العدالة والمحاسبة التاريخية (4 – 10)
بقلم: متوكل عثمان سلامات
تناولنا في المقال السابق العدالة ومفهومها، والعدالة والمحاسبة التاريخية في أدبيات الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال، في هذا المقال سنتناول جانب مهم يتمثل في مفهوم العدالة الإنتقالية وتاريخها وعلاقة العدالة الإنتقالية ببعض المفاهيم والحقوق الأخرى.
مفهوم العدالة الإنتقالية وتاريخها:
ﻳﻘﺼﺪ ﺑﺎﻟﻌﺪﺍﻟﺔ ﺍﻻﻧﺘﻘﺎﻟﻴﺔ، ﺑﺸﻜﻞ ﻋﺎﻡ، مجموعة ﺍﻟﺘﺪابير ﻭﺍﻹﺟﺮﺍﺀﺍﺕ ﻭﺍﻵﻟﻴﺎﺕ ﺍﻟﻘﻀﺎﺋﻴﺔ ﻭغير ﺍﻟﻘﻀﺎﺋﻴﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﹸﺗﱠﺘﺒﻊ ﻣﻦ ﺃﺟﻞ ﺇﻋﺎﺩﺓ ﺗﻄﺒﻴﻊ ﺍﻷﻭﺿﺎﻉ الحقوقية ﻭﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ ﻭﺍﻻجتماﻋﻴﺔ ﻭالمؤسسية في ﺑﻠﺪ ﻣﺎ ﻣﻦ ﺍﻟﺒﻠﺪﺍﻥ ﺍﻟﺘﻲ ﻋﺎﺷﺖ ﺃﻭ ﺗﻌﻴﺶ أوضاعاً ﺳﻴﺎﺳﻴﺔ ﻣﺘﺄﺯﻣﺔ، كالحروب ﺍﻷﻫﻠﻴﺔ ﻭﺍﻷﺣﻜﺎﻡ ﺍﻻﺳﺘﺜﻨﺎﺋﻴﺔ. ﻭﺗﺸﻤﻞ ﺗﻠﻚ ﺍﻷﻭﺿﺎﻉ ممارسة ﺃﺷﻜﺎﻝ ﻣﺘﻌﺪﺩﺓ ﻭﻣﺘﻔﺎﻭﺗﺔ ﺍﻟﺪﺭﺟﺎﺕ ﻣﻦ ﺍﻧﺘﻬﺎﻛﺎﺕ ﺣﻘﻮﻕ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﻭالجرائم ﺿﺪ ﺍﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ، ﻭﻣﺎ ﻳﺮﺗﺒﻂ ﺑﻤﻈﺎﻫﺮ ﺍﻟﺘﺴﻠﻂ ﻣﻦ ﺧﺮﻭﻗﺎﺕ للقوانين، ﻛﺎﻻﻋﺘﺪﺍﺀ ﻋلى ﻛﺮﺍﻣﺔ ﺍﻷﻓﺮﺍﺩ ﻭالجماعات، ﻭعلى المؤسسات. ﻭﻳﺮى الآمين ﺍﻟﻌﺎﻡ السابق ﻟﻸﻣﻢ ﺍلمتحدة كوفي عنان ﺃﻥ ﻣﻔﻬﻮﻡ ﺍﻟﻌﺪﺍﻟﺔ ﺍﻻﻧﺘﻘﺎﻟﻴﺔ ﻳﺸﻤﻞ ( ﻛﺎﻣﻞ ﻧﻄﺎﻕ ﺍﻟﻌﻤﻠﻴﺎﺕ ﻭﺍﻵﻟﻴﺎﺕ المرﺗﺒﻄﺔ بالمحاولات ﺍﻟﺘﻲ يبذلها المجتمع ﻟﺘﻔﻬﻢ ﺗﺮﻛﺘﻪ ﻣﻦ تجاوزات الماضي ﺍﻟﻮﺍﺳﻌﺔ ﺍﻟﻨﻄﺎﻕ، ﺑﻐﻴﺔ ﺇﻗﺎﻣﺔ ﺍﻟﻌﺪﺍﻟﺔ وتحقيق المصالحة. ﻭﻗﺪ ﺗﺸﻤﻞ ﻫﺬﻩ: ﺍﻵﻟﻴﺎﺕ ﺍﻟﻘﻀﺎﺋﻴﺔ ﻭغير ﺍﻟﻘﻀﺎﺋﻴﺔ على ﺍﻟﺴﻮﺍﺀ – ﻣﻊ ﺗﻔﺎﻭﺕ ﻣﺴﺘﻮﻳﺎﺕ المشاركة ﺍﻟﺪﻭﻟﻴﺔ ) ﺃﻭ ﻋﺪﻡ ﻭﺟﻮﺩﻫﺎ ﻣﻄﻠﻘﺎ( ومحاﻛماﺕ ﺍﻷﻓﺮﺍﺩ، ﻭﺍﻟﺘﻌﻮﻳﺾ، ﻭﺗﻘديم الحقائق، ﻭصناعة دستور جديد، ﻭﻓﺤﺺ ﺍﻟﺴﺠﻞ الشخصي ﻟﻠﻜﺸﻒ ﻋﻦ ﺍﻟﺘﺠﺎﻭﺯﺍﺕ، ﻭﺍﻟﻔﺼﻞ ﺃﻭ إقترانهما معاً ).
جاء في وثيقة تاريخ العدالة الإنتقالية ونظريتها الصادر من المركز الدولي للعدالة الإنتقالية على أنه: (تقوم العدالة الإنتقالية على معتقد مفاده أن المطالبة بالعدالة الجنائية ليست شيئاً مطلقاً بل يجب أن تتم موازنتها بالحاجة إلى السلم والديمقراطية والتنمية العادلة وسيادة القانون، إن العدالة الإنتقالية نتاج للخطاب الدولي حول حقوق الإنسان وتشكل جزءاً منه).
تاريخ العدالة الإنتقالية:
يُرجع بعض الباحثين أصل مفهوم العدالة الانتقالية إلى محاكم نورنبيرغ (1945)، حيث عمدت الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية إلى توسيع نطاق آليات القانون الجنائي في حينها، لتُمكن من محاكمة قيادات عسكرية وسياسية بعينها في النظامين النازي والياباني، مع التركيز على الجرائم التي تم إرتكابها، وليس من منطلق إنتمائهم الأيديولوجي فقط.
وقد جنّب هذا التوجه بعض أركان النظامين المتابعة القضائية، لكنَّه مكّن من إبراز الجانب الجنائي والحقوقي في تجاوزات الأنظمة المهزومة، مما كان له أثر حاسم في تعزيز الوعي الحقوقي على المستوى الدولي، وبروز فعاليات مؤسسية على المستوى الدولي جعلت القضية الحقوقية عبر العالم قضيتها الأولى.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أنَّ المكاسب المحققة في المجال الحقوقي على المستوى الدولي، خلال النصف الثاني من القرن العشرين، هي الأهم في التاريخ الحديث والمعاصر. ويعود الفضل الأكبر فيها إلى الحركة الحقوقية التي نشأت في الخمسينيات، منطلقة من دروس الحرب العالمية ومحاكم نورنبيرغ.
نشأة وتطور مصطلح العدالة الانتقالية:
في تسعينات القرن الماضي، صاغ عدد من الأكاديميين الأمريكيين هذا المصطلح لوصف الطرق المختلفة التي عالجت بها البلدان مشاكل وصول أنظمة جديدة إلى السلطة ومواجهتها للانتهاكات الجسيمة.
كان مصطلح “العدالة الانتقالية” مجرد مصطلح وصفي، لم يكن يشير إلى وجود نهج موحد أو حتى مبادئ مشتركة، كما يُمكن أن يرى من المجموعة الكبيرة من الدول المختلفة التي حاولت أو لم تحاول التصدي لإنتهاكات.
بمرور الزمن تطورت التجربة الإنسانية على أساس الإعتراف بمبادئ حقوق الإنسان والتشديد على تجريم من ينتهكها، وقد إرتبط مع هذه الفكرة تتبع أنواع معينة من الآليات، مثل الملاحقات القضائية، والسعي لمعرفة الحقيقة، وبرامج جبر الضرر، ومبادرات الإصلاح بإعتبارهم أكثر الوسائل فعالية لإنفاذ مبادئ حقوق الإنسان.
العدالة الإنتقالية ووحدة الدولة السودانية:
إن الوحدة التي تنشدها الشعوب السودانية التي خرجت في ثورة ديسمبر وأطاحت بالنظام الديكتاتوري العسكري التسلطي من خلال رؤيتها للسلام والذي يمكن أن تستشفه من خلال الرأي العام ولجان المقاومة وتنظيمات قوى الثورة الحقيقية، هي ذات الوحدة التي تطرحها الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال والمتمثلة في الوحدة الطوعية أي الإختيارية القائمة على أسس جديدة، تلتزم بمبادئ الحرية والعدالة والمساواة بين الأفراد وبين كافة المجموعات وتبني على التنوع التاريخى والمعاصر وحسن إدارته، فهي وحدة تختلف عن الوحدة القسرية التي كانت ومازالت السبب الرئيسي القابع خلف كل العنف والإنتهاكات الإنسانية الجسيمة التي إرتكبتها الحكومات السودانية ضد شعوب الهامش الرافضة لسياسة الأسلمة والتعريب القسري، وبالتالي فإن التطبيق الصحيح للعدالة والمحاسبة التاريخية من حيث عدم إفلات الجناة من العقاب وإنصاف الضحايا وجبر الضرر والتعويضات المنصفة ومن ثم إعادة هيكلة المؤسسات الوطنية التي شاركت في هذه الإنتهاكات يمثل أحد المرتكزات الأساسية للإستقرار والسلام العادل والدائم في دولة سودانية موحدة.
العدالة الإنتقالية وحق تقرير المصير:
تعمل العدالة الإنتقالية على معالجة آثار الإنتهاكات الإنسانية الناتجة عن الصراعات أو الحكم التسلطي بعد إنتهاء أي منهما أو كلاهما، وبالتالي تكرس جهودها من أجل إبراء الجراحات من خلال الكشف عن حقائق هذه الإنتهاكات ومعاقبة الجناة وإنصاف الضحايا وجبر أضرارهم من أجل خلق بيئة ملائمة للعيش الكريم المشترك في وطن موحد تتوفر فيه كل مقومات الإدارة الجيدة للتنوع والتعدد، وإرادة حقيقية تتجه نحو إحداث قطيعة تاريخية مع سياسيات الماضي، أما حق تقرير المصير هو حق إنساني وقانوني ويعتبر حق مركزي للشعوب الأصلية وفق المواثيق الدولية والإقليمية، وموروث في السياسة السودانية، وتطالب الشعوب السودانية بممارسته نتيجة للإنتهاكات الإنسانية والمظالم التاريخية الممنهجة التي مارستها الدولة بعد خروج المستعمر وحتى الآن، وبالتالي أي عملية فحلوة أو تزاكى من قبل النخب التي شاركت بشكل مباشر أو غير مباشر في ممارسة هذا العنف بكافة أشكاله وإنتهاك هذه الحقوق على مر التاريخ بغرض إفراغ عملية العدالة والمحاسبة التاريخية من مضمونها لايزيد الضحايا إلا تمسكاً بحقهم الإنساني والقانوني في ممارسة حق تقرير المصير المفضي إلى الإستقلال من القهر والإضطهاد والإسترقاق وتأسيس دولة مستقلة ذات سيادة.
العدالة الإنتقالية ومشروعية العقد الإجتماعي:
إن العقد الإجتماعي هو إتفاق بين شعوب دولة ما مع نفسه حول كيفية إرساء القيم والمبادئ التي تتناسب مع طبيعته وتحكمه سياسياً وإقتصادياً وإجتماعياً وثقافياً، وتوفر الحقوق والواجبات وتوضح كيف تحكم الدولة، على أن يؤسس ذلك على مبادئ فوق دستورية تقرها آليات صناعة هذا العقد الإجتماعي الدائم، وعندما نتحدث عن العقد الإجتماعي الدائم فإننا بالضرورة نقصد الدستور الدائم الذي يجيزه الشعوب السودانية في إستفتاء، والذي هو تعبير حقيقي عن إرادة حرة للمواطن الذي هو صاحب هذا الإتفاق، وبالتالي فإن العقد الإجتماعي بهذه الكيفية سيسهم بشكل كبير في إحداث الإنتقال الديمقراطي ويخلق بيئة ملائمة للتعايش السلمي ويحدث قطيعة تاريخية مع الماضي الدموي ويهيكل ويصلح مؤسسات الدولة التي ساهمت وشاركت بشكل مباشر أو غير مباشر في كل الإنتهاكات الإنسانية البشعة التي مورست على الشعوب السودانية.
العدالة الإنتقالية والحقوق الإقتصادية والثقافية والإجتماعية:
الإنتهاكات الإنسانية في الدولة السودانية أخذت طابع مختلف لكونها إنتهاكات صارخة وإبادة شاملة للشعوب السودانية المتمسكة بأفريقيتها المعاكسة للهوية الرسمية المعلنة للدولة.
حيث قامت الدولة بإفقار هذه الشعوب وحالت دونها ومواردها الطبيعية ورسمت خطط وسياسات وضعتهم في ظروف معيشية خطيرة ومميتة أدت إلى تنزيحهم وتشريدهم وتهجيرهم قسراً، وتركت أوطانهم وأقاليمهم دون تنمية مقارنة مع الشعوب والأقاليم السودانية الأخرى، وقامت الدولة بإبادتهم ثقافياً من خلال طمس هوياتهم وفرض الإسلام والعروبة قسراً بإستخدام كل أداوات العنف حتى الغير مشروعة، وإستخدمت ذات الأدوات في تمزيق النسيج الإجتماعي بين مكونات تلك الشعوب وفي أقاليمها وفي كل أرجاء الوطن.
لذا فإن أدوات تحقيق العدالة الإنتقالية يجب أن يكون من صلب مهامها وسلطاتها أن تتحقق في إنتهاكات الحقوق الإقتصادية والإجتماعية والثقافية منذ خروج المستعمر إلى الآن، بإعتبار أن هذه الحقوق تدخل في إلتزامات الدولة المسآءلة عليه دولياً عند إخفاقها في الإلتزام بها، بجانب التحقيق في الجرائم الإقتصادية.