العنصرية والتراتيبية الإجتماعية وخلل الدولة الهيكلي
فاروق عثمان
نشر في 15 مايو 2020
التعامل الصارم والقوي وردات الفعل العنيفة تجاه التعديات او السلوك العنصري لابناء الهامش تجاه من يقومون بها أيا كان موقعهم وموقفهم، هي نتيجة لوعيهم العالي بطبيعة وجذور الصراع في السودان والناتج عن سلسلة طويلة وممتدة من الاستعلاءات والفرز الثقافي والعرقي والديني والنوعي ظلت تمارس عليهم منذ تدشين الهوية الأحادية الدينية والثقافية والعرقية وفق محددات الوعي الايدلوجي الاسلاموعروبي.
هذا الاستعلاء نجم عنه وأفضي إلي نشوء تراتيبة أجتماعية نقسم الناس وفق لونهم وعرقهم ودينهم وثقافاتهم، و كانت المدخل الرئيس للتهميش بانواعه التنموية والسلطوية والثقافية في السودان.
فالآخر المختلف هذا ورغما عن تمدده الديمغرافي الهائل، إنطبع في البرادايم الجمعي لحاملي هذه الايدلوجيا بانه في مرتبة دون أو أقل فهو (عب خادم وخاساوي وجنقاوي ومسيحي وكافر) وغيرها من التنميطات الوصفية التي تتفاوت من حيث محمولاتها سوا شكلية أو مورفلجية أو عرقية او دينية او جهوية او نوعية… الخ، من تنميطات تستبطن إستحقارا واستهزاء ودونية.
هذه التراتيبة الأجتماعية العليا، ومن خلال القمع المستمر والطويل أعطت لنفسها حق الامتياز الدائم والمستمر في الاستئثار بالسلطة والثورة بل حتي التفكير إنابة عن الآخرين والتقرير في شئونهم ومصائرهم دنيا ودين، كل ذلك لانها تستبطن وعيا عنصريا ومتعجرفا بأنها اكثر تميزا و أعلي تراتيبية إجتماعية من أولئك، وهو ما قاد الي حصولها علي هذه الإمتيازات كونها في مرتبة أعلي اجتماعيا وأنقي عرقيا وأسمي ثقافيا وأكثر دينية من أولئك، وهو ذات الترتيب الذي شكل موانع هيكلية للآخرين من نيل حقوقهم كاملة في بلد هم فيه الأصلاء، وليكما يستمر هذا الوضع فهي تمارس قمع معنوي راتب لإشعار هذه المجاميع المضطهدة وتذكيرها بأنها الأدني وعليها التسليم والإقرار بذلك وعدم الخروج من التراتيبية المختارة لهم من قبل هؤلاء الصفوة الإشراف الغر الميامين ، وهذا القمع المعنوي يمكنهم من إخضاع الآخر بكسر هيبته وجعل ثقته في نفسه مهزوزة وصاحب شخصية منكسرة ومطيعة، مما يجعله مسلما ومقرا بهكذا وضع.
هذا الخلل المستمر أدى الي نشوء تيار عريض من الرفض المبرر والمنطقي والموضوعي والعادل علي هذه الأوضاع من قبل الكيانات والمجاميع المتضررة، التي احتجت سلميا ووفق الطرق السلمية المتاحة، ولكن لم تجد من سلطة الأسياد مدنيين كانو أو عسكريين إلا القمع بشقيه المعنوي الممثل في في الوصم بالمتمردين والخوارج والانفصاليين وغيرها وهذا القمع المعنوي صحبه قمع مادي عنيف أدى الي شن الحروبات عليهم و قتل الملايين وتشريد مثلهم واغتصاب الآلاف من النساء ، وحتي مفهوم الاغتصاب يحمل وعيا أيدلوجيا لأنه منطلق من منصات فقهية وهو فقه السبي والإماء، اللائي يحق لك إستعبادهم وممارسة الجنس معهم وحتي بيعهم. هذا الفعل العنيف جعل المعتدي عليهم يحملون السلاح من أجل البقاء والوجود.
والمحزن وانه بعد كل هذه التعديات اذا ما دافع الضحية عن نفسه او حاول التصدي لهذا التعدي الممنهج والطويل فإنه يوسم بأنه يمارس العنصرية المضادة والحقد وغيرها، وإذا كان المنتقد من نفس مكونهم الثقافي يوصف بانه داعي للفتنة، ولكنها طبيعة وبنية العنصريين علي مر التاريخ يمارسون كل أنواع العنصرية والإقصاء ماديا ومعنويا وحين يحتج الضحية يلصقون له فرمانهم الجاهز وهو العنصرية المضادة او الانفصالية او التمرد او غيرها من وصوفات برع الذهن الجمعي الاقصائي في إنتاجها واستنساخها لقمع الاخر وإسكاته وإخضاعه.
إن التغيير الجذري يجب أن يقوم علي مستوي شعبي قاعدي وهو تغيير الذهن الجمعي للقاعدة المجتمعية، أي العامة ممن يتوهمون أن جدهم العباس او علي او الحسين، وفي حقيقة الأمر أن جدهم هو البطل قالدرون والعظيم تهارقا، هذا الوعي الهوياتي الزائف هو مدخل إنتاج فكري وتصوري و الحاضنة المجتمعية للساسة والصفوة والمثقفين، لذا تجدن كثيرا منهم يحمل ذات الأمراض وعيا ودونه حتي لو حاول إخفائها تكتيكا ، لأنه ببساطة الجزء لا ينفصل من الكل وهذه بنت تلك، لذلك نجد أنه وبعد انتصار الثورة تلكأت هذه الصفوة السياسية والمثقفة عن إقرار العلمانية والفدرالية واللامركزية، بالرغم من أن الثورة بدأها أهل الهامش وقدموا الآف من الشهداء واسهموا في خلخلة النظام وإضعافه عسكريا وسياسيا، حتي تم الاجهاز عليه من قبل الشباب والكنداكات الثوريين، هذا التلكؤ من الصفوة المتحكمة الآن مرده أنها تعلم ان تطبيق هذه المطلوبات الثورية والهيكلية الجاد والحق، يعني بداية الطريق نحو تفكيك الدولة القديمة والعميقة واحداث تغيير جذري وشامل في هيكل الدولة السودانية المختل، وسينهي هذه التعديات والاستعلاءات والامتيازات المادية والمعنوية، ويوقف باب الحروب للأبد، ولكنه في ذات الوقت يجردهم من إمتيازات حصلوا عليها لخمسمائة عام أو تزيد بخلق هذا الواقع من خلال ديممومة واستمرار نمط التراتيبيات الأجتماعية الظالم والمختل.
فاروق عثمان
15 مايو 2020