النهج العلمي لحل نزاعات الأرض بين المُجتمعات، وتجربة السُّلطة المدنية للسُّودان الجديد (1-2)
عادل شالوكا
تعالت في الآونة الأخيرة بعض الأصوات التي تنتقد الحركة الشعبية لتحرير السُّودان – شمال في إدارتها لملفات وقضايا مختلفة (التفاوض، التحالفات، المساعدات الإنسانية، المجاعة، الأراضي وترسيم الحدود بين المجتمعات، …. إلخ). إستمعت لتسجيلات صوتية لـ(كوة برجيل) وهو أحد الذين عملوا في مناطق السودان الجديد (مناطق سيطرة الحركة الشعبية) في بداية الألفينيات، وتحديداً في منظمة النوبة للإغاثة وإعادة التعمير والتنمية – NRRDO. خلال تسجيلاته أبدَى ملاحظاتِه وتحفُّظاتِه مُنتقداً الحركة الشعبية – شمال في طريقة إدارتها لملف المجاعة الحالية، بالإضافة إلى قضايا الأرض، خاصةً عملية (ترسيم الحدود) بين المجتمعات. وأنا أشيد بإهتمامه بهذين الملفين ورأيه الصريح في ذلك، غير إن هذا كان يتطلَّب حواراً جدِّياً مع قيادة الحركة الشعبية – شمال وقيادة السلطة المدنية للسودان الجديد والتي يعرفها جيِّداً، لأن التسجيلات في الميديا كفضاء إعلامي مفتوح (والذي لا نخشاه بالطبع)، يختلف عن الحوار مع جهات الاختصاص، ولن تأتي بالنتائج المرجوَّة. وقد طالب أيضاً بوحدة النوبة بغض النظر عن انتماءَاتِهم، .. وغير ذلك من قضايا أخرى طرحها في التسجيلات. ويُحسب لـ”برجيل” قوله في حديثه إنه ضد النقد الشخصي الجارح أو النقد العنصري، وهذا ما يُشجِّع الحوار المُستمر حتى لو بطريقته هذه. فلا أحد يرفض النقد، وهو مُمارس الآن تجاه الحركة الشعبية – شمال “سلبياً كان أم إيجابياً”.
سنقوم في هذا المقال بمحاورة (برجيل) بصورة موضوعية رداً على تسجيلاته (الخمسة) المنشورة في وسائل التواصل الاجتماعي – مع التركيز على قضايا الأرض. وسنتناول أسباب نشوء النزاعات حول الأرض والمناهج والطرق العلمية لحلها بالإضافة إلى تجربة الحركة الشعبية – شمال التي تُسيطر على مساحات واسعة من الأراضي بما في ذلك الصالحة للزراعة، بالإضافة إلى القضايا الأخرى التي وردت في التسجيلات. وقبل أن نتناول ما أدلَى به (كوة برجيل)، ولفائدة الجميع، نستعرض بعض التحدِّيات التي تواجه المجتمعات البشرية فيما يتعلَّق بالأراضي وحيازتها واستخداماتها والنزاعات التي تنشُب حولها والطرق العلمية لحلها، ليُقارن الجميع بين هذه المناهج والطرق، وبين ما تقوم به السُّلطة المدنية للسُّودان الجديد في مناطق سيطرة الحركة الشعبية لتحرير السُّودان – شمال.
توطئة:
يُحظَى نمط حيازة الأرض وعلاقته بالفقر والنزاعات العنيفة في أفريقيا جنوب الصحراء باهتمام بالغ. ورغم الخلافات حول ذلك، يظل نمط حيازة الأرض أحد العوامل البنيوية المُساهِمة في الفقر والعنف في أفريقيا، وعليه فإن تأمين الحقوق في الأرض يُشكِّل إحدى الوسائل الهامة لاجتثاث الفقر وتحقيق الرفاهية، ويُشكِّل مفهوم “دار القبيلة” أهم مُكوِّن لحيازة الأرض ويرتبط مُباشرة بموضوع الإدارة الأهلية، ويُشكِّل هذا النظام حماية جماعية للقبيلة، ومنح الأفراد حقوقاً في الأرض مع بقائها ملكاً للقبيلة، ويرجع هذا النظام إلى الممالك القديمة. وفي ممالك الفونج ودارفور كان الأفراد يقومون بدفع جزء من إنتاجهم إلى السَّلاطين ووُجهاء القبيلة ورجال الدين، وتعزَّز هذا النظام في العهد التركي المصري (1821 – 1899).
إن طرق إستخدام مُجتمعات النوبة والفونج ودارفور للأرض، وأشكال ملكيتها الجماعية يرتبط إلى حد كبير بظروف حياتها وبكيفية توظيفها للمناشط الإنتاجية المناسبة والمُرتبطة بشرعية تواجدها التاريخي على هذه الأراضي، وهي دائماً تعكس إستخدامات إقتصادية راسخة وإستثمارات ثقافية بواسطة هذه المجتمعات، بالإضافة إلى إرتباطها الحميم بأنسجتها الإجتماعية وهياكلها الإقتصادية ومؤسَّساتها السِّياسية. فبالنسبة للمجتمعات الريفية في “هامش” السُّودان، فإن الأرض ليست فقط مورد مانح للحياة، ولكنها مليئة بالمعاني والرموز، ويتَّصل بها الإستغلال والنزاعات وكذلك النضال الأيديولوجي والاجتماعي والسِّياسي، ولكن بالرغم من ذلك فإن مركز السُّلطة في الخرطوم يندفع إندفاعاً نحو تخصيص الأراضي وتحويل ملكيتها العشائرية الجماعية إلى ملكية فردية تحت سيطرة جهاز الدولة. ولذلك يصبح من المهم وضع مُناقشة قضية الأرض في الإطار السِّياسي والقانوني والمؤسَّسي والاجتماعي والاقتصادي، فالتَّهميش السِّياسي والاقتصادي حطَّ من تحكُّم المجتمعات الريفية في مواردها الإنتاجية وخاصة الأرض، وتُوضِّح العلاقة بين ذلك والنزاعات.
كل هذه العوامل، ومع تنامي الوعي بالحقوق وأهمية الأرض كمورد إقتصادي مهم، تبرز بعض النزاعات التي تتطور بعضها إلى العنف والإقتتال. مناطق السودان الجديد “أي المناطق التي تسيطر عليها الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال” لم تكن إستثناء طالما يوجد بها بشر ويمارسون حياتهم الطبيعية بما في ذلك حرفة الزراعة التي يكسبون منها سبل العيش والبقاء والزراعة هي الحرفة الرئيسية لسكان جبال النوبة الذي يصنف في الدراسات الأنثروبولوجية كـ(مجتمع زراعي)، فقد شهدت المناطق المحررة في إقليم جبال النوبة هكذا نزاعات وصراعات “بعضها دموية” بين المجتمعات المحلية مثلما حدث في أقاليم سودانية أخرى وبعض الدول مثل: أثيوبيا، ليبريا، نزاع أذربيجان مع أرمينيا، نزاع الهند وباكستان حول “كشمير”، كمبوديا، “البوسنة – الهرسك” والتي حسمت بإتفاق دايتون في البلقان، النزاع في موزمبيق، النزاع بين مصر وإسرائيل الذي حسم بإتفاق “كامب ديفد”، النزاع في بورندي ورواندا، نزاع شمال كينيا بين توركانا وبوكوت، السودان نزاعات الأرض في دارفور وجبال النوبة والفونج بين المجتمعات الأصيلة والوافدين، والنزاع بين السودان وجنوب السودان حول بعض المناطق الغنية بالمعادن مثل “أبيي وهجليج وحفرة النحاس” .. وغيرها. هذه النزاعات حسم بعضها بـ”ترسيم الحدود”، ولم تحسم بعضها حتى الآن. ويظل “ترسيم الحدود” هو الحل الأمثل.
ماذا يعني ترسيم الحدود (تعيين حدودي):
ترسيم الحدود يعني: تحديد حدود أو تخوم شيء ما. وهو الفعل أو العملية أو نتيجة ترسيم شيء ما. ويعني أيضا ترسيم خطوط الملكية. ويعني كذلك شيء يُحدِّد أو يُشكِّل حدوداً.
كيفية حل النزاعات على الأراضي والحفاظ على السلام:
تُعتبر النزاعات على الأراضي من القضايا المُعقَّدة التي تنشأ عندما تُطالب أطراف مُتعدِّدة بملكية حقوق على قطعة مُعيَّنة من الأرض، إذ يُمكن أن تنبع هذه النزاعات من عوامل مختلفة، بما في ذلك حدود الأراضي المتضاربة، أو عدم وضوح سندات ملكية الأراضي، أو نزاعات الميراث، أو الخلافات حول إستخدام الأراضي، ومن الأهمية بمكان الخوض في طبيعة النزاعات على الأراضي للحصول على فهم شامل للتحديات التي ينطوي على حلها، وهذا يشمل:
أولاً: ثلاثة عناصر مُهمَّة:
1/ وجهات النظر المُتضاربة: غالباً ما تتضمَّن النزاعات على الأراضي وجهات نظر مُتضاربة من مُختلف الأطراف المعنية. وقد يكون لكل طرف تفسيره الخاص للسِّجلات التاريخية أو التقاليد الشفهية أو الوثائق القانونية، مما يؤدِّي إلى خلافات حول ملكية الأرض أو الحدود. يمكن لوجهات النظر المُتضاربة هذه أن تجعل من الصعب التوصُّل إلى توافق في الآراء وإيجاد الحلول المقبولة للطرفين.
2/ الإطار القانوني: تخضع النزاعات على الأرض لإطار قانوني يختلف بإختلاف الولايات القضائية. يعد فهم القوانين واللوائح والإجراءات المعمول بها أمراً ضرورياً لحل النزاعات على الأراضي بشكل فعَّال، ويلعب الخبراء القانونيين والوسطاء دوراً حاسماً في تفسير وتطبيق القوانين ذات الصلة لضمان التوصَّل إلى حل جذري وعادل.
3/ الوساطة والتفاوض: الوساطة والتفاوض من الأساليب الشائعة الإستخدام لحل النزاعات على الأراضي. وتشمل هذه العمليات جمع الأطراف لمُناقشة مخاوفهم ومصالحهم والحلول المُحتملة.
ثانياً: تحديد الأطراف المعنية: أصحاب المصلحة: (فهم أصحاب المصلحة ووجهات النظر والآراء):
1/ ملاك الأراضي وحاملي سندات الملكية: هذه هي الأطراف الأساسية التي لها مصلحة مُباشرة في الأرض. يمتلكون سند قانوني ولهم الحق في الإستخدام أو البيع أو التأجير.
2/ ملاك الأراضي المجاورة: الجيران الذين يشتركون في الحدود مع الأراضي المُتنازع عليها، هم أصحاب المصلحة الأساسيين. وقد تتأثر حقوقهم بأي تغييرات تطرأ على المنطقة المُتنازع عليها.
3/ المستأجرون أو الشاغلون: قد يتمتَّع الأفراد أو العائلات المُقيمة على الأراضي المُتنازع عليها بحقوق غير رسمية، حتى لو كانوا يفتقرون إلى الملكية القانونية. فسبل عيشهم ومنازلهم يكون على المحك.
4/ السلطات الحكومية: تلعب الهيئات الحكومية المحلية أو الإقليمية أو الوطنية دوراً تنظيمياً مُهماً، فهم ينفِّذون قوانين الأراضي ولوائح تقسيم المناطق وحقوق الملكية.
5/ المسَّاحون والخُبراء: يُقدِّم هؤلاء المُحترفون تقييمات موضوعية. فالمسَّاحون يحدِّدون الحدود، بينما يقوم الخُبراء القانونيين بتفسير سجلَّات الأراضي والوثائق التاريخية.
6/ المُجتمع ومجموعات الإهتمام: في بعض الأحيان، تدعو المُنظَّمات المجتمعية أو المجموعات البيئية إلى تحقيق نتائج مُحدَّدة. ويُمكن أن تؤثِّر مُشاركتهم على القرارات.
7/ الوسطاء والمُحكِّمون: أطراف ثالثة مُحايدة تُسهِّل التواصل والتفاوض. وهم يوجُّهون الأطراف المتنازعة نحو الإجماع.
8/ الممثلون القانونيون: يقومون بمُناقشة القضايا في المحكمة، وصياغة الإتفاقيات.
9/ المؤسَّسات المالية: قد يكون للبنوك والمُقرضين والمُستثمرين حصة في الأرض بسبب الرهون العقارية أو القروض أو خطط التنمية.
10/ الخبراء التاريخيون والثقافيون: في الحالات التي تتعلَّق بأراضي الأجداد أو مواقع التُراث، يُقدِّم المؤرِّخون وعُلماء الأنثروبولوجيا السياق.
الإستنتاج:
إن تحديد الأطراف المعنية هو الخطوة الأولى الحاسمة في حل النزاعات على الأراضي. يُقدِّم كل صاحب مصلحة وجهات نظر وحقوق ومصالح فريدة إلى الطاولة. ومن خلال الإعتراف بوجهات النظر المُتنوِّعة هذه، يُمكن العمل نحو حلول عادلة ودائمة تحافظ على السلام والوئام داخل المجتمع. ودائماً وراء كل حُجَّة قانونية تكمُن قصة إنسانية – قصة سُبل كسب العيش والذكريات والتطلُّعات المُرتبطة بالأرض.
ثانياً: جمع الأدلة والوثائق:
وهذه الخطوة تُشِّكل مدخلاً مهماً للغاية للوصول إلى حل للنزاع على الأراضي، وتكمن أهمية هذه الخطوة في الآتي:
1/ الوضع القانوني: تثبت الأدلة وضعك القانوني في النزاع على الأرض سواء كنت مالك أو مستاجر أو طرف ثالث،فإن وجودف دليل واضح يعزز الموقف.
2/ عبء الإثبات: في معظم الأنظمة، يقع عبء الإثبات على عاتق الطرف الذي يقدم المطابة. ويضمن جمع الأدلة القدرة على مواجهة العبء بشكل مقنع.
-الحفاظ على الحقوق: التوثيق الصحيح يحفظ حقوقك على الأرض. بدون دليل، قد تضعف مطابتك بمرور الوقت.
ثالثاً: أنواع الأدلة:
1/ سندات وسجلات الملكية: تثبت هذه المستندات القانونية الملكية. فهي تحتوي على تفاصيل حول الممتلكات والحدود، وأي أعباء
.
2/ خرائط المسح: تساعد خرائط المسح الدقيقة في تحديد حدود الملكية ومنع النزاعات
.
3/ شهادات الشهود، وتشمل:
(أ)- الجيران: يمكن أن توفر بيانات الجيران نظرة ثاقبة للإستخدام التاريخي والحدود، والصراعات.
(ب)- الخبراء: يمكن للمساحين ومقيمي الأراضي وغيرهم من الخبراء الإدلاء بشهاداتهم حول خصائص الأرض.
(ج)- الأدلة الفوتوغرافية والفيديو: صور ما قبل وما بعد: إلتقاط التغيرات بمرور الوقت، مثل التعديات أو تطوير الأراضي.
(د)- الصور الجوية: يمكن للطائرات بدون طيار أو صور الأقمار الصناعية أن تكشف عن حالة الأرض.
(هـ)- سجلات إستخدام الأراضي، وتشمل:
-وثائق التقسيم: توضح كيفية إستخدام الأرض (سكنية، تجارية، زراعية).
-تصاريح البناء: إظهار الهياكل المصرح بها وتعديلات الأراضي.
4/ العقود والإتفاقيات:
(أ)- إتفاقيات الإيجار: إذا كنت مستأجراً، فإن إتفاقيات الإيجار تعتبر دليلاً حاسماً.
(ب)- إتفاقيات الشراء: بالنسبة للمشترين، تثبت هذه المستندات نقل الملكية.
5/ وثائق تاريخية، وتشمل:
(أ)- الخرائط القديمة: يمكن أن تكشف الخرائط التاريخية عن تكوينات الأراضي السابقة.
(ب)- سجلات الأراضي: تحقق من الأرشيف بحثاً عن السجلات القديمة للأراضي.
(ج)- العلامات المادية: (الأسوار والجدران والحدود): تساعد العلامات المادية في إنشاء الحدود.
(د)- الآثار أو الأحجار: تعتبر العلامات الدائمة أدلة قيِّمة.
6/ تقارير الخبراء، وتشمل:
(أ)- تقارير التربة: يؤثر تكوين التربة على إستخدام الأرض.
(ب)- دراسات التأثير البيئي: ذات الصلة بالنزاعات التي تنطوي على إهتمامات بيئية.
رابعاً: التحديات والإعتبارات:
1/ التوقيت المناسب: جمع الأدلة على الفور لمنع الخسارة أو التغيير.
2/ التحيز والذاتية: الدراية بالتحيز المحتمل في شهادات الشهود.
3/ التوثيق: التأكد من أن المستندات أصلية وغير مزورة.
4/ سلسلة الحراسة: الإحتفاظ بسجل واضح لكيفية الحصول على الأدلة.
5/ المقبولية: فهم الأدلة المقبولة في المحكمة.
خامساً: أمثلة لأنواع النزاعات وكيفية حلها:
الحالة (1): النزاع الحدودي:
الأدلة: خرائط المسح وشهادات الجيران والصور الفوتوغرافية القديمة.
النتيجة: “ترسيم” حدود واضح بناءً على الأدلة التاريخية.
الحالة (2): التعدي على الأراضي:
الأدلة: صور جوية وصور قبل وبعد، وتقارير الخبراء.
النتيجة: إزالة الهياكل غير المصرح بها بناء على أدلة مرئية.
الخلاصة:
يتطلب جمع الأدلة والوثائق الإجتهاد والإهتمام بالتفاصيل ونهجاً مُتعدِّد الأوجه. ومن خلال القيام بذلك، فإنك تضع الأساس لعميلة ناجحة لحل النزاعات على الأراضي.
تذكر أن الأدلة تتحدث بصوت أعلى من الكلمات عندما يتعلق الأمر بملكية الأراضي وحقوقها.
نواصل في الجزء الثاني: (النقاط التي أثارها “كوة برجيل” – وتجربة السُّلطة المدنية للسُّودان الجديد).