المسيرة المتعثرة نحو بناء الدولة السودانية
بقلم/ كموكى شالوكا (إدريس النور شالو)
السودان فى العهد التركى والحكم الثنائى (1-8)
يتميز السودان بالتنوع والتعدد، ومنذ أزمان سحيقة تكونت البلاد من شعوب شتى وشهدت قيام دول وممالك عدة، فقامت ممالك قديمة قبل الميلاد فى نبته ومروى ثم الممالك المسيحية فى نوباتيا، المقرة وعلوة وبعد ذلك جاءت السلطنات والممالك الاسلامية كسلطنة الفور، السلطنة السوداء (الزرقاء)، مملكة تقلى ومملكة المسبعات. لم تمر كل هذه الشعوب بنفس المرحلة من التطور الاقتصادى و الإجتماعى وكانت متفاوتة بدرجة كبيرة ففى الوقت الذى وصل فيه بعضها فى تنظيمه الإقتصادى و الإجتماعى الى مرحلة الدولة، ظلّ البعض الأخر فى مرحلة المشاعية القبلية.
قام الإستعمار الحديث الذى بدأ بالحكم التركى عام 1821 بتأسيس دولة مركزية وجمع شعوب السودان المختلفة ثقافياً و المتفاوتة تاريخياً داخل هذا الشكل المركزى للدولة وبذلك عوّق مسارات تطوّرها الطبيعية ممّا أدّى الى تكوين البنية الاجتماعية التاريخية المشوهة للدولة السودانية الحديثة والتى ظلّت قائمة حتى اليوم.
خلف الحكم التركى الإستعمار الإنجليزى المصرى والذى إنتهج سياسات عدة لتوطيد حكمه مثل سياسية “فرق تسد” وخلق أعوان وكيانات تعينه على حكم البلاد، إبتدعت إدارة الحكم الثنائى بما سمى سياسة الجنوب، تم بموجبه بناء سلسلة من الوحدات العرقية أو القبلية التى تأسست على ذات الهياكل والتنظيم القائم على عادات هذه الشعوب والسكان الأصليين ، إستخدام الغات المحلية والمعتقدات التقليدية وغيرها .وقد صدر في عام 1922 قانون الجوازات والأذونات والذى عرف بقانون المناطق المقفولة و ينص علي علي حظر السفر الى الجنوب ومناطق جبال النوبة والنيل الازرق ودارفور إلاّ بإذن من مدير المديرية أو السكرتير الاداري وكان الهدف من ذلك منع المصريين والسودانيين من شمال القطر والأجانب من دخول الجنوب. جاء ذلك نتيجة للتطورات التاريخية غير المتكافئة في السودان، حاول البريطانيون التخفيف من العلاقات غير المتناسقة بين الشمال والجنوب من خلال إتخاذ هذه السياسة في الجنوب ومناطق أخرى فى السودان والتي يعتقدون أنها في مصلحتهم، وقد ساهمت هذه السياسة فى الحفاظ على ثقافة ولغات الأغلبية غير العربية في السودان خاصة في الجنوب وجبال النوبة وغيرها.
“سياسة الجنوب” ربما ساهمت فى توطيد الفوارق فيما بين إنسان الشمال وإنسان الجنوب، لكنها لم تخلق تلك الفوارق، كما أن هذه السياسة لا تتحمل كل اللوم عن الحروب الأهلية التى أعقبت إعلان الإستقلال.
فيما بين 12-13 يونيو عام 1947 عقد مؤتمر جوبا وقد حضره مندوبون من بريطانيا وسودانيون في مدينة جوبا عاصمة اقليم جنوب السودان، ترأس المؤتمر جيمس روبرتسون آخر سكرتير إداري بريطاني بالسودان، وسبعة عشر جنوبيا من زعماء القبائل والمثقفين، نذكر منهم فيلمون ماجوك / كلمنت امبورو / حسن فرتاك / جيمس طمبرة / شير ريحان / سريسيو ايرو، ومن الزعماء القبليين لويث اجاك ، ولوليك لادو. وشارك ستة من الشماليين منهم أبراهيم بدري، حسن حمد عثمان، محمد صالح الشنقيطي، سرور محمد رملي . كان الهدف من المؤتمر معرفة أراء الجنوبيين في الإنضمام للشمال والإشتراك في الجمعية التشريعية . جاء مؤتمر جوبا كنتيجة للتطورات التي صاحبت إعلان السياسة البريطانية الجديدة تجاه السودان والتي تدعو إلى استبدال “سياسة الجنوب” بسياسة جديدة تهدف إلى توحيد طرفي القطر.
يشير الكثيرون من الكتاب والمثقفين الشماليين إلى أن الجنوبيين قد وافقوا من خلال مؤتمر جوبا 1947 على الوحدة مع الشمال، وبالمقابل درج الكثيرون من الكتاب والمثفقين الجنوبيين على نفي ذلك بالتشكيك في نزاهة إجراءات وأعمال المؤتمر، وذلك بسبب أساليب إفساد الساسة الجنوبيين بواسطة الشماليين عن طريق بذل العطايا والمزايا بما فيها الرشوة، ولعب القاضى محمد صالح الشنقيطى دوراً رئيسياً فى الافساد وبيع الذمم.
وفى هذا الصدد يقول مولانا / أبيل ألير في كتابه قضايا الحرب والسلام في جنوب السودان ترجمة هنري رياض 1993 ( … لقد قرر السكرتير الإداري أن تكون هناك وحدة بين الجنوب والشمال قبل التفكير فى إنعقاد المؤتمر. ويقول أيضاً: (والرأي القائل أن أغلبية الجنوبيين في المؤتمر كانت تريد إنشاء جمعية تشريعية واحدة، يتعذر أيضاً إستخلاصه مما ورد في المداولات)، أما في كتابه جنوب السودان – التمادي في نقض العهود والمواثيق _ ترجمة بشير محمد سعيد(2005) فهو يقول: (ومنذ أن أتخذ ذلك القرار – يقصد قرار ربط الجنوب بالشمال الذي أتخذ في المؤتمر الإداري – لُقّن ممثلي الجنوب في مؤتمر جوبا عام 1947 تلقيناً.
وعن المؤتمر يقول الدكتور فرانسيس دينق في كتابه صراع الرؤى ترجمة د.حسن عوض(1999) :(كان محمد صالح الشنقيطي – الذي كان قاضياً للمحكمة العليا، ثم رئيساً لمجلس النواب (البرلمان)، وأكثر الشخصيات نفوذاً ، كان المحرك الأساسي وراء ” ليلة العمل الكاملة ” الشيء الذي استعدى الإداريين البريطانيين المتعاطفين مع الجنوب والشك العام الذي تولد بسبب الأساليب اللاحقة لعمليات إفساد الساسة الجنوبيين بواسطة الشماليين عن طريق بذل العطايا والمزايا بما فيها الرشوة المباشرة الفجة، تمّثل في أن الشخصيات من ذوي النفوذ من أعضاء الفريق الجنوبي قد أخضعوا لضغوط غير عادية من جانب ممثلي الشمال الأكثر حنكة وفطنة ومكراً، إما عن طريق الحجج النبيلة الداعية إلى الوحدة، أو عن طريق بذل الوعود لتحسين أوضاع الجنوبيين. ويورد فرانسيس دينق ما كتبه نائب حاكم بحر الغزال ريتشارد أوين من أن تغيير وجهة النظر للأعضاء المتعلمين الجنوبيين (من غير زعماء القبائل)، الذين غيروا آراءهم لاحقاَ نتيجة “دردشة” مع سعادة (القاضي الشنقيطي) ، كان تعبيراً صادقاً من الدرجة الأولى يدعو للشفقة والرثاء لعدم قدرتهم الدفاع عن أنفسهم ضد الإحتيال الماكر. ويرى الدكتور فرانسيس أن العديد من العوامل قد تدخلت في توجيه نظرة الجنوبيين في المؤتمر وبخاصة المتعلمين، ويرى أنه(ربما كان العامل الحاسم هو عدم التمثيل الجنوبي العادل وعدم فهم القضايا الحقيقية المطروحة، كان واضحاً بأن الممثلين الجنوبيين لم يكونوا في مستوى الشماليين والإداريين البريطانيين في التعليم، الخبرة والحنكة. كانوا في وضع ضعيف، وسهل إقناعهم ليؤيدوا الأجندة المشتركة للشماليين والبريطانيين وكان ذلك هو السبب – وليس إلتقاء العقول – الذي يفسر التأييد الجنوبي للوحدة الوطنية). وعن زعماء القبائل الأقل تعليماً وإلماما،ً فيقول إنهم ( قد حافظوا على مواقفهم السابقة وإمتنعوا عن تأييد التكامل المباشر مع الشمال).
هكذا نرى أن فشل الاباء المؤسسون للدولة السودانية فى إرساء الأسس السليمة لبناء دولة قابلة للحياة، وبدلاً عن ذلك قاموا بممارسة الفهلوة و التشاطر على الأخرين وإتباع أساليب المراوغة و التحايل والتخفى وراء النصوص الغامضة والتلاعب بالألفاظ مما فوّت فرصة التوافق على دستور دائم. كان الدافع الرئيسى لذلك رغبة من جماعة تستمسك بإمتياز تاريخى غير مشروع والحفاظ عليها بحسبانها حقوقا مكتسبة . مسئؤلية هذا الفشل الذى تطاول سنيناً عددا طوال ما يزيد ستة عقود تقع على عاتق النخبة فى الشمال فى المقام الاول بإفتراضها أن مقوماتها الثقافية والدينية والعرقية يجب ان تكون المقوّم الوحيد للهوية الوطنية لكل السودان، لذلك أصبح عامل الهوية هذا عنصراً من بين عناصر أخرى عاملاً جوهرياً للصراع والإحتراب .
…………… يتبع