انصاف المثقفين ووهم دولة ٥٦

سامح الشيخ

 

يعاني السودانيون حالة فريدة من نوعها يمكن أن تسمى متلازمة الخرطوم علي غرار متلازمة ستوكهولم، متلازمة الخرطوم هذه أزمة قديمة سببها النخبة والمثقف السوداني الذي بدلاً من أن يقود المجتمع والعوام للتغيير تجده دوماً في الطريق المعاكس ينقاد هو للعامة ولا يحسن استغلال أدواته وقدراته المعرفية لإحداث التغيير المنشود.

إن كثيراً من المثقفين السودانيين هم في الحقيقة أنصاف مثقفين وهولاء هم المصابون بالمتلازمة التي أسميناها متلازمة الخرطوم وهم السبب في التراجع الحضري والقيمي بسبب رضوخهم الدائم للخطاب الشعبوي والإنخراط فيه والتماهي معه، لذلك من مظاهر هذه المتلازمة وعبرها تجد المدن قد تريفت رغم ثقافة هذه الفئة وتعليمها بسبب عدم احسانها صنعاً، فازدادت في وجودهم الخطابات الرجعية ذات الطابع الديني وتماهوا معها منذ قبل الاستقلال وبعده حيث تفرقت بهم سبل الإنقسام أيدي سبأ وانقادوا مثلهم والعوام بإنخراطهم في عباءة السيدين والطائفية أو وقعوا في أحضان العسكر .

بعد أن كان معوَّلاً عليهم الوصول لسودان حديث ديمقراطي، هاهي نفس النخبة لم تتعظ من التماهي والرضوخ كما عامة الشعب بالإنقياد إما وراء عسكر السلطة أو جماعة سياسية لها خطاب ديني يكرس للديكتاتورية، هاهم يبصمون بالعشرة لخطاب مليشيا الدعم السريع ويرضخوا ويتبنوا خطاب هذه المليشيا وخطلها وحديثهم عن دولة ستة وخمسين التي سقطت وشبعت سقوط منذ قدوم إنقلاب الانقاذ.

فماهية دولة ستة وخمسين هي نظام الخدمة المدنية ونمط التنمية التي أسس عليها الاستعمار الدولة، فطبيعة الدولة السودانية من خلال التنمية التي وضع بنيتها المستعمر كانت فقط بنية تحتية من أجل محصول نقدي وحيد هو القطن إعتمدت عليه الإدارة البريطانية لتلبية حاجتها منه كخام ويوفر للنخبة السياسية أو طبقة الأفندية السودانية التي علمها الإنجليز ليصيروا إداريين يديرون مصالح المستعمر ويديرون دولة ستة وخمسين التي صممت لإدارة هذا المورد الخام والهام الذي يوفر عائداً للدولة السودانية ومصاريف تشغيل هذه الدولة، فقد كان عائد القطن ونظام تدوير الإيرادات في الدولة السودانية يحقق فائض في القيمة متوازن بالنسبة للميزان التجاري، رغم مساويء الإعتماد في الصادر علي مورد وحيد، وأيضاً هنا يُعاب علي النخبة أنها لم تستطع القيام بثورة صناعية وطنية، ولكن برغم ذلك لم يحدث ترهل في الدَين العام حتي بعد الاستقلال بقليل يزيد من معاناة الإقتصاد السوداني ويتحمل عبئه المواطن السوداني.

بدأ التدهور الإقتصادي بعد الإنقلابات العسكرية منذ أول إنقلاب إلى إنقلاب الانقاذ الذي قضى تماماً على أخضر ويابس دولة ستة وخمسين حيث أجهز هذا النظام علي الخدمة المدنية وأدلج الجيش وازدادت الديون الخارجية وتسليم عنق الإقتصاد السوداني لمقصلة البنك الدولي وصندوق النقد، إذن دولة ستة وخمسين حطمتها الإنقاذ وجاءت ثورة ديسمبر ٢٠١٨ فحطمت الشق المدني لدولة الإنقاذ، إلا أن الشق العسكري من الإنقاذ بفصيليه الجيش والدعم السريع يحاولون إجهاض مد ثورة ديسمبر التي حطمت الدولة دون حرب وتدمير كما يفعل الجنرالان حالياً، فالثورة نجحت بإسقاط حكومة الإنقاذ، وكان إسقاط دولة الإنقاذ جارٍ على قدمٍ وساق حيث ظلت الدولة وبسبب ثورة ديسمبر دون القدرة علي تشكيل حكومة لمدة عامين حتى بعد انقلاب ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١ ظلت الدولة دون القدرة علي تشكيل حكومة بسبب مقاومة الثوار ومحاولاتهم لقيام سلطة تشريعية ومحاولات إصلاح السلطة القضائية ولم يكن مقابل ذلك من القوى المضادة للثورة متمثلة في عسكر الإنقاذ إلا القيام بالحرب لقطع الطريق على هدم دولة الإنقاذ تماماً، التي رغماً عنها انتهت بقيام الحرب فالدولة القادمة ستقوم على أنقاض دولة يونيو ١٩٨٩ وليس علي أنقاض دولة يناير ١٩٥٦ كما تدلس المليشيا محسوبيها وأتباعها من النخب أنصاف المثقفين .

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.