العلمانية ضرورة ملحة لإنقاذ الوطن من قبضة القوى الظلامية و للحفاظ على وحدة السودان (2_3)

✍️سنغو كجوكين

 

إن مفهوم العلمانية مفهوم واسع لأنه يعنى في تحليل أولي الأنظمة التي تحترم حرية الضمير مما يجعل الدولة ملكا للجميع ولا يستطيع إنسان فرض تصورات خاصة باعتبار أن التصورات الخاصة ينطلق من بنية الفضاء الخاص والدولة كونها فضاء عمومي يحترم كل أشكال التنوع الثقافي والتعدد الديني داخل الدولة المعنية وقد تناولنا في مقالنا الأول أهم التعريفات المتعلقة بالعلمانية وهي موضوعنا محل الدراسة و سنتطرق في هذا المقال أهم الشروط الإجرائية لتطبيق العلمانية

 

(1)

“مفهوم دسترة العلمانية ”

 

عند تطبيق دستور علماني يتم تطبيق مبدأ الحياد التام أي الدولة لا تتبني مرجعيات دينية أو ثقافية لفئة معينة دون الأخرى ، حيث يكفل مبدأ المساواة أمام القانون لجميع المواطنين دون تمييز سواء كان على أساس إجتماعي أو ثقافي وتحترم جميع الأديان و المعتقدات والأفكار داخل الدولة، وإذا رجعنا لأرشيف الممارسة السياسية في السودان نجد هنالك إستغلال و ثمة تلاعب بالدين و إقحامها في فضاء غير نموذج لذلك قوانين سبتمبر أو فيما يعرف بقوانين الشريعة الإسلامية 1983 في عهد الرئيس الراحل جعفر نميري عندما نصب نفسه إماماً على السودان وقد ساعده في صياغة الدستور مؤسس تيار الأخوان في السودان حسن الترابي وزعيم الميثاق الإسلامي في عهدها ، و بالتحليل لقوانين سبتمبر نجد هنالك إقحام الدين في الفضاء العمومي مما ينتهك مادية الدولة باعتبارها مفهوم بشري جاءت نتيجة لتطور الفكر الإنساني ومن جانب أخر يصادر حقوق الغير منتمين للدين الإسلامي ، و بالتالي تفقد الدولة موضوعيتها.

وكذلك تجارب الحركة الإسلامية في السودان والتي أستغلت العاطفة الشعبية والجهل الكبير نتيجة لغياب التعليم لدى شريحة واسعة من السودانيين في الهامش السوداني ، و إستغلال الشعارات الدينية أبشع إستغلال وذلك لدغدغة مشاعر البسطاء بإسم الجهاد والفتح أحد أهم شعارات التيار الإسلامي هدفها تنفيذ سياسات الأسلمة و التعريب ضد المجموعات الزنجية في السودان وغير المسلمين مما يحول المواطنين إلى درجة ثانية و تمييزهم على أساس العرق و الدين ، ولهذا السبب ولأسباب أخرى نرى أن تطبيق العلمانية يساهم بصورة كبيرة في تطبيق مبدأ المساواة للجميع و احترام حرية الضمير والفصل التام ما بين الدولة و المنظومة الأخلاقية الذاتية ، وقد نجد دول كثيرة تنص دساتيرها على العلمانية مثل فرنسا حيث ينص المادة 2 من الدستور الفرنسي على الأتي:

(فرنسا جمهورية… علمانية) أنها تكفل المساواة أمام القانون لكافة المواطنين ، بدون أي تمييز في ما يتعلق بالأصل ، أو العرق أو الدين ، وهي تحترم جميع المعتقدات).

وكذلك ينص دستور تركيا على الدولة العلمانية ، و لوكسمبورغ ، تونس ، هولندا ، ازربيجان ، إيطاليا ، وتجربة الحركة الشعبية لتحرير السودان/ شمال في مناطق سيطرتها ولي الفضل في زيارتها و الوقوف طويلاً للنموذج وفي الحقيقة نموذج يستحق التعميم في كل السودان بما رأيته من التسامح وتطبيق مبدأ الحياد التام و إحترام حرية الضمير، والعديد من الدول كل دساتيرها تنص على الدولة العلمانية.

 

(2)

“العلمانية والفصل ما بين الفضاء العمومي والفضاء الخصوصي”

 

 

الفضاء العام Public Space

هو حيز في الحياة الإجتماعية حيث يلتقي الأفراد لتحديد و مناقشة الأمور المجتمعية بحرية والذي يؤدي إلى مناقشة كيفية التأثير على العمل السياسي .

أما الفضاء الخصوصي Private Space هو المكان الذي يمتلكه الفرد أو مجموعة من الأفراد غير المؤسسات الرسمية أو الحكومية.

 

لكن حسب مفهوم هابرماس بأن الفضاء العام يشمل فضاء الدولة والمحاكم باعتبارها فضاء عام لكل الناس ، أما الفضاء الخصوصي مثل : العائلة الزوجية ، المثقفون البرجوازين …الخ

 

ويرى البعض بأن الفضاء الخصوصي يشمل كل ما يختص بالأفراد من الثقافة والدين و المقاهي وأدوار العبادة وكل ما يشكل الهوية الفردية والهوايات الثقافية.

 

لذلك الفصل بينهما يمنح الخصوصية والتفكير الحر، عند الفصل بين الفضائيين دولة لا تتدخل في الشؤون الإجتماعية للأشخاص كما لا تتبنى دين محدد أو هوية ثقافية معينة، كما هو الحال في السودان من فرض ثقافة الأحادية و حرمان الدولة من ثمار التعدد الثقافي و التنوع الديني و يقف الدولة في مسافة واحدة من الأديان والثقافات المختلفة و إحترامها وبل حمايتها من طغيان الأغلبية ولان فكرة الأغلبية في مفهوم التيارات الإسلامية مفهوم إستعبادي يستند على ثقافة فرض الأمزجة والرؤى الشخصية على الجميع وسوف نتناول هذا المفهوم في مقال منفصل ، ولأن الفضاء الخاص من قطاعات المهمة و حمايتها من الدولة يجعل الجميع متساويين في المواطنة ليكون المواطنة المتساوية على أساس الحقوق و الواجبات.

 

(3)

“العلمانية والديمقراطية ”

 

العلمانية تعني ما أشرنا سابقاً وفق تعريف مراد وهبة (التفكير النسبي فيما هو نسبي ليست ما هو مطلق) وفي التعريف أعلاه نجد السياق العقلاني و الفلسفي للمصطلح و يتميز بالتابع الزماني لأثبات زمانية الفكرة باعتبارها مفهوم بشري من صنع الإنسان و من لبنات التفكير الحر في السياقات التاريخية للمفهوم كما أشرنا في مقال السابق.

أما الديمقراطية تعني نظام سياسي أو نظام لصنع القرار داخل المؤسسة أو منظمة أو الدولة ، يتمتع فيها جميع الأعضاء بحقوق متساوية من السلطة و المواطنة ، وإذا عدنا للمرجعية المفهوم قد نجد أيضاً مفهوم عقلاني و فلسفي غير خاضعة للتأملات الدينية أو الميثولوجية و المقدس .

وتمييز هذا النظام عن بقية أنظمة الحكم في أنها تسعى لتوفير الحريات العامة داخل الدولة ، و لتحقيق سيادة الدولة في إطار القانون الدولي لدول ذات السيادة.

والقواسم المشتركة بين المفهومين يظهر في مبدأ المساواة و المواطنة وكذلك في إحترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية

و باعتبار أن الفضاء العام فضاء مشترك يجب أن يقف الدولة في مسافة واحدة من الأديان و تحقيق مبدأ الحياد التام إذ لا يمكن بناء دولة حديثة دون الديمقراطية والعلمانية وفي إعتقادي أنهما أحد أهم المعايير التي يجب توافرها في الدولة الحديثة بل شرط من شروطها و عمود من أعمدتها ، على عكس الدينية كما هو في السودان و بالتالي رأينا إذا أردنا بناء دولة تحترم كرامة الإنسان و حق العيش المشترك و المساواة من الواجب علينا بناء دولة علمانية ديمقراطية حر موحد و ينص الدستور على المفهومين بصورة صريحة و هذا ما يتخوف منه التيارات الدينية في السودان للأسباب التالية :

1- التخوف من فقدان الإمتيازات التاريخية التي حققوها من خلال إستغلال الدين و المتاجرة بها .

2- إذا تحققت الدولة العلمانية سوف ينزع البساط من أقدامهم و لأول مرة تكون الدولة قد تحررت من قبضة جماعات الهوس الديني و أصبح في يد الجميع.

3- من أجل مصادرة حقوق المواطنة من المواطنين و الإستمرار في نموذج الأحادية الإقصائية وإذا تحقق الدولة العلمانية سيتوفر شرط الحياد التام للدولة حيال الفضاء الخاص مثل الدين والثقافة ولا يتنبي الدولة اي دين كدين رسمي لها أو اي ثقافة كثقافة رسمية.

 

4- تحرير الدين من طغيان علماء السلطان ولن يكون هنالك ثمة استغلال للبسطاء و التلاعب بعقولهم وفق مفهوم الفتاوي وتفسير وفق ما يوافق أيديلوجياتهم السياسية.

 

(4)

“العلمانية ومبدأ الحياد ”

 

ينطلق المفهوم ال تايلوري ماكلوري لمفهوم العلمانية في كتاب العلمانية و حرية الضمير، حيث يري تايلور و ماكلور أن حياد الدولة حيال القيم المغايرة و الإيمان هي جزء من الأجوبة التي يقتضيها بحثما ، وهذا الحياد واحد من أسس الدولة الديمقراطية ، بعيداً عن سياسات التضييق على الكرامة وحقوق الإنسان و الإحتلال المجتمعي، وتلك القيم تسمح بحياة مشتركة من خلال الرؤى المختلفة وإحترام التنوع ، كما أنها تجعل منهم مستقلين في قراراتهم ،وكل ذلك من خلال الإجماع في التداخل.

ومن خلال المفهوم نجد أن مبدأ الحياد من أهم متطلبات الدولة العلمانية وعند تطبيق مبدأ الحياد حيال القناعات الفردية و إختياراتهم الذاتية ولهم الأحقية في التمسك بثقافاتهم المختلفة لأن الدولة لا تتبني رؤي شخصية بل تساهم في حفاظ على شروط المنافسة وقبول الآخر ، فالحياد هنا لا تعني الحياد حيال الأديان فقط بل يشمل الثقافات و القناعات الفكرية و الفلسفية وهنا يجدر الإشارة إلى أن مبدأ الحياد يتوافق بصورة كبيرة مع السودان و يصلح لمعالجة المشكلات التاريخية التي يعاني منها السودانيين ولن يغتال محمود محمد طه أخر بسبب فكره و منطلقاته الفلسفية وكذلك يصلح لإدارة التنوع الثقافي والتعدد الديني .

 

ختاماً لكل الأسباب التي ذكرناه نرى تطبيق العلمانية ذات أهمية قصوى و ضرورة ملحة لإنقاذ الوطن من قبضة جماعات الهوس الديني الذين ساهموا في تشويه الفكرة بصورة كبيرة ، والدور ملقاة على عاتقنا لفتح منافذ الوعي و الإستنارة وسط الشعب السوداني و لعل هنالك ثمة ضرورة لتبسيط المفهوم حتى يتوفر قابلية الفهم لعموم السودانيين ، والمعركة بيننا وبين القوى الظلامية ستكون معركة فكرية دامية و سننتصر لطالما أسلحتنا ينطلق بقناعات راسخة حيال تحقيق دولة الإنسان حيث يتوفر الكرامة الإنسانية والنماء و العيش الكريم .

 

المصادر

المصادر نفسها المذكورة في مقالنا الأول

 

للحديث بقية و سنواصل تباعاً

 

30 يوليو 2024

تونس العاصمة

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.