المحبوب عبدالسلام: نؤيد اتفاق إعلان المبادئ بين الحركة الشعبية والحكومة الانتقالية
رصد ـــ مصطفى سعيد
يرى الأستاذ المحبوب عبدالسلام، أهم تلاميذ د. الترابي، أن على التيار الإسلامي النظر جذرياً في وضعه وأفكاره. وعن ترحيب حركة (تضامُن) بتوقيع إعلان المبادئ الذي تم في جوبا بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية شمال ــ بقيادة القائد عبدالعزيز الحلو، أوضح الأستاذ المحبوب عبدالسلام، موقف الحركة من علمانية الدولة، ومرتكزات الدولة الحديثة، وقضايا التجديد والمشكلات التي يعاني منها التيار الإسلامي، كما تطرق للكثير من القضايا السياسية والفكرية الراهنة في حواره الذي رصدته (الديمقراطي) مع قسم القضايا والحوارات بموقع (الرواية الأولى).
*
*في البدء عرّفنا بحركة تضامُن؟
حركة تضامُن من أجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية؛ هي حركة تأسست في أواخر أيام اعتصام القيادة العامة، وتم الإعلان عنها رسمياً في الأول من مايو ٢٠١٩م بمنطقة الخرطوم (٢)، وتم التأسيس بناءً على تداعي من قبل بعض المفكرين السياسيين، والمهتمين بالشأن العام، ومن شباب بعضهم منخرط بالعمل العام والبعض منهم كان منخرطاً في العمل ضمن أحزاب إسلامية، وبعضهم كان من ضمن أحزاب شيوعية. أما في الحديث حول تأسيس حركة تضامن فقد بدأ منذ أن تبيّن أن الأحزاب والحركات التي استمرت بطول عمر الدولة الوطنية قد أدت مهامها، وأصبحت الساحة السياسية تحتاج إلى التجديد. كذلك نُلاحظ أن هنالك ظاهرة هجران لقيادات وزعماء ومفكرين لهذه الأحزاب والتيارات، فكان هنالك حوار يدور عبر الساحة السياسية وعبر الأجيال لتأسيس تيار جديد، والهدفان اللَّذان حملهما اسم الحركة هما في تقديرنا غايتَي العمل السياسي في السودان، أولاً الديمقراطية؛ وذلك بتأسيس دولة ديمقراطية حديثة قائمة على مؤسسات المجتمع المدني الحديث، ثم العدالة الاجتماعية بوصفها تياراً واتجاهاً تاريخياً، وتصبح حاجة مُلحّة في بلادنا وفي الإقليم من حولنا الذي عانى من الظلم والفساد والفوارق واحتكار الثروات وتبنت الكثير من نخبة فكرة الاشتراكية لفترة طويلة.
* بالتأكيد هنالك الكثيرون قفزت إلى أذهانهم حركة تضامن البولندية، وهي حركة عمالية مطلبية، أما تضامن السودانية فهي حركة سياسية واجتماعية. حدثنا عن ذلك.
نحن كذلك لاحظنا هذا، واستلهمنا اسم تضامن من حركة تضامن البولندية، وتلاحظ أن تاريخ التأسيس هو الأول من مايو، وهو عيد العمال. ونجد أن حزب العمال في بريطانيا كان في الأساس تحالفاً بين المثقفين والعمال، وكنَّا ولازلنا نطمح في أن تؤسس حركة تضامن لهذا التحالف.
* أصدرتم بياناً رحبتم فيه بالتوقيع على إعلان المبادئ بين حكومة السودان والحركة الشعبية شمال بقيادة القائد عبدالعزيز الحلو، على ماذا استندتم في ترحيبكم هذا؟
منذ العام ١٩٩٥م مع إعلان مبادئ الإيقاد برزت هذه الثنائية التي ورّطت المفاوضات وورطت الحالة السودانية كلها في مقابلة بين وحدة السودان و(الشريعة الإسلامية)، وكان هذا ــ في تقديري ــ مأزقاً مؤسفاً ما كان يجب أن تتورط فيه المفاوضات آنذاك بين حزب المؤتمر الوطني وبين الحركة الشعبية شمال. وقد ذكرت في مقال قبل مدة أن الشيخ راشد الغنوشي اتصل بي إبّان تلك المفاوضات التي كانت تجري في نيفاشا، وقد تبلور الأمر تماماً، إما أن تؤسس دولة على المواطنة أو أن يذهب الجنوبيون إلى تقرير المصير. قال لي الشيخ راشد الغنوشي في تلك المكالمة إذا كنت أملك مدخلاً للمفاوضين في نيفاشا أن أنصحهم باسمه أنه إذا وُضعت وحدة السودان أمام الحدود الأربعة، ينبغي على المفاوضين من المؤتمر الوطني أن يختاروا وحدة السودان ويتنازلوا عن هذا المطلب الذي أراه في تقديري الشخصي غير واقعي وغير مطبّق البتّة، ومن أجل شيء متوهم نقسم السودان ونجزءه. وهذا الموقف يتجدد مع القائد عبدالعزيز الحلو، فقد وقعنا في ذات المأزق، فإما أن نقبل بدولة تقوم على المواطنة أو نذهب إلى تقرير المصير، فنضجت الرؤى وأصبح الأمر واضحاً جداً بالنسبة لي، لذلك عندما شرع الإخوة في تضامن نقاش هذه المسألة كان هذا رأيي ورأي غالب المتدخلين في إعلان موقف يُرحب بإعلان المبادئ.
* هذه القضية تتفرع إلى اثنين، فكري يتطرق إلى مسألة العلمانية وفصل الدين عن الدولة، وفرع سياسي، ونجد في الفرع السياسي كثيرين يتحدثون الآن عن أنه لا يمكن لفصيل واحد أن يفرض شيئاً على غالبية الشعب السوداني، وأن مثل هذه القضايا ينبغي أن تذهب إلى مؤتمر دستوري أو استفتاء، أو إرجاء الانتخابات التي ستُفرز برلماناً تأسيسياً ليقرر في تلك القضايا المفصلية، ما رأيك؟
الوضع يحتوي أيضاً على مأزق آخر، فمنذ العام ١٩٩٥م وحتى الآن هنالك تحذيرات واضحة من القائد عبدالعزيز الحلو ومجموعته بأنهم لن يذهبوا لأي مؤتمر دستوري ما لم تُقر مبادئ فوق دستورية، وهي المساواة أمام القانون، أي أنه وقبل أن يذهب الناس إلى الدستور عليهم أن يتفقوا على أنهم مواطنون متساوون أمام القانون، وإذا ذهبوا إلى المؤتمر الدستوري وأقر المؤتمر اعتماد قوانين ذات مصادر دينية فهم سيلجؤون إلى الخيار الآخر، وهو حق تقرير المصير، لذلك فإن بيان تضامن ذكر بوضوح أن توقيع اتفاق المبادئ قد حرر المفاوضات من مأزق المبادئ قبل الدستورية.
* كثير من الناس ــ وخاصة أنصار التيار الإسلامي ــ ينظرون إلى شخصية الأستاذ المحبوب عبدالسلام المفكّر الإسلامي التجديدي وصاحب المساهمة الكبيرة في مشروع التفسير التوحيدي للدكتور حسن الترابي، ويُقيمون موقفك بأنه تراجع عمّا كنت تدعو إليه، ما رأيك؟
بالطبع الناس ينسبونني إلى تلك المدرسة، وبالفعل كنتُ طالباً نجيباً في تلك المدرسة إلا أنني تخرّجت منها، وهذا شيء طبيعي أن يمضي العمر بالإنسان وينضج بالتجارب وتتعمق لديه القراءات. ربما التفسير نفسه هو الذي قادني إلى سؤال هل هنالك دولة إسلامية في القرآن؟ أم أنها صناعة الإسلام السياسي وتيارات الإحياء التي بدأت منذ القرن التاسع عشر، وهل القضايا المتعلّقة بالحكم هي بالفعل قضايا متعلّقة بالحاكمية كما أصَّلها المودودي ووصفها سيد قطب، أم أن الحكم الذي يتحدث عنه القرآن هو حكم متصل بالقضاء؟ وهل الأحكام الواردة في القرآن الكريم هي أحكام نهائية؟ أم أنها أحكام محكومة بالسياق؟ ولماذا تلجأ التجارب الإسلامية المعاصرة إلى تكثيف التحوطات حتى لا تُطبّق حَداً؟ فواقع الأمر أنه لم يتم تطبيق أي حدٍ في السودان طيلة حكم الإنقاذ، وكذلك في دولة إيران. وأشرت في حوار قبل فترة إلى أنه وعلى سبيل المثال؛ السارق في إيران يُذهب به إلى مدرسة تربية باعتباره يعاني من خلل تربوي، وهذه الفكرة حديثة جداً ولا علاقة لها بفكرة السرقة الحدّية. لذا فالآيات المتعلقة بالأحكام كلها ظرفية جاءت في سياق معيَّن وينبغي أن نقرن كل آيات القرآن بالسياق الذي نزلت فيه، هذا هو التجديد الذي أفهمه للفكر الإسلامي المعاصر. وقد ذكرت في أكثر من مرّة أن محمد إقبال في كتابه الفلسفي الشهير إعادة بناء التفكير الديني أشار إلى أن عقل الإنسان قد يتقدّم القرآن، وجميع هذه التساؤلات هي التي انتهت بي إلى أن الدولة الحديثة مضادة للمفاهيم التي أسستها مؤسسة الفقه منذ القرن الرابع الهجري، وإذا أردنا بناء دولة حديثة علينا أن نتحرر مؤسسة من مؤسسة الفقه التقليدية.
* بلا شك هذا الحديث ستترتب عليه ردود أفعال واسعة، وجهات نظر كثيرة.
أتمنى ألا تكون ردود الأفعال عاطفية، فالعقل البشري الذي صنع الصواريخ وفجّر ثورة الاتصالات الحديثة هو ذات العقل الذي اجتهد في المناهج الإنسانية وأحرز فيها تقدماً مهولاً، مثلاً علم اللسانيات الذي تُقرأ به النصوص وهو من الإضافات الكبيرة التي حدثت في الفكر الإسلامي في العقود الثلاثة الأخيرة، وهذا التكامل ما بين الدراسات التي كانت تسمى بالدراسات الاستشراقية أو دراسات الإسلام في الغرب والمدارس التي قامت في العالم العربي والإسلامي، كل هذا يقتضي من الذي يتصدّى لتجديد الإسلام أن يطّلع على هذا التراث، وأن يساهم في الإجابة عن السؤال قديم في حركة الإحياء الإسلامي، لماذا تقدّم الغرب وتخلّفنا؟، فهذا السؤال لا يزال مطروحاً وهذه المباينة الواضحة بين عالمنا الغارق في الظلم والفساد والاستبداد وبين العالم المتقدم. العالم المتقدم لديه كذلك أزمات، وهي أزمات روحية عميقة جداً تجلّت في كل الفلسفة المعاصرة، فما هو إسهامنا حيال ذلك؟ قد لا نسهم في تطوير التكنولوجيا، ولكننا ربما نسهم في هداية روح الإنسان.
* ننتقل إلى محور مهم، وهو تاريخ الحديث عن العلمانية وتاريخ الحديث عن الدولة الإسلامية والدستور الإسلامي، فمنذ الاستقلال كان هنالك حديث عن الدستور والميثاق الإسلامي، إلى أن جاءت فترة مايو التي أعلنت فيها قوانين الشريعة الإسلامية في سبتمبر 1983م، نود منك إعطاءنا إضاءات حول ما قبل تلك الفترة وما بعدها وما نرجوه.
أنطلق في حديثي من قوانين سبتمبر، لأن هذا المأزق في الأصل لم يكن معروفاً قبل قوانين سبتمبر، وعندما راجعت تاريخ القوانين السودانية وجدت أن جهابذة القانون السوداني الذين تعلموا على يد البريطانيين والذين درسوا الشريعة الإسلامية كانوا منتبهين إلى أن السودان بحاجة إلى قانون يعبر عنه ويمثله ويمثّل قيمه الثقافية، وأصلاً القانون يعبّر عن المجتمع الذي ينبثق منه، ولذلك عندما فكروا في كتابة القانون السوداني كانت إضافة الشريعة الإسلامية في هذا القانون، ولكن خطوة سبتمبر ١٩٨٣م كانت مفاجأة لهذا المسار القانوني المؤسسي الراسخ الذي كان يراجع كل القوانين ويعيد كتابتها وكان المشرّع واعياً لهذا الأمر في كل المستويات؛ مستويات الصياغة والإجازة والتشريع، وكانت هذه المسيرة تمضي جيداً، وأحد الذين ساهموا في هذه المسيرة ووقع على هذه القوانين هو الدكتور حسن الترابي، وأشرت لهذا في كتابي القوانين السودانية وقوانين سبتمبر. أما مسألة العلمانية، فأنا درست بفرنسا؛ حيث يميز التاريخ الفرنسي بوضوح بين (اللاكية) وقد كانوا موظفين يعملون بالكنيسة ويقومون بأعمال لا علاقة لها بالسلك اللاهوتي، مثل المحاسبين والصيارفة والحُرّاس، وقد كانوا يُسمون بـ(اللاييك)، وفي الجانب الآخر كانت هنالك فئة من الكهنوت متصلة بالدور الديني للكنيسة كالأساقفة والبطارِقة الذين يعظون الناس ويُفسرون الكتاب المقدّس، فقد كان هؤلاء رجال دين، والأوائل كانوا عامة الناس. هذه المباينة التي كانت موجودة في التاريخ الأوروبي لم تكن موجودة في التاريخ الإسلامي، لكن عندما جئنا إلى مبدأ المساواة أمام القانون وجاءت المجتمعات التعددية مثل المجتمعات السودانية، أو وُجدت أقلّية مسلمة في إطار أغلبية غير مسلمة القانون عندئذٍ يساوي بينهم جميعاً، لذلك عندما أُسست الدول أسست على هذا المعنى. لكن واحدة من الدعوات التي قامت لمواجهة المستعمر للإجابة على هذا السؤال؛ -غير أننا متخلفون وهم متقدمون- هي أننا كنا محتلّين من قبلهم، وقد كانت الجيوش الغربية تقبع في أرضنا، وكان ذلك سبب يقظة كبيرة. مثلاً جمال الدين الأفغاني كان يعتقد أنه إذا قامت جامعة إسلامية مثل رابطة العالم العالم الإسلامي؛ ستحل مشكلة المسلمين، بينما ظنّ محمد عبده أن الحل يكمن في إصلاح مناهج جامعة الأزهر، وحسن البنا رأى الحل في تأسيس جماعة الإخوان المسلمين، ثم جاء من بعد ذلك تطور لافت؛ وهو تطور سيد قطب الذي تكامل فيه مع المفكّر المودودي وجاءت فكرة الحاكمية، وعندما جاءت الحاكمية حدث تضارب بين تيار الإسلام السياسي والدولة الحديثة، لذلك كثيراً ما يتساءل الناس أين تجد سجل رسمي للجماعات الإسلامية في الدولة الحديثة، مثل جماعة الإخوان المسلمين في مصر. وكما عبّر المرشد نفسه أن هذه الجماعة هي أكبر من حزب وأصغر من دولة، وتتضح التباينات بين هذه الكيانات وبين الحزب الحديث، لذا إن أردنا تأسيس دولة حديثة ينبغي علينا أن نؤسس مؤسسات مجتمع مدني حديثة وأهم مؤسسات هذا المجتمع المدني الحديث هي الأحزاب، لذلك لا ديمقراطية بدون أحزاب.
* كلمة أخيرة.
أود أن تُقرأ كل الأشياء في سياقاتها التاريخية، فإذا تحدثنا عن أن الأحزاب السياسة بعد الاستقلال قد أدت أغراضها، ففي السياق التاريخي كان لا بد لها أن تقوم وأن تؤدي هذا الدور وأن يكتمل في يوم من الأيام. وإذا قلت أن تيار الإسلام السياسي قد أدى أغراضه فقد قام في سياق تاريخي موضوعي كان لابد أن يقوم فيه، وهذا السياق التاريخي كله ينتهي إلى تحولات تُحتّم على هذا التيار النظر جذرياً في وضعه وأفكاره.
شكراً لكم وأعد بأن نلتقي في حوار فكري موسّع.
نقلاً عن صحيفة الديمقراطى