مدنية” توفر توازناً بين الدين والدولة بصورة معتدلة، على الرغم من عدم وضوح تعريف الدولة المدنية بالتحديد، سوى أن الحكم فيها ينبغي أن يكون بأيدي المدنيين.

من المثير للانتباه أن النخب في السودان تنظر إلى المؤيدين والمروجين للعلمانية وكأنهم لا يشكلون جزءًا من النسيج الاجتماعي السوداني، معتبرة أنهم لا يستحقون نفس الحقوق والواجبات كباقي المواطنين. عبر الزمن، هذه النخب اعتبرت نفسها المتحدث الرسمي باسم الشعب السوداني، مؤمنة بأن القيم الثقافية والدينية، خصوصًا الإسلامية، هي التي ينبغي للدولة اعتناقها وفرضها على كافة المواطنين. في الوقت الحاضر، تتجاوز هذه النخب حدودها باتهام ضحايا التمييز الاثني و الديني عبر العصور بأنهم يتحملون المسؤولية عن عدم اعتراف المجتمع بالحقوق المتساوية لأفراده، معارضة بذلك أي محاولة لتأكيد حقوق المواطنة المتساوية. في سياق النزاعات الدائرة في السودان الان، تطالب هذه النخب الأشخاص الذين تم تجريدهم من حقوقهم المدنية بالصبر وانتظار توعية المجتمع حول أهمية إنسانية الضحايا وحقوقهم المتساوية، قبل أن يتم السماح لهم بالمطالبة بتلك الحقوق! بشكل أكثر تحديدًا، تذهب بعض هذه النخب إلى حد مطالبة الضحايا بتحمل مسؤولية تعليم وتوعية من ينتهك حقوقهم حول الحقوق الأساسية، قبل الدعوة إلى إنهاء وتغيير السلوكيات التي تنتهك هذه الحقوق. وما الدعوي لإقامة مؤتمو دستوري يجري فيه التصويت علي الإنسانية الكاملة و الحقوق الأساسية للمظلومين في السودان عبر تاريخه الا تأكيدا لتبييت النية علي الاستمرار في سياسات العنصرية و التهميش.

ما هي العلمانية بالضبط وعن ماذا نتحدث؟

العلمانية هي مبدأ سياسي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة، مما يؤدي إلى تحقيق المساواة بين الأديان وحرية المعتقد وعدم التمييز الديني في المجال العام.

ماهي أهمية العلمانية في سياق سيرورة الدولة السودانية؟

في سياق الدولة السودانية، تلعب العلمانية دوراً حاسماً في تعزيز المساواة وحماية حرية العبادة والمعتقد في بيئة تتسم بالتنوع الديني، العرقي، الثقافي، والفكري. هذا المبدأ السياسي يكتسب أهمية خاصة في السودان، حيث يسهم في ترسيخ حقوق المجتمعات المتعددة الثقافات ويضمن احترام وتقدير التنوع الديني والعقدي دون التعرض للتمييز أو الاضطهاد. كما أن العلمانية تساعد على ضمان أن يتمتع الأفراد بالحرية الشخصية في ممارسة شعائرهم الدينية أو اختيار عدم ممارسة أي دين، بدون تدخل من قبل الدولة أو المجتمع. بالإضافة إلى ذلك، تعمل العلمانية على تعزيز الحريات الفردية وضمان المساواة لجميع الأفراد، بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية أو عدمها، وتوفر حماية خاصة للأقليات الدينية، مما يجعلها عنصراً أساسياً في بناء مجتمع سوداني أكثر عدلاً وتسامحاً.

وفي السياق السياسي، تتعلق العلمانية بتفصيل العلاقة بين الدين والسلطة الحاكمة، وتدعو إلى فصل الدين عن الدولة لضمان حكم مستقل وعادل. فالعلمانية تهدف إلى إنشاء بيئة حرة وعادلة تضمن حقوق الفرد وتعزز التعايش السلمي والتفاعل الإيجابي بين أفراد المجتمع، سواء داخل الدولة أو خارجها في الحياة اليومية.

نظرًا لأن بعض المجتمعات والقوى الثورية في السودان تعتبر العلمانية شرطًا أساسيًا لتحقيق المواطنة المتساوية وبناء دولة ديمقراطية موحدة، تبرز الحاجة الماسة لتسليط الضوء على قضية حيوية تخص المواطنة المتساوية في السودان. وهذا يتطلب تحليلًا دقيقًا لمفهوم المواطنة واستعراض لتاريخ تطور الوعي بالحقوق المتساوية بين المواطنين، مع مراعاة الأثر الذي خلفته العوامل الدينية والإثنية في تعزيز أو عرقلة هذه المساواة. تحديدًا، النخب السودانية المسلمة غالبًا ما تتمتع بمكانة تفضيلية، معتبرة نفسها الممثل الأصيل للمواطنين، في حين يُنظر إلى غير المسلمين وغير العرب على ان مواطنتهم منقوصة، حيث يتم تجاهل آرائهم وحقوقهم ولا تُمنح الاهتمام المستحق، وهذا جليا في واقع التهميش وطبيعة الحروب.

عبر التاريخ، كان للعبودية دور محوري في تشكيل المجتمع والهوية الوطنية في السودان، بالإضافة إلى تأثيرها الملموس على تحديد مفهوم المواطنة ومبادئ الحقوق المتساوية بين الأفراد. السودان، منذ فترات مبكرة، شهد ممارسات العبودية كجزء أساسي من نظامه الاقتصادي والاجتماعي، حيث كان يتم اختطاف السكان المحليين وبيعهم كعبيد، سواء من القبائل المحلية أو المناطق الجنوبية أو حتى القبائل الأفريقية الأخرى التي تعرضت للهجوم. العبودية أثرت بشكل عميق على الجوانب الاقتصادية، الاجتماعية، والثقافية في السودان، حيث كان العبيد يُستغلون في الأعمال الزراعية الشاقة أو كخدم، وكثيرًا ما كانوا يتعرضون لمعاملة قاسية ولا إنسانية ويخضعون للظلم والاستغلال، مما ساهم في تشكيل الهيكلية الاجتماعية والاقتصادية الراهنة. مع تقدم الحركات العالمية لحقوق الإنسان، بدأ السودان في اتخاذ خطوات نحو القضاء على العبودية وضمان حقوق متساوية للمواطنين، حيث تم إصدار مرسوم العبودية في عام 1924 بواسطة الإدارة الاستعمارية البريطانية، وتبع ذلك قانون الرق في عام 1964 بعد استقلال السودان، الذي ألغى العبودية رسميًا وفرض عقوبات على ممارستها. والجدير بالذكر هنا ان النخب السودانية متمثلة في الأحزاب الدينية الرئيسية واعيان المجتمع ونخبه حينها أصدرت الفرمانات والمذكرات محتجة امام سلطات الاستعمار علي تحريم الرق وعتق المسترقين لان هذا يضر بمصالحهم الاقتصادية ومواقعهم الاجتماعية. اشهر هذه المذكرات اصدرت في ٦مارس ١٩٢٥ واطلق عليها مذكرة كرام المواطنين ووقع عليها كل من علي الميرغني، يوسف الهندي وعبد الرحمن المهدي.

آثار العبودية ما زالت تؤثر في المجتمع السوداني، مساهمة في استمرار التهميش والاضطهاد الاجتماعي، بالإضافة إلى دورها في تأجيج النزاعات والحروب اذ ان المجتمعات التي يقع عليها الاضطهاد ظلت تقاوم بانتظام واضطراد، ولاتزال.

علي كل، هذه الديناميكيات تبرز الحاجة الماسة لإعادة النظر في تعريف المواطنة وضمان تمتع جميع المواطنين السودانيين بحقوق متساوية، مما يجعل من الضروري الدعوة لتبني مبادئ مثل العلمانية كوسيلة لكسر حلقات التهميش، الإقصاء، والاضطهاد، والتأسيس لسلام مستدام.

تطبيق العلمانية كاستراتيجية ثورية لتعزيز المساواة والعدالة في المجتمعات التي تواجه صعوبات في تحقيق المواطنة والحقوق المتساوية يثير تساؤلات بشأن شرعية وقابلية تنفيذ مثل هذا النهج بدون الاعتماد على المؤسسات التشريعية الرسمية، خاصةً في بيئات منغلقة ومحافظة، او خارجة من تأثير أنظمة ثيوقراطية شمولية و قد تقاوم هذه التغييرات.

عبر التاريخ, شهدنا لحظات حاسمة تميزت بتدخلات ثورية جريئة أسفرت عن إعادة هيكلة الأنظمة السياسية والاجتماعية. هذه الفترات تقدم دروسًا قيمة حول إمكانية تنفيذ العلمانية. على سبيل المثال، كانت الثورة الفرنسية نقطة تحول رئيسية في تأسيس مبادئ الحرية، المساواة، والأخوة، ولعبت دورًا مهمًا في تعزيز الفصل بين الكنيسة والدولة في فرنسا. بالمثل، تجربة تجربة تركيا تحت قيادة مصطفى كمال أتاتورك، كيف أدت سلسلة من الإصلاحات العلمانية الجذرية في العشرينات والثلاثينيات إلى تحديث الدولة وإلغاء النظام السلطاني والخلافة العثمانية لتصبح تركيا علي ماعليه اليوم. وسنفصل في في هاتين التجربتين في الجزء الثاني من هذا المقال ونقاربهما مع وضع السودان.

عموما، مثل هذه الأمثلة تبرز بوضوح أن اللجوء إلى تدخلات ثورية لفرض العلمانية لا يعد خيارًا ممكنًا فحسب، بل قد يصبح ضروريًا أحيانًا للتخلص من أشكال التخلف، و التهميش والاضطهاد وإرساء أسس لنظام يقوم على مبادئ المساواة والعدالة. من الضروري الأخذ بعين الاعتبار السمات الثقافية والاجتماعية المميزة لكل مجتمع، مع ضرورة ضمان مشاركة جميع المواطنين، بمن فيهم أولئك الذين عانوا من آثار الدولة الدينية، في عملية التغيير هذه بشكل متساو، وليس للترميز التضليلي كما درجت النخب. هذا يتطلب شرعية ثورية تؤدي إلى تحقيق تغيير مؤثر وذي معنى للجميع.

تبين هذه المناقشة أن فرض نظام علماني يمثل استراتيجية حاسمة لتعزيز المساواة والعدالة دون الحاجة لانتظار مبادرات من المؤسسات التشريعية التي قد تكون غير فعالة أو متواطئة، خاصة في بلدان مثل السودان الذي لم يتعافى من عقود من الحكم الديني الفاشي و الاستبدادي. يُظهر هذا أيضًا أهمية العمل الثوري والشجاع في تحقيق التغيير، خصوصًا عند مواجهة معارضة من مجتمعات تتفشي فيها العنصرية و قد تقاوم تحقيق المواطنة والحقوق المتساوية.

رفي ختام هذا الجزء من المقال ترجع الي السؤال: هل يمكن تطبيق نهج فرض العلمانية ثوريا ودون الرجوع اوانتظار تكوين أجهزة تشريعية، وهل ثمة مبرر لهذا؟ هل يمر السودان بلحظات تاريخية محورية تستدعي مثل هذا التغيير الجذري والثوري والشجاع؟ فالثورة نفسها عملية جذرية وشجاعة، والثورة نفسها لا ترجع الي أي مؤسسات تشريعية ولا تنتطر تكوينها حتى تبت في امر قيامها او تصدر لها تشريعات لتسمية وتحقيق اهدافها. وهل يمكن العثور على سوابق أو أمثلة تاريخية تقدم نموذجًا يمكن استشارته والاهتداء به في هذا السياق؟

نواصل في الجزء القادم من المقال.

خالد كودي،

2024/ 10 بوسطن، فبرير/

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.