اللائكیة والعلمانیة

بقلم/ مراد موديا

 

التاریخ وأسباب التمایز في الممارسة والتطبیق

في إطار الجدل الذي یدور منذ فترة في السودان حول مفهوم العلمانیة والتي نقدم لها هنا تحت اسم اللایكیة وهي تعریب لكلمة laïcité في الفرنسیة والتي یراها الكثیر من الفلاسفة وعلماء السیاسة والاجتماع في فرنسا انها لیست بالضرورة مطابقة لما یسمى بالعلمانیة او Secularism في الإنجلیزیة والمطبقة في معظم دول العالم الیوم بغض النظر عما یعتقده سكان هذه الدول من العقائد او الأدیان. ولا یمكننا فهم هذه المصطلحات في إطارها الاصطلاحي والقانوني ما لم نحیط علما بترتیب بعض المفاهیم المتعلقة بها، فمصطلح اللایكیة الشائعة في الدراسات الأكادیمیة الفرنكفونیة والمتعلقة بالبحث في علاقات السیاسة والدین، بینما نجد ان تعبیري ” العلمانیة Secularism ” و ” الدولة العلمانیة Secular State ” في الدراسات السیاسیة والأكادیمیة الانجلوفونیة. فاللایكیة في مجمل تعریفها الفلسفي في فرنسا تعني الموائمة في مختلف الظروف الاجتماعیة والتاریخیة والجیوسیاسیة بین ثلاثة مبادئ:

1. إحترام حریة الطویة أو الضمیر وممارستها الفردیة والجماعیة.

2. إستقلالیة السیاسة والمجتمع المدني عن كل ما یتعلق او یمكن أن یقاس بمعاییر دینیة وفلسفیة معینة. 3. عدم التمییز المباشر أو غیر المباشر ضد البشر.

واللایكیة بهذا الإطار هو نهج لا ُیعنى بتحدید علم اجتماع الدین la Socialogie de la religion بقدر ما انها تختص في البحث في العلوم السیاسیة والقانونیة ومناقشات الفلسفة والسیاسة. ویرى جون بوبیروً Jean Baubérot عالم الاجتماع الفرنسي المعروف جدا والمتخصص في دراسات اللایكیة ” أنه بإستطاعة الجهات المختلفة الفاعلة اجتماعیا ان تفسر اللایكیة وفقا لمصالحهم الخاصة. فیمكن لرجال الدین عندما یقبلون باللایكیة، ان یجعلوها متكافئة مع حریة الطویة، التي یتم تصویرها على انها حریة دینیة في الأساس. كما یمكن للمناهضین لرجال الدین، الملحدین او المحایدین دینیا، ان یفهموا اللایكیة على انها فوق كل شئ، وهي كذلك فیما یتعلق بإدارة شؤون الدولة والسیاسة.” للایكیة الفرنسیة أطرها الفلسفیة التي تجعلها ممیزة بعض الشيء عن العلمانیة في دول الغرب الأخرى. وفي كل الأحوال نجد أ َّن مفهوم اللائكیة في الحالة الفرنسیة والعلمانیة في الحالة الإنجلیزیة، قد تعرض لكثیر من سوء الفهم والانتقاد الحاد المصحوب بالعنف المادي في أحیان كثیرة. واحدة من هذه المفاهیم الخاطئة هي فهم اللایكیة على أنها تجسد الكراهیة للدین، أو أنها بالضرورة ضد مفهوم الدین. ویرى بعض رجال الدین أن اللایكیة أو العلمانیة ش ٌئ لا یتناسب مع الدین، وفي كلا النموذجین سیظهر لنا بوضوح ودون مجال للشك بأنها مفاهیم تعمدت تفسیرا خاطئا للكلمة.
اللایكیة في اللغة الفرنسیة Laïque و Laïcisme وتعنى “خاص بالجمهور” هي صفة Adjective ًًللجمهوریة الفرنسیة التي لا تتبنى دینا معینا، ولا تكون جزًء من أي مؤسسة دینیة، أي لیس للجمهوریة صفة دینیة. ومن ذلك على سبیل المثال عندما نقول بالفرنسیة L’école Laïque “مدرسة لاییك” یعني أنها مدرسة لا تدرس فیها الأدیان بالمعني الثیولوجي، أي أنها مدرسة محایدة وتقوم بتدریس محاید وغیر منحاز لأي دین “enseignement neutre. وهي النسخة الفرنسیة للعلمانیة ” مع أخذنا في الاعتبار عدم توافقیة الكلمة في الفرنسیة للمفردة الإنجلیزیة تماًما” Secularism وتعني في الفرنسیة إبعاد وفصل الجمهوریة من الدین ومؤسساته.

بدأ استعمال مفردة Laïque في فرنسا منذ 1842-1871، من الأصل اللاتیني للكلمة Laicus ومن معانیها، محاید. من الناحیة التاریخیة بالنسبة للحالة الفرنسیة، من الضروري القول أنه لیس باستطاعتنا فهم اللایكیة الفرنسیة Laïcité إذا نسینا أ َّن فرنسا كانت مملكة كاثولیكیة، وحازت عام 1496 من البابا على لقب الابنة الكبرى للكنیسة الكاثولیكیة. ولقرون طویلة كان هناك صراع محتدم بین السلطة الدینیة وملك فرنسا من ناحیة، ومن ناحیة أخرى بین الفلاسفة والمفكرین ضد الملك والكنیسة معا. وظلت فرنسا بالرغم من هذا اللقب بلد التنویر الذي عج بالفلاسفة والمفكرین أمثال جان جاك روسو، جان بودان، جان مارك فیري، جان بول سارتر، دنیس دیدرو، رینیه دیكارت وفولتیر وغیرهم من الفلاسفة والمفكرین الذین أثروا الفضاء الفكري والتحرري في فرنسا والعالم، إلى آخر مفكري فرنسا في العصر الحدیث میشیل فوكو.

ومن مظاهر هذا الصراع ثلاثي الأبعاد المعلن بین ) الملك، الكنیسة في صراعهما المتمثل في رغبة كل منهما بالسیطرة على الآخر، والمفكرون والفلاسفة الذین ضاقوا بالاثنین معا( فالثورة الفرنسیة قامت ضد النظام الملكي الذي كان مربرطا بالكنیسة. لذلك أصبحت الثورة أیضا ضد الكنیسة التي كانت تحاول الإبقاء على النظام الملكي لتستمر في إملاء أجندة المؤسسة الدینیة وطموحات رجالها برغبة السیطرة على الناس وعدم تركهم لینظروا خارج الفضاء الذي تراه الكنیسة ممثلة في رجال الدین. لذلك ادانت الكنیسة الكاثولیكیة وقتها في أشد ما تكون الإدانة كل مبادئ التفكیر الحر والدیمقراطیة ودعوات إرجاع السلطة وتفاصیل الحكم للشعب. هذا الموقف والعداء التاریخي من قبل الكنیسة للمفكرین والفلاسفة وانحیاز الكنیسة للملك في الصراع السیاسي مع الشعب، قادت في القرنین الثامن والتاسع عشر إلى صراع كبیر بین الكنیسة والجمهوریة الفرنسیة، مما اضطر بالجمهوریة أن تغلق وتمنع كل مؤسسات التدریس الكاثولیكیة رغما من
الإتفاق الذي وقعه نابلیون مع الكنیسة عام 1801 في باریس والذي استمر حتى عام 1905 عند صدور قانون الفصل الكامل ما بین الجمهوریة والمؤسسة الدینیة أثناء الجمهوریة الثالثة والتي مثلت البدایة الدستوریة والقانونیة الحقیقیة للجمهوریة الفرنسیة اللائكیة ” العلمانیة ” وتثبیت قیم الثورة الفرنسیة التي تمثلت في الحریة Liberté، المساواة Equalité والإخاء Feternité. واللایكیة لیست من قیم الجمهوریة وإنما هي وسیلة لتطبیق هذه القیم وضمان الوصول إلیها وصیانتها. ومن هذا المنطلق فإن العلمنة لیست غایة في حد ذاتها وإنما وسیلة لبلوغ الغایة، والغایة في الحالة الفرنسیة هي تطبیق وترسیخ والحفاظ على شعار الثورة الفرنسیة وإشاعتها بین المواطنین على قدم المساواة وهي: الحریة – العدالة – الإخاء. ویمكن أن تتغیر هذه الغایات في معاني أخري وفقا لاحتیاجات أي بلد. ففي حالتنا السودانیة مثل هنالك قیم طالب بها الشعب في كل ثوراته المسلحة والسلمیة منها وتمثلت في المطالبة بالحریة – السلام والعدالة، ولا نرى أي إمكانیة لتحقیق هذه القیم الإنسانیة وترسیخها في المجتمع السوداني ما لم یتم الإقرار وتحقیق العلمانیة كوسیلة ناجعة وضروریة لیس في فصل موسسات الجمهوریة عن المؤسسات الدینیة وهیمنتها علیه، وإنما هي ضروریة كأقصى ما تكون علیه الضرورة لبقاء السودان دولة موحدة وقابلة للتقدم.

اقرت فرنسا قانون 1905 كمبدأ لحیادیة الجمهوریة ونفي أي علاقة بین الجمهوریة وأي دین من الأدیان ومؤسساتها، فالمادة الثانیة من قانون 1905 التي تنص على أ َّن الجمهوریة ” لا تعترف بأي دین…. The Republic doesn’t recognize any religion… “ وهذا یعني بطریقة أخرى أ َّن الجمهوریة تعترف بكل الأدیان وتقف على الحیاد منها على أن تكون المؤسسة الدینیة بعیدًة ومنفصلة عن الجمهوریة ً تماما، وعلیه فان اللایكیة في الحالة الفرنسیة وفي حالة العلمانیات الغربیة الأخرى هي لیست عقیدة ولكنها حریة الاختیار لأي شخص لیختار.

وفیما یتعلق بالخدمة المدنیة في النظام اللایكي/ العلماني فینبغي لكل موظفي الدولة أن یكونوا محایدین، فهم موظفون لخدمة الدولة ولیس لخدمة أدیانهم، وبهذه الصفة لایجوز لهم القیام بالتبشیر أثناء وجودهم في الخدمة. ومن هذا المنطلق فإ َّن اللایكیة أو العلمانیة لا تعني تجاهل الأدیان وإنما هي ضد ما كان یسمى في أروبا وقتها ب Clericalism أو “الاكلیروسیة” أن صح التعریب. الاكلیروسیة هي )تطبیق القیادة
الكاثولیكیة الرسمیة أو رأي رجال الدین في الأمور السیاسیة والاجتماعیة والثقافیة( ویقابلها في الإسلامنظام ” شیوخ الدین أو الملالي، جمع ملة “.
فردیناند بواسون 1883 Ferdinand Poisson ​یرى أ َّن اللایكیة وفقًا للتعریف الذي تم تطویره ًًلاحقا في ستینات القرن الماضي من بعض علماء السیاسة، یمیز بین ثلاثة معاییر أساسیة أولا: حریة الدین) حریة الضمیر ، حریة تكوین الجمعیات للأغراض الدینیة، حریة الدین في إدارة شؤونه الخاصة، وقد تتدخل الدولة بشكل محدود لصالح الصحة، القانون الآداب أو القانون(، ثم المواطنة إذ لا ترتبط حقوق وواجبات المواطنة بالانتماء إلى المعتقدات الدینیة، وأخیرا إستقلالیة الدولة وإنفصالها عن مؤسسات الدین، بحیث لا تروج أو تمول الدولة أي دین. D.Smith1963. یبقى الهدف والقصد من اللایكیة أو العلمانیة هو التعبیر عن الإرادة السیاسیة للدولة وحكومتها لتغییر میزان القوى بین الدولة والمؤسسة الدینیة. وعلى هذا الأساس فإ َّن اللایكیة هي نتاج عملیة تاریخیة مرتبطة بالإطار القانوني، فیما یختص بتنظیم القانون للعلاقة بین الدولة والمؤسسة الدینیة. فمث ًلا نجد أ َّن مصطلح العلمانیة المستخدمة في الدستور الهندي تعني الاعتراف والاحترام لجمیع الأدیان، دون الحاجة لفكرة الفصل الكامل بین الدین والدولة ” وهذا النموذج یحمل كثیرا من الأخطار وان سمها البعض باكبر دیمقراطیة لكن یظل هنالك مجالا كبیرا في الحالة الهندیة للمرواغة واستغلال الدین ورموزه في كثیر من محافل الجمهوریة الرسمیة مما یعني بطریقة مباشرة او غیر مباشرة استفادة بعض الدیانات من السلطة”.
ً
واللائكیة الفرنسیة تشبه كثیرا حالة تعامل المجتمعات الأفریقیة ذات العقائد الروحیة او مع أي عقیدة أخرى اذ تحد المجتمعات الأفریقیة في فطرته الأصل تفرق تماما ما هو لقیصر وما هو الله. وبهذا المعنى فان اللایستى laïcité ​او اللایكیة لیست غایة في حد ذاتها وإنما وسیلة لبلوغ الغایة، والغایة في الحالة الفرنسیة هي الحریة والإخاء والمساواة، وفي حالتنا السودانیة هي الحریة السلام والعدالة. الدولة والجمهوریة بهذه الصفة هي لیست مع الأدیان ولا ضدها ولكنها محایدة، والحیادیة تعني:
ًً
● ان تكون محایدا یجب أن تكون منفصلا من أي علاقة مع أي دین أو مجموعة عقدیة. ویجب أن ینظم ویشدد على هذه الحیادیة بقوانین ومواد دستوریة قاطعة.) راجع قانون 1905 الذي یفصل بین الجمهوریة والكنیسة(
ً ● حیادیةالدولةوالجمهوریةتكونأكثرتشدیدافيمؤسساتالخدمةالمدنیةوحیادیتها.
ً فمثلا اذا جاءت واحدة راهبة وطلبت من المطران في الكنیسة الكاثولیكیة بان یسمح لها بالصلاة بالمؤمنین ورفض لها المطران مستندا ان ذلك لیس من الكاثولیكیة، وبعدها جاءت هذه السیدة وطلبت من المحكمة التدخل، المحكمة لا تستطیع التدخل لانها لا تملك الحق في تفسیر وتصحیح عقائد الآخرین وفي هذه الحالة المحكمة لا تملك ولیس من حقها تفسیر نصوص الكتاب المقدس للاتباع المؤمنین الكاثولیك.

مثال آخر: اذا فرضت واجبرت دیانة ما بنتا على ارتداء الحجاب وهي لا ترید ارتداءه فعلى الدولة أن تتدخل لحمایتها، ولكن لیس للدولة الحق في تقریر ما اذا كان الحجاب من هذا ذاك الدین أم لا. وبذات القدر لا یجوز لأي دین من الدیانات حبس أي شخص او سجنه ومنعه من حریة الحركة باعتبار انه لیس مومنا ً جیدا فحریة الحركة المطلقة تحمیه الدولة بالقانون كحق انساني اصیل…. یواصل

[email protected]
مراد مودیا باریس 10/11/2020

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.