بناء الدولة :صراع التنظير والحضارة (1)

 

بقلم:/ كومان سعيد

يقول فوكوياما ” إن اجندة بناء الدولة , والتي لا تقل أهمية عن أجندة تقليص دورها , لم تعط قدرا موازيا من الإهتمام والتفكير فكانت النتيجة فشل الإصلاحات الليبرالية في تحقيق الوعود التي قطعتها على نفسها في العديد من دول العالم . وفي العديد من دول العالم أدي غياب الإطار المؤسساتي الملائم إلي ترك تلك الدول في وضع أسوأ مما كان يمكن أن تكون علية في الواقع بغياب تلك الإصلاحات “.

مفهوم بناء الدولة من المفاهيم التي لطالما شغلت بال السودانيين والافارقة و العرب بشكل خاص إبان ثورة الربيع العربي والثورات التي إنطلقت في كل أنحاء إفريقيا وهو الهدف الذي في سبيلة انطلقت الثورات علي مر التاريخ .في السودان بشكل خاص وبعد الثورة السودانية العظيمة التي أسقطت احد اكثر الانظمة السياسية دكتاتورية التي مرت علي تاريخ السودان ,نظام الجبهة الإسلامية ذو التنظير الأسلامي السياسي, النظام الإسلامي الذي اقتلع الدولة بالقوة عبر إنقلاب عسكري في يونيو 1989. ولأن السودان بقعة جغرافية متنوعة ثقافيا ودينيا , إثنيا …الخ كانت أيديولوجية النظام السابق ومشروعة الحضاري النقيض لهذا التنوع فعمل جاهدا علي تذويب هذا الإختلاف داخل بوتقة التنظير الإسلامي السياسي “المشروع الحضاري ” . خلق التنظير السياسي الإسلامي ” المشروع الحضاري ” بعد هيمنة علي الدولة منفردا كأول نظما سوداني يحكم الدولة منفردا, حيث كانت كل الحكومات المتعاقبة حكومات إئتلاف سياسي . خلق إنقلاب الجبهة الإسلامية واستيلائها على السلطة حالة من الانقسام السياسي داخل الدولة السودانية بعد الثورة الشعبية التي أسقطت نظام مايو , فكان الأمل إبان حكومة الصادق المهدي علي بناء دولة تسع الجميع وإيقاف الحرب التي بدأت حتى قبل إستقلال السودان. ولكن ولقصر نظر الجبهة الإسلامية وعدم درايتها بالواقع السوداني اصرت علي إدخال السودان في هذا الصراع السياسي الحضاري العالمي كأول دولة تتبنى التشريع الإسلامي كنظام حكم و كأيديولوجية سياسية منافسة ومتحدية الأيديولوجيات الغربية السياسية الحديثة , فرفعت شعارات ” أمريكا روسيا قد دنا عذابها وإني إذا لقيتها علي ضرابها” و الكثير من الشعارات الجهادية , مستخدمة السودانيين في معركة غير منصفة ومستغلة الدين كنقطة ضعف لأغلبية أهل السودان.

ولكن يبدو أن هذا الصراع الجلي بين النظريات الغربية الحديثة التي تأسست على العقد الإجتماعي و التي أصبحت معيار للدولة الحديثة و خيار لا مفر منه في مقابل النظريات الأخرى غير الغربية و الغير مبنية على منطق التعاقد الإجتماعي, يبدو جليا أن هذا الصراع يعكس بشكل كبير الفوارق الفكرية والزمنية التي استصحبت هذه التغيرات في مفهوم الدولة مقارنة مع الجمود الفكري والفلسفي للنظريات الأخري هنا اقصد بالأخرى التنظير الإسلامي للدولة بشكل خاص . وقبل الحديث عن الإسلام السياسي لابد هنا من ذكر الدور الكبير جدا الذي لعبه الاستعمار في تكوين هذه الدولة و المشاكل الإجتماعية الثقافية التي قامت على أنقاضها و التوزيع غير العادل للثروة والسلطة في دولة تتميز بالتعدد الديني الثقافي اللغوي الإثني . كل هذه الأمراض استصحبت هذه الدولة التي تم وراثتها من المستعمر ، دولة ما بعد الاستعمار . لكن وبدون أدنى شك لا يمكن التشكيك في نجاح نموذج الدولة الغربية الديمقراطية العلمانية والتنظير الليبرالي الموروث من التراث الإغريقي كمال يقول صامويل هنتنغتون في كتابه صدام الحضارات كما يبقى هذا النجاح موضع جدل وصراع . حيث يمكننا القول أن هذا النموذج للدولة قد أثبت تفوقه بل ووجوب تطبيقه إذا نظرنا من زاوية العدالة و الديمقراطية والحريات .اعرف ان البعض يشتاطون غضبا من ما أقول . لا اريد ان اكتب من باب العجرفة والثقة المفرطة كما فعل فرانسيس فوكوياما في كتابه نهاية التاريخ , ولكنني يمكن ان اقول انه للان يبدو النموذج الغربي للدولة الديمقراطية العلمانية الليبرالية هو النموذج الأنجح إذا وضعنا في الإعتبار الهزيمة الساحقة التي منيت بها الشيوعية كنموذج مغاير ، كما ينبغي علينا ايضا ان ندرس السياق السياسي والاقتصادي لهذه الهزيمة حتى نرى الصورة كاملة ولا نغضب الماركسيين اونثير جنونهم.
كما علينا أن نضع خط أحمر تحت مفردة الأنجح هذه حتى لا تقودني إلى ذلك المنزلق إيديولوجي الذي أعرفه جيدا . ” إن ما يمكن استنتاجه من خلال تتبع ظاهرة الدولة ضمن سياقها الغربي الذي يضرب بجذوره إلى عهود سحيقة من الزمن والذي استمر إلى غاية نهاية عهد الثورات الكبرى في المجتمعات الأوربية يؤكد حقيقة أن التاريخ الغربي يكشف بدوره عن نفسه باعتباره مجالا للسلطة . وهو المشهد الذي تغير كليا بحلول عصر النهضة وهو العصر الذي ادي الي انهيار الرؤية الأخلاقية التي سادت مع أعمال ميكافيلي لتحل محلها الفلسفة الحديثة التي اتسعت مع أعمال ديكارت والقائمة على الإدراك الواقعي والعقلاني . وهو ما شكل مجالا لفكر سياسي جديد انعكس على تدبير سلطة الدولة باعتبارها ضرورة للحياة المتحضرة لابحسبانها نظاما مقدسا ” .
ولكن يبدو أن التنظير الإسلامي للدولة لا يبارح العصور الوسطى والتنظير الأخلاقي بحسبان الدولة نظاما مقدسا لا ضرورة للحياة المتحضرة . ولكن السؤال الذي يطرح نفسه , هل هزيمة الشيوعية من قبل الليبرالية تعني هزيمة الفكر الشيوعي والتنظير الشيوعي للدولة وبالتالي سيادته على العالم ؟ أليس من حق الإسلاميين الإتيان بنموذج الدولة والتنظير لأيديولوجيا مغايرة التنظير الغربي وبالتالي محاربة الاستلاب الثقاف العالمي الغربي؟ في اعتقادي أن هذا الصراع سيفوز به من يحترم الديمقراطية والحريات وهي قيم غير موجودة في التنظير الإسلامي للدولة والتنظير الديني ككل، ما يمكن قوله بكل ثقة هو فشل المشروع السياسي الإسلامي . وإذا كانت الحرية سمة بارزة من سمات المجتمع الغربي ذو الأصول الإغريقية الذي أنتج فيما بعد نموذج الدولة الغربية الديمقراطية العلمانية الليبرالية كنموذج دولة بني وسقي من الثقافة و الجذور الإغريقية , يبدو أن المشروع الإسلامي هو العكس تماما . حيث يمكننا القول انه في نموذج الدولة الغربية الديمقراطي الحكم هو حكم الشعب بأطيافه المختلفة من دين و عرق ولون , ولكن في الجهة المقابلة تبدو الشورى هي حكم المسلمين وسيطرتهم على الدولة حيث هي مفهوم ديني بحت وبالتالي إسقاط حق الآخرين المختلفين دينيا في الحكم والمعاملة على أساس المواطنة وإدارة شؤون الدولة وهو مفهوم يتعارض مع العدالة إذا اعتبرناها معيارا للمقارنة بين النظريتين .

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.