العلمانية ضرورة موضوعية وتاريخية لبناء الدولة الوطنية  (1).

✍️ عبده إسحق (ديكارت)

 

يعتبر مفهوم (العلمانية) أحد أكثر المفاهيم حضورا في حلبة الصراع (السياسي، الإجتماعي، الثقافي) خاصة في ما يسمى بالدول العربية – الإسلامية التي فرضت الآيديولوجيا الإسلاموعروبية عموديا من قبل الجماعات الرجعية. وحتى (أهل اليسار) ومن تبنى الماركسية أو الإشتراكية في السودان بفروعهم المختلفة – رغم إدعائهم التقدمية (الحزب الشيوعي، حزب البعث العربي الإشتراكي، الحزب الناصري)، فقد ساهموا من موقع الصدارة وتفوقوا على الاخوان المسلمين في طرح وتطبيق هذا المشروع الإستعلائي السقيم الذي أصبح من مخلفات تاريخ الشعوب والأمم المتمدنة في مسارها  نحو عوالم الأنسنة والسلام الكوكبي  الدائم المنشود، بإعتباره (العمل العظيم) لعالمنا، ولكل إنسان حر ومستنير.

 

العلمانية منذ صياغتها في قالبها الإصطلاحي ومدلولها المفاهيمي- آنذاك – خضعت لعدة تعاريف وتأويلات. بعض هذه التعريفات إتسمت بالأمانة الفكرية والعلمية، والأخرى إفتقرت ذلك. وهذا كان على مستوى القواميس اللغوية والمعاجم العلمية أو التنظيرات الشخصية.

 

ومن خلال إهتمامي وبحثي في هذا المفهوم المركزي في حقل الصراع الوجودي بين المركز والهامش – ولا سيما التيار الثوري التقدمي الجذري، إستطيع القول إن أصدق وأدق تعريف للعلمانية هو :

 

(يستطيع الإنسان الإعتماد  على عقله في إدارة شؤون حياته دون الرجوع إلي أي قوى غيبية “ما ورائية”).

 

وهذا الأمر ممكن لأي شخص بما فيهم المؤمنين، وخاصة أصحاب الديانات التوحيدية الشرق الأوسطية.

 

إذا مدلول العلمانية بناء على هذا التعريف هو أعمق وأبعد وأشمل من تعريفها السياسي المتعارف عليه (فصل الدين عن الدولة) والذي يعتبر بعد إجرائي فقط مع الأبعاد الأخرى العقلانية والقيمية – أي الإطار المرجعي لعقل الإنسان وقيمه وأخلاقه.

 

وبهذا تعتبر العلمانية هي تصور وموقف متماسمك وشامل يعبر عن الوجود وطبيعة العقل والدين والقيم الإنسانية والسياسة. وفكرة الدولة هي في الأساس منتوج بشري عقلاني لضرورة موضوعية وحوجة ملحة.

 

ويعتبر التفكير والإبداع العلمي إحدى الأدوات المعنية بإيجاد الحلول النسبية متى ما واجه الإنسان إشكالات وتحديات في سيرورة حياته. ومن ضمن هذه الموضوعات كيفية تأسيس الأسرة وإدارتها كأول خلية نشأت من البشرية في التاريخ بغرض تنظيم المجتمع، بعدها تطورت وتوسعت لتشمل العشيرة ومنها الي القبيلة ومرورا بالسلطنة أو المملكة. وليس أخيرا بالإمبراطورية إلى أن وصل الإنسان لفكرة وصيغة الدولة الوطنية الحديثة بعد إتفاقية ويستفاليا 1648 والتي  تعرف إصطلاحا بعدة تعريفات سياسية وقانونية وفلسفية ومفاهيمية.

 

تتكون الدولة من أربعة أركان أساسية وهي (الأرض، الشعب، السلطة، والسيادة). والسيادة في الأصل حق مطلق  للشعوب ولكنهم يمنحونه لممثليهم من الحكام لإدارة شؤونهم العامة في إطار دستور دائم يحدد حدود مشروعيتهم في ممارسة السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية.

 

 

إذا تنظيم الفرد لشؤونه بما في ذلك تأسيس دولة وإدارتها، تمليه عليه إستخدام العقل من حيث المبدأ. بمعنى إنه لتأسيس الدولة فإن المرجعية هي العقل وليس غير ذلك.

 

العقلانية تقول بأن العقل لوحده له هذا الحق، وخلاف ذلك يتم التحقق بمنطق وواقعية من خلال إعمال  العقل. وهذه هي الحقيقة الفلسفية العلمية لفكرة ومفهوم العلمانية وموقعها في العالم الوجودي الحسي.

 

 

ولكن في السودان هنالك ضرورة أخرى، وهي الأبعاد التاريخية التي تقتضي تأسيس دولة علمانية، وهذه الحجة تستند على عدة حقائق وبراهين، منها وثائق تاريخية وأخرى شواهد ومعطيات آنية. وموضوع الإثبات لهذه الوثائق هو السجل الإجرامي للآيديولوجية الإسلامو- العروبية ضد الشعوب السودانية الأصيلة منذ معاهدة البقط الإجبارية عام 651م وبموجبها تم  إسترقاق أكثر من (245,000) إنسان، غالبيتهم من الشباب.

 

وتواصلت حملات الغزو بشعارات ولافتات مختلفة، ولكن المضمون والهدف كان وما زال واحد. وهو الإحتلال لإسترقاق الشعوب ونهب مواردهم. وهذه الجرائم تورط فيها كل من الإمبراطورية العثمانية (الحكم التركي – المصري) وما يسمى بالثورة المهدية، وأخيرا الحركة الإسلامية الإرهابية التي أعلنت الجهاد ضد الجنوبين وإصدرت فتاوي تجيز قتل شعب جبال النوبة في العام 1992.

 

وللمفارقة حتى إنسان الشمال والوسط النيلي وحواضنهم الإجتماعية لم يسلموا من هذه الفتاوي العنصرية التحريضية حيث أفتى المدعو (عبد الحي يوسف) بقتل ثلث المعتصمين أمام القيادة العامة بدوافع الحفاظ على أمن وسلامة ومصلحة الثلثين من الشعوب.

 

وبناء على هذا السجل الإجرامي الطويل على مر التاريخ بإسم الإله – أي الدولة الإسلامية – آن الأوان للقوى الثورية لأن تتحلى بالشجاعة وتأكد وتبرهن مصداقيتها للمهمشين، وتلتزم بالعهد الذي قطعوه مع الرفاق والرفيقات الذين ضحوا بحياتهم من أجل السودان الجديد.

 

ويجب أن لا يقبلوا بأنصاف الحلول دون الدولة العلمانية الديمقراطية التعددية اللامركزية.

 

يجب أن تكون هذه العبارات نصا وموضوعا في أي تسوية سياسية شاملة تخاطب جذور الأزمة السودانية، وتصاغ هذا المفاهيم ك(مباديء فوق الدستورية) في الدستور الدائم.

 

وأن لا يقبل تأجيل أي قضية من هذه القضايا (التي يسمونها بالخلافية) بواسطة الجماعات الرجعية. فهي في الحقيقة قضايا وجودية للقوى الثورية التقدمية وللشعوب المهمشة. ويتوجب مناقشتها بجدية في أي منصة لإعادة تأسيس الدولة السودانية وإنهاء الحروب المستمرة.

 

كثير من القوى السياسية المتحذلقة تتهرب من مناقشة القضايا الجوهرية التي تعتبر مدخل لحل الأزمة التاريخية، وتريد إتخاذ (المؤتمر الدستوري) كمحطة مناورة للهروب من أسئلة إعادة التأسيس، وهم بهذا يسعون إلى ترميم السودان القديم الآيل للسقوط.

 

إذا وفقا لهذه المعطيات والضرورات الموضوعية والتاريخية ليس هنالك أسس فلسفية معرفية ومفهومية منطلقة من صلب الدين، أي الماهية العقدية، أو أي  مسوغات تدعو إلى تأسيس دولة ناهيك عن كونها إسلامية (مدنية). لذلك مستحيل قيامها لأنها بمثابة أسطورة تاريخية وخرافة آنية وأوهام مستقبلية. وما يؤكد صحة هذه الحقيقة الكونية العقلانية هو الخلاف الواضح بين (ما يسمون أنفسهم بالمجتهدين) حول الأطر  المرجعية لتأسيس أو إثبات الدولة الدينية. وهنا نستعرض بعد أفكارهم:

 

 

1- فلنبدأ بصاحب الفكرة وهو (حسن البنا) الذي قال: (الإسلام دين وعبادة وقيادة، دين ودولة وروحانية وعمل لا ينفك واحد عن الآخر). وهذا يعني إن الإسلام “القرآن والسنة” هو منهج شامل لتنظيم الحياة، وتأسيس الدولة من ضمن الموضوعات العقدية للمسلم لأنه من الفرائض كالشهادة والصلاة والصوم والزكاة والحج وهذه تسمى بالأركان الخمسة وهي قطعية الحجة بمعنى غير قابل للتأويل مهما تغيرت الظروف والأمكنة.

 

2- يوسف القرضاوي قال: (إن العلاقة بين الدين والدولة، أمر تفرضه نصوص دينية معينة، وإن سعي المسلم  لإقامة دولة إسلامية ما هو إلا تنفيذ لأمر إلهي. وإن الدعوة للعلمانية هي خروج عن الإسلام، لأنها دعوة مخالفة لنص ديني قطعي من “القران والسنة”).

 

وموقف القرضاوي واضح ومطابق لرأي حسن البنا، فقط أضاف مفهوم (العلمانية) بإعتباره لم يذكر في أي نص من نصوص القرآن والسنة وبقية مصادر التشريع في الإسلام، وفي هذا الرأي تشاطره الجماعات السلفية الجهادية بمختلف  مسمياتها. على سبيل المثال: (تنظيم القاعدة، تنظيم الدولة الإسلامية العربية الشامية “داعش”، حركة الشباب المجاهدين، جماعة بوكو حرام، حزب الله، وجماعة الخميني “الملالي” في إيران).

 

وهنالك تيار آخر  يعرف بالتجديدي، له وجهة نظر مختلفة لمفهوم الدولة الإسلامية، ومن أبرزهم:

 

1/ علي عبد الرزاق الذي يقول: (إن القضاء ووظائف الحكم ومراكز الدولة كلها ما هي إلا خطط سياسية صرفة لا شأن للدين بها، والدين لم ينكرها ولا أقر بها، إنما تركها لنا لنرجع الي إحكام العقل).

 

2/ محمد أحمد خلف الله يقول: (إن الإسلام “دين ودولة” وهو “إسلام حضاري” وليس “إسلام ديني” وإن صيغة الحكومة الإسلامية يقصد بها “الإسلام الحضاري” وليس الإسلام الديني، بمعنى إن الإلتزام هنا هو إلتزام يرتكز على المصلحة التي يقدرها العقل البشري وليس الإلتزام الديني بموجب وجود نص ديني من عند الله).

 

3/ راشد الغنوشي أيضا كان من التيار الأصولي  للإسلاميين في تسعينات القرن الماضي، إلا إنه بعد ثورة تونس تراجع عن موقفه السابق في العام 2016، ودعى إلى (فصل الدين عن الدولة) في الموتمر العاشر لحزب النهضة. ومن أوضح نقاطه في خطابه حول علاقة الدين بالدولة قال: (علينا النأي  عن الدين في المعارك السياسية، والتحييد الكامل للمساجد من الخصومات السياسية، وعن التوظيف الحزبي حتى تكون المساجد “جامعة لا مفرقة” وإن النهضة كانت في البداية “حركة عقائدية” لكنها تحولت إلى “حركة إحتجاجية” شاملة في مواجهة نظام شمولي دكتاتوري. لقد تحولنا إلى حزب ديمقراطي وطني متفرغ للعمل السياسي بمرجعية وطنية تنهل من قيم الإسلام).

 

وأضاف الغنوشي: (إن الحركة الآن تكرس التمايز الواضح بين المسلمين الديموقراطيين الذين هم نحن، وبين تيارات التشدد والعنف التي تنسب نفسها زورا إلى الإسلام).

 

إذا، هذا هو الخلاف بين المنظرين والمجتهدين الإسلاميين التجديدين مع الأصوليين (السلفيين) حول مرجعية مفهوم الدولة الدينية. وهل هي واردة في التكاليف العقدية للمسلم؟ أم إن الدين، أي “القران والسنة” لم يشير إليها ولا نهى عنها ولم يمنع التفكير فيها، وإنه أمر متروك للمسلمين للإجتهاد.

 

وفي كلا الموقفين للإسلاميين، بالنسبة للعلمانيين، فهذا جدل عقيم لا يقدم ولا يؤخر في قضية حتمية وهي (علمنة) حياة البشرية. ولتحقيق هذا  المبتغى فقد عبر المشتغلين في هذا الحقل و(هم أكثر من ثلثي المنظرين الإسلاميين) عن رؤيتهم في مسار تحقيق هذا الحلم العظيم حيث أكدوا التحولات التاريخية، وإن (الشريعة) المدعاة هو مفهوم قديم تجاوزته التحولات التاريخية الثقافية والاجتماعية والسياسية.

 

فالعلمانية ضرورة موضوعية وتاريخية لإنهاء الفشل المستمر الذي لازم الدولة السودانية منذ 1821، ولا يمكن تحقيق الحرية والعدالة والمساواة والتقدم دون بناء دولة علمانية ديمقراطية.

 

المراجع:

 

1- الأسس الفلسفية للعلمانية – عادل ضاهر؛

 

2- عصر علماني – تشارلز تايلور؛

 

3- مجلد (الدين والعلمانية في سياق تاريخي) – عزمي بشارة؛

 

4- مقدس وعلماني – الدين والسياسات في العالم – بيبا نوريس، رونالد أنغلهارت – ترجمة: وجيه قانصو، أحمد مغربي؛

 

5- أزمة الإسلام السياسي وضرورة بناء الدولة العلمانية – عادل شالوكا؛

 

6- أوراق ومحاضرات د/ أبكر آدم إسماعيل حول العلمانية.

 

 

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.