العدالة والمحاسبة التاريخية (3 – 10)
✍🏿: متوكل عثمان سلامات
مواصلة للمقال السابق حول العدالة ومفهومها، والعدالة والمحاسبة التاريخية في أدبيات الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال، سنسلط الضؤ بإختصار غير مخل على أنواع العدالة ومضامينها ومن ثم المحاسبة التاريخية.
أنواع العدالة ومضامينها:
إن ما وراء القبول العام لقدسية الموقع الذي تتبوأه العدالة في المساعي البشرية، تكمن تـناقضات ومشكلات ونزاعات حول طبيعة العدالة وجوهرها وأشكالها، سواء في الأحاديث العامة او في العمليات النفسية. ويمكن القول أن دافع العدالة اتخذ له أربعة أنواع لم يخرج عنها طوال التأريخ البشري:
عدالة الحاجات:
يتم بموجبها توزيع الموارد بين الأفراد على أساس تلبية اكثر حاجاتهم إلحاحاً، بصرف النظر عن مدخلاتهم او أدائهم، ودون الأخذ بمبدأ التكافؤ. مثال ذلك الأسرة، إذ يقوم الأفراد البالغون فيها بتوزيع الموارد التي يكسبونها على الآخرين طبقاً لحاجاتهم لا لمدخلاتهم.
عدالة التكافؤ:
تظهر هذه العدالة لدى الأفراد المنتمين الى جماعة معينة، ممن يدركون أنفسهم بوصفهم وحدة واحدة، إذ يشترك الجميع في تقاسم المخرجات بالتساوي: “الفرد من أجل الجماعة، والجماعة من أجل الفرد”.
عدالة الإنصاف:
تبرز في مواقف الاعتماد المتبادل، كما في السوق، حيث يعمل الفرد على تحقيق التكافؤ بين مخرجاته واستثماراته.
عدالة القانون:
تعني ان العدالة ليست أكثر أو أقل مما يقرره ممثلو السلطة القانونية للمجتمع. ويمكن توظيف الأسس التي تقوم عليها أشكال العدالة الثلاثة السابقة، في تطوير القوانين وتقويمها وتعديلها. ولكن ما أن يُسن القانون، حتى يصبح المحدد الوحيد لاستحقاقات الفرد في موقف معين، بصرف النظر عن حاجاته واستثماراته ومدخلاته وآرائه.
وفي ختام تناولنا لمفهوم العدالة، نخلص الي أن للعدلة معاني شتي، ولكن ما نعنيه هنا هو تنظيم المجتمع المعين بطرائق تضمن تكافؤ الفرص لأفراد ذلك المجتمع. ففي أي مجتمع قائم هناك فروقات هيكلية موروثة مثل الفروقات القائمة علي أساس النوع، بين الرجال والنساء، أو علي أساس الثروة، بين الفقراء والأغنياء، أو علي أساس الأعراق، بين عرق سائد وآخر مسود، أو علي أساس الأقاليم، إقليم نال حظاً من التنمية أكثر من الآخر، إلخ. وهناك أيضاً الفروقات الفردية سواءً كانت فروقات فيزيائية مثل الحجم أو الطول إلخ، أو فروقات ذهنية مثل إختلاف درجات الذكاء والميول. إذن، فإن الإقرار بالمساواة وحدها لا يكفي وإنما لابد من العدالة، وذلك بتوفير الفرص ومراعاة تكافؤ توزيع هذه الفرص بين الأفراد من جهة وبين الجماعات من جهة أخري ، وبين الأقاليم من جهة ثالثة.
ولكن لكيما تتحقق المساواة والعدالة، فلابد من إرادة تقف وراءهما ، تحرسهما وتراقب تنفيذهما . ولكن المعروف أن من يسيطر علي الدولة إذا لم توجد جهة تجبره علي إلتزام جانب العدالة والمساواة فإنه لا يفعل. إذن، لابد من وجود موطنين قادرين علي إجبار الحكام علي إلتزام جانب العدالة والمساواة، وهؤلاء المواطنين لا يمكن أن يكونوا أقوياء بهذا القدر إلا إذا كانوا أحراراً، فالمساواة والعدالة والحرية من القيم والمبادئ الإنسانية التي تطالب بها الشعوب المضطهدة في الدولة السودانية نتيجة للعنف والظلم البنيوي/ الهيكلي / المؤسسي، والعنف والظلم الثقافي الذي تعرضت له من خلال الدساتير والقوانين والمناهج، و من خلال المسخ والإستلاب والإبادة الثقافية بغرض الإستيعاب أو الضم القسري للحقل الإسلاموعروبي، وعوضاً عن ذلك تعرضت لعنف مادي مفزع شكل إنتهاكات إنسانية واسعة النطاق. ويؤكد الخبير في مجال التخطيط الإستراتيجي الأستاذ/ محجوب سليم أن العنف المادي رغم قساوته والذي وصل مرحلة الإبادة الجماعية وجرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب إلا أنه يمثل نسبة 30% فقط مقارنة بالعنف والظلم البنيوي والثقافي.
المحاسبة التاريخية:
نصت الوثائق الأساسية للحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال على عبارة “المحاسبة التاريخية” التي وردت في الفصل الخامس من المنفستو ، وجاء النص عليها في الفقرة (5-4-3) على النحو التالي:
(تسعى الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال لتطبيق العدالة الإنتقالية والمحاسبة التاريخية على جميع الذين أرتكبوا الإنتهاكات المادية والمعنوية في حق الشعوب السودانية، وتعويض جميع المتضررين من الإنتهاكات والمظالم التاريخية بما في ذلك الأضرار الناتجة عن العبودية والإسترقاق).
من خلال المعطيات الواردة في النص أعلاه يمكنا تعريف “المحاسبة التاريخية” بأنها (المسؤلية التاريخية والأخلاقية للدولة السودانية عن المظالم التاريخية الناتجة عن قيامها بالظلم والعنف البنيوي أي الهيكلي والثقافي والمادي من خلال الإبادة الثقافية وممارسة العبودية ونهب الموارد الإقتصادية وتدمير العقول والنسيج الإجتماعي للضحايا، وتزوير التنوع التاريخي للشعوب السودانية من جانب، والمسؤلية الجنائية للأشخاص أو الأفراد الذين تثبت لجنة الكشف عن الحقائق التاريخية عن تورطهم في الإنتهاكات والمظالم الإنسانية التاريخية والحديثة ضد الضحايا وبالتالي يتم مسآءلتهم جنائياً، وضمان عدم إفلاتهم من العقاب، كما يتم إعادة هيكلة كل مؤسسات الدولة التي ساهمت أو قامت بهذه المظالم والإنتهاكات).