المبادئ فوق الدستورية أساس قويم لدستور ديمقراطي
بقلم/ كموكى شالوكا
نبهنى الرفيق الدكتور احمد سعيد عبدالرحمن الى مقال كتبه الاستاذ/ على العجب المحامى والناشط فى مجال حقوق الانسان بعنوان “الحركة الشعبية شمال أكسبوا زمنكم” يتعلق بكتيب المبادئ فوق الدستورية الذى صدر عن سكرتارية التدريب والبحوث والتخطيط بالحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال. وعند إطلاعي على المقال المذكور فى صحيفة “سودانايل” الاليكترونية وجدته يعج بمغالطات عما ورد فى الكتيب من مفاهيم، الكتيب صدر أساساً وقصدت الحركة الشعبية بذلك الى عرض مفهوم المبادئ فوق الدستورية للرأي العام وإثارة حوار ونقد بناء فى سبيل الاتفاق على أسس لدستور ديمقراطي دائم، ونشكر الاستاذ/ العجب أيما شكر على مساهمته، ويمكن إيجاز ما جاء فى المقال كالاتى:
( ان المفهوم لا علاقة له بالفقه الدستورى لا من قريب او بعيد و كان الاجدى تقديم وجهة نظر سياسية عن المبادئ التى يرون انها ذات اهمية خاصة فى الدستور – المبادئ فوق الدستورية ينسف فكرة الدستور نفسه – ينبغى ان تتم بنص داخل الدستور لأن اى مبدأ غير منصوص عليه فى الدستور لا يمكن اعتباره مبدأ دستوى – الفكرة مستمدة من القانون الدولى فى محاولات تثبيت مبادئ تلزم الدول بعدم انتقاصها – على منظرى الحركة الشعبية ان يتدارسو أسس صناعة الدساتير ومبادئ القانون الدستورى قبل الوقوع فى هذه المزالق- يجب التحلى بامانة علمية فى طرح هذه المطالب).
1. بدءاً نوضح ان مفهوم المبادئ فوق الدستورية (supra- constitutional principles) لم تأت به الحركة الشعبية لتحرير السودان- شمال ولم تنحت المصطلح، وإنما تبنت الفكرة نتيجة التحليل والحفر العميق لجذور المشاكل فى السودان و التي تمثلت من ضمن أسباب أخرى فى الخلل الذي لازم مشروع بناء الدولة السودانية، تبدّى ذلك فى عدم وجود دستور دائم للبلاد. فمنذ تأسيسها ظلت الدولة تتبع سياسات تتناقض مع حقائق الواقع ومصالح غالب شعوب السودان وذلك بتركيز السلطة والثروة فى أيادي جماعات وفئات عرقية وجهوية محددة . وقد قامت هذه الجماعات بتهميش الاخرين وفرض مشروع الهوية الاحادية، والاحادية الثقافية والاقصاء والاستعلاء وممارسة التمييز الدينى والعرقى والجهوى من خلال أجهزة الدولة، تم فرض ذلك بالقوة المادية بالاضافة الى القوة المرنة ممثلة في التشريعات والقوانين الجائرة الدينية منها والعنصرية.
فكرة “المبادئ فوق الدستورية” ليست جديدة وإن كانت التسمية هي الحديثة وقد سميت “فوق دستورية” للتشديد على أهميتها الجوهرية في بناء هيكل الدستور. لقد سبقت الى المبادئ فوق الدستورية دول ديمقراطية بقرون عدة تمتد الى الميثاق العظيم للحريات فى إنجلترا (وثيقة الماجنا كارتا) التى تم سنها فى عام 1215 ، وكانت أول ميثاق للحد من سلطة الملك، ووثائق حقوق الانسان التى اصبحت فى صلب أغلب دساتير العالم كإعلان حقوق الإنسان والمواطن الذى أصدرته الجمعية التأسيسية الوطنية فى 26 أغسطس لعام 1789فى فرنسا، ووثيقة الحقوق فى دستور الولايات المتحدة الأمريكية لعام 1791، والتى سعت لضمان الحريات المدنية وغيرها من المواثيق.
2. ونأتي الى انكار كاتب المقال علاقة المبادئ فوق الدستوري بالفقه الدستوري، فموضوع القانون الدستوري كما نعلم هو السلطة والحكم، وقد عُرّف القانون الدستوري بأنه مجال قانوني يحدد دور وسلطات وهياكل الكيانات المختلفة داخل الدولة التنفيذية والتشريعية والقضائية، فضلا عن حماية الحقوق الأساسية للمواطنين، وضمان حقوق الإنسان والحريات، كما يتعامل القانون الدستوري مع تفسير وتطبيق السلطات والحقوق والحريات التي ينص عليها دستور. وتعريفات القانون الدستوري تشمل الدستور المكتوب والدستور العرفى فى الانظمة التي تجيزها، وبالتالي يعتبر قانونا دستورياّ كل قانون يهم موضوعاّ دستورياّ مهما كان الشكل القانوني الذي وردت فيه هذه القواعد ان كانت وثيقة مكتوبة او دستوراً عرفياً . لذا فقول كاتب المقال أن المبادئ فوق الدستورية لا علاقة لها بالفقه الدستوري لا يصادف الفهم القانونى السليم.
أيضاً إدعاؤه انه كان الاجدى تقديم وجهة نظر سياسية عن المبادئ التى يرون انها ذات اهمية خاصة فى الدستور فأني لا أعرف من أيّ زاوية نظر كاتب المقال الى هذا العمل؟. كتيب المبادئ فوق الدستورية عمل سياسي بإمتياز، وهو واحد من المجهودات السياسية التى قامت بها الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال فى سبيل التثقيف السياسي والدستوري وما زالت تقوم بها والتي بلغت جملتها أحدى عشر كتيباً تغطى مجالات العلمانية والمبادئ فوق الدستورية، الهوية الوطنية، التعددية القانونية و غيرها.
3. قال كاتب المقال أن المبادئ فوق الدستورية ينسف فكرة الدستور نفسه، وهذه من جنس عينة الاسئلة التي تطرح بإستمرار مثل لماذا تكون فوق الدستور؟ و لماذا لا يشملها الدستور؟ و غيرها من بعض الذين يعارضون الفكرة من حيث المبدأ. والتمعن فى حجج المعارضين للمبدأ يكشف عن إتجاهات إقصائية تريد السيطرة على الأوضاع وفرض تصورات معتقدية على المجتمع بأكمله دون أدنى اعتبار لقيم التنوع والاختلاف وضمان الحقوق والحريات الأساسية للمواطنين. نجد أغلب حملة لواء هذا الرأي – مع قلة من الحادبين- هم دعاة الدولة الدينية وسدنة الامتيازات التاريخية الذين راكموا الثروات تاجروا فى كل شئ حتى فى البشر، ويشمل هذه الفئة إقطاعيي الريع العشائري وأعوان الاستعمار.
المبادئ فوق الدستورية هي قواعد تمس قضايا كبرى ومصيرية، وتعطى حصانةً استثنائية تجاه التغيير والتعديل. مضمون هذه المبادئ عموماً هي الكرامة الإنسانية، الحريات العامة، وحقوق الإنسان الأساسية والتي يكتسبها الإنسان لمجرد كونه إنسانًا. وتصبح الحاجة ماسّة إلى هذه المبادئ في البلاد التي تحتاج إلى بناء نظامها السياسي والقانوني الجديد بعد المرور بفترة نزاعات عنيفة وحروب أهلية، تؤدي إلى تحطم الروابط المجتمعية والوطنية، وأسس التعايش بين أبناء البلد الواحد.
وهنا نذكّر كاتب المقال بحروب الابادة و انتهاكات حقوق الانسان، التسلط السياسي وفتاوى الجهاد و الدعوة الى قتال جزء من أبناء الوطن، هذه الفتاوى ظلت قائمة الى الأن ولم نسمع يوماً أن نشطاء حقوق الانسان فى السودان قد طالبوا بالغائها.
نجد لكل دولة تجربتها وخصوصيتها التي تميزها عن الآخرين، ومرتبطة بمعاناتها وأحوالها ، ففي السودان ونظراً لتاريخها الذي لم يتفق فيها ساستها على دستور دائم منذ خروج المستعمر الى يومنا نتيجة لعدم الاتفاق على قواعد راسخة لصناعة الدستور وارتباط ذلك بمعاناة الشعوب السودانية نتيجة لإنتهاكات حقوق الانسان وحرياته الاساسية، وقد إقترح كتيب المبادئ فوق الدستورية مبادئ سامية هي صمام الأمان من تفتت الدولة، وهي علمانية الدولة و الديمقراطية التعددية والاعتراف بالتنوع وحسن إدارته، إحترام حقوق الانسان وإقرار اللامركزية السياسية والادارية والمالية، المقاومة الشعبية وممارسة حق تقرير المصير فى حالة تقويض أو الاعتداء على النظام العلماني الديمقراطي أو النظام اللامركزي.
4. قال كاتب المقال أن اى مبدأ غير منصوص عليه فى الدستور لا يمكن إعتباره مبدأً دستورياً. المبادئ فوق الدستورية ليس شرطاً لازماً أن تتم بنص داخل الدستور، ويرجع ذلك لسبب بسيط هو كما يعلم الجميع أن الدستور يمكن ان يكون عرفياً أى غير مكتوب. لقد دلت تجربة جنوب افريقيا أيضاً ان المبدأ الدستوري يمكن أن يكون فى وثيقة منفصلة، إذ حددت الجمعية التأسيسية فى جنوب افريقيا اربعة وثلاثون (34) مبدأً دستورياً، طلبت المحكمة الدستورية من كل الأحزاب السياسية والأفراد إبداء ارائهم حول مواءمة الدستور لهذه المبادئ وفيما إذا تم تضمينها في الدستور. قدّم كثير من الملاحظات و الإعتراضات حيث قضت المحكمة بأن المسودة الدستورية خرقت المبادئ الدستورية بعدم منحها سلطات واضحة للمحليات، كما إنها رأت أن الحقوق و الحريات العامة لم يتم تضمينها بالشكل المطلوب في الدستور. أعيدت المسودة للجمعية التأسيسية حيث قامت بالتعديلات المطلوبة وفقاً لحكم المحكمة الدستورية لتتواءم مع المبادئ الدستورية التي تم تحديدها.
أيضاً قد شهدنا دولاً عدة فى العالم وذات أنظمة مستقرة بدون وثيقة دستورية مكتوبة و أوضح مثال انجلترا، مثال آخر هي دولة إسرائيل التي ليس لها دستور مكتوب والمبدأ فوق الدستوري فى القانون الأساسى لديها ينص على إبطال أي قانون ينتهك شخصية إسرائيل كدولة يهودية.
5. يقول كاتب المقال أن المبادئ فوق الدستورية فكرة مستمدة من القانون الدولى فى محاولات تثبيت مبادئ تلزم الدول بعدم انتقاصها واعتمد في تحديد هذه المبادئ فى مجال حقوق الانسان على القانون الطبيعي بإعتبارها مرتبطة بكرامة وحياة الانسان وعرفت بالمبادئ الملزمة Cogens Jus. كما أسلفنا فان مضمون المبادئ فوق الدستورية هي الكرامة الإنسانية، الحريات العامة، وحقوق الإنسان الأساسية والتي يكتسبها الإنسان لمجرد كونه إنسانًا، و لهذا السبب وضعت فى مقام سام غير قابل للالغاء والتغيير وليس لأنها مستمدة من القانون الدولى أو مرتبطة بالمبادئ الملزمة.
6. القواعد الآمرة أو القطعية (Jus Cogens) وتعني مجموعة من المبادئ الأساسية للقانون الدولي
التي تلزم جميع الدول ولا تسمح بأي استثناءات. أما القانون الدولي هو القانون الذي يحكم العلاقات المختلفة بين دول العالم والضوابط التي يجب أن تلتزم بها الدول مع بعضها بعضاً في أثناء تعاملاتها المشتركة. وما يتحدث عنه الكتيب هي القواعد فوق الدستورية الوطنية الخاصة بالدول وترتبط بتجربتها وخصوصيتها التي تميزها عن الآخرين، وتتميز بأنها وطنية تخص دولة بعينها ومرتبطة بمعاناتها وأحوالها ولا تنص عليها تشريعات ومواثيق دولية ولا ترتب على الدولة أية التزامات تجاه الخارج، وهذا لا علاقة له بالقانون الدولى وقواعده الامرة .
7. كما تقدم أن وضحنا أن الكتيب عمل سياسي ضمن مجهودات الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال للتنوير و حشد الدعم والتأييد لما تراه مخرجاً من التيه الذي رزح فيه السودان وما يزال منذ نيف و ستين سنة. لقد أنكر الاستاذ علاقة المبادئ فوق الدستوري بالفقه الدستوري ولم يقنع القارئ بحجة واحدة، و لدهشتي أنقلب الاستاذ/ العجب لممارسة استاذية على الحركة الشعبية وعرض خارج الدائرة، قال على الحركة الشعبية التحلى بأمانة علمية فى طرح هذه المطالب، وكان حري به ان ينصح نفسه إذ جاء مقاله مرسلاً دون أسانيد. صحيح ان مفهوم المبادئ فوق دستورية ليس محل أتفاق من الجميع لذلك أورد الكتيب أراء كل من المؤيدين و المعارضين وسند بالمراجع التي تم الاستناد عليها فأين عدم الامانة العلمية هنا؟
ومرة أخرى قال على منظري الحركة الشعبية ان يتدارسو أسس صناعة الدساتير ومبادئ القانون الدستورى قبل الوقوع فى هذه المزالق. موضوع الكتيب ليس وثيقة دستورية ولم تدعي الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال ذلك، بل هي رؤية سياسية فكيف فهم الاستاذ/ انه دستور لم يستوفي أسس صناعة الدساتير ومبادئ القانون الدستوري؟ أرجو أن يتمهل صديقنا الى ان يحين الوقت الذي تطرح فيه الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال مسودة الدستور حينها تكون الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال سعيدة بأي نقد مهما كان قاسياً.
كاودا – الأراضي المحررة