العدالة والمحاسبة التاريخية (8 – 10)

✍🏿 متوكل عثمان سلامات

 

تناولنا في المقالات السابقة مفهوم العدالة الإنتقالية وعلاقته بوحدة الدولة السودانية، وحق تقرير المصير، ومشروعية العقد الإجتماعي، والحقوق الإقتصادية والثقافية والإجتماعية، وإعادة كتابة التاريخ، وحقوق الإنسان، وأثر ذلك على تحقيق العدالة والمحاسبة التاريخية، في هذا المقال سنتناول مفاهيم تعتبر ذات إرتباط طويل بمفهوم العدالة الإنتقالية، وقد أثرت بعضها من خلال تحريفها من قبل بعض التجارب الإنسانية سلباً في تحقيق الإنصاف للضحايا، وشكلت نافذة للإفلات من العقاب ونقصد هنا مفهوم “المصالحة”.

المصالحة والحقيقة والإنصاف

المصالحة ورتق النسيج الإجتماعي:
عرف المركز الدولي للعدالة الإنتقالية المصالحة بأنها الجهود الرامية إلى إرساء السلام والثقة بين المواطنين وبين الخصوم القدامى، وعرفها مصطفى جعي في كتابه ” العدالة الإنتقالية ومبدأ الإفلات من العقاب – دراسة مقارنة بين تجربة المغرب وجنوب إفريقيا” بأنها تهيئة الفرص لقبول الضحايا بمشروعية دولتهم ولتعايشهم السلمي مع من أعتبروا مسؤولين عن الجرائم التي لحقت بهم.
وقد إتفق معظم الخبراء على أن المصالحة هي عملية أكثر من كونها هدف يحقق، فتضميد جراح الماضي عن طريق المصالحة تعد عمليات شخصية عميقة لإختلاف ما يتطلبه كل فرد من عملية صنع السلام والمصالحة وما يثيره من ردود أفعال، إتفقت معظم الأراء حول أن المصالحة هي إقامة علاقة بين المجموعات أو الأفراد، ولكن تعريف تلك العلاقة إختلفت بإختلاف الثقافة وطبيعة إنتهاكات حقوق الإنسان والموقع في البنية السياسية، والظروف الشخصية، ونتيجة لطبيعة الإنتهاكات الإنسانية التي قامت ومازالت تقوم بها المجموعات العربية بدعم من الحكومة المركزية في جبال النوبة، حيث كان آخرها بتاريخ 1/نوفمبر/2020م بمحلية الريف الشرقي منطقة كيقا تميرو عندما قامت مجموعة مسلحة من البقارة بإدخال أبقارهم داخل مزرعة أحد المواطنين تحت تهديد السلاح، ودارفور والفونج وغيرها من المجموعات في شرق السودان والخرطوم ومدن أخرى قد تجعلنا نربط معنى المصالحة ومضمونها بالندوة الدولية التي إنعقدت في برلين بتاريخ 31/يناير- 2/فبراير 2005م حول “قضايا التحديات المحلية والعالمية للمصالحة” والتي جاء فيها:
1- إن المصالحة لاتعني بالضرورة “نسياناً” أو حتى “إعتزاراً”،
2- إن المصالحة سيرورة صعبة وطويلة الأمد، ولا تسير وفق خطة محددة سلفاً،
3- على المصالحة أن تنبع من عمق المجتمع، ولا يمكن أن تكون مفروضة من الخارج، سواء كان هذا الخارج هو خارج الدولة أو خارج المجتمع، كالصلح الذي فرضته الحكومة على واقعة غريبة ..تمثلت في أن (مجموعة عربية مسلحة تهجم وتعتدي على الحكومة ممثلة في الكتيبة (254) وتقوم الحكومة بترويج الهجوم على أنه بين العرب والنوبة حتى تتفادى تسمية المجموعة العربية المعتدية على الدولة بالمتفلتين أو المتمردين أو الخوارج)،
4- ليس المطلوب تحقيق المصالحة بين الأفراد فحسب، وإنما يجب التشديد على “المصالحة الإجتماعية”،
5- يفترض في المصالحة إن هي أرادت تحقيق تغيير إحتماعي وسياسي عميق، بأن تكون سيرورة جماعية وإدماجية.
فخلاصة القول عندنا هو أن المصالحة من المفاهيم الضرورية التي تقوم عليها العدالة الإنتقالية، إلا أنها لا يمكن أن تكون مبرراً للإفلات من العقاب.

مفهوم الحقيقة:
هي في العادة شرط إستراتيجي للجلوس على مقعد الإعتراف حول أحداث تمت في فترات مريرة ومقرفة من التاريخ “المشترك”، وعادة مايكون التوصل للحقيقة وإقرارها بهذه الطريقة قد يسبب الكثير من الضيق والإحتقان وهي مسألة طبيعية، ولكن طالما المجتمع السوداني في مرحلة حساسة يكون الناس في حوجة لتخفيف الصدمات وتهدئة النفوس وتجنب كل أسباب الخلاف بغرض المحافظة على بعض المكتسبات التي يمكن أن تتحقق في المنبر التفاوضي والتي ستقود بالضرورة إلى تحول ديمقراطي حقيقي، ولأن الحقيقة يمكن أن تكون مجرد عنصر واحد فقط من بين العناصر التي يمكن أن توصلنا إلى المصالحة وبالتالي فإن الحصول على الحقيقة لا يتم إلا من خلال لجان.

مفهوم الإنصاف:
تحدثنا في مدخل هذه المقالات عن الإنصاف والتي يطلق عليها أحياناً العدالة المطلقة بوصفها عدلاً طبيعياً لاشرعياً، فمفهوم الإنصاف يوجب الحكم على الأشياء بحسب روح القانون، أما العدل فيوجب الحكم عليها بحسب نص القانون. فالإنصاف هو الهدف الأسمى لعمليات المصالحة وتحقيق السلام والإستقرار السياسي والإجتماعي والثقافي والإقتصادي في الدولة السودانية.
إن محاولة تحقيق الإنصاف فيما يتعلق بالإنتهاكات التي تمت في الدولة السودانية يتطلب بالضرورة مراعاة المعايير الدولية للعدالة الإنتقالية فيما يتعلق بمفهوم الإنصاف، كتغيير الأفراد أو المؤسسات التي ساهمت بطريقة مباشرة او غير مباشرة في الإنتهاكات الإنسانية سواء كانت مؤسسات تنفيذية أو تشريعية أو قضائية، وتغيير الذهنيات والأنماط القديمة في التفكير، كالتفكير العنصري الإقصائي القائم على الأيديولوجيا الإسلاموعروبية والتي كانت السبب في هذا الدمار، وإقتلاع جذورها لا لغرسها في الحاضر وإنما لتذهب لمزبلة التاريخ، ويدخل في مفهوم الإنصاف أيضاً التعويضات المقدمة للضحايا ويعرف أحياناً بعملية جبرالضرر، ويري الخبير “بابلو دي قريف” مدير البحوث بالمركز الدولي للعدالة الإنتقالية أن عملية الإنصاف يحقق ثلاثة أهداف أساسية للعدالة الإنتقالية:
1- إعادة صفة المواطنة للأفراد،
2- خلق الثقة أو إعادتها بين المواطنين، وبين المواطنين والمؤسسات القانونية في الدولة،
3- خلق التضامن والتعاضد، حيث يحس الضحايا بأن المطروح هو عقد إجتماعي جديد يحترم كرامتهم ومصالحهم ويحفزهم للإهتمام بالمصالح العامة وبالتالي الإسهام في تطوير مجتمع يحترم كرامة الإنسان.

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.