العدالة والمحاسبة التاريخية (2 – 10)
بقلم: متوكل عثمان سلامات
تناولنا في المقال السابق مدخل لموضوع هذه السلسلة، و أوضحنا الهدف منها وطرحنا مجموعة من الأسئلة التي نعتقد أن الإجابة عليها من خلال التفكير في الإتجاه السليم الذي لا يتجاوز بالضرورة الإنتهاكات الإنسانية وطبيعة الدولة والتجارب الإنسانية، يمكن أن يسهم في تحقيق العدالة والمحاسبة التاريخية في الدولة السودانية.
ولكن قبل أن ندلف للحديث عما سنتناوله في هذا المقال، لابد من الإشادة بالإتفاق المشترك الموقع بأديس أبابا بتاريخ الخميس الموافق 3/ سبتمبر/ 2020م بين حكومة الفترة الإنتقالية لجمهورية السودان ممثلة في رئيس مجلس الوزراء د. عبدالله حمدوك والقائد عبدالعزيز آدم الحلو رئيس الحركة الشعبية والقائد العام للجيش الشعبي لتحرير السودان – شمال، ويشكل هذا الإتفاق إختراق كبير في إتجاه معالجة جذور الأزمة السودانية ويتضح ذلك من خلال التأييد الدولي والمحلي الذي وجده، لذا على الشعوب السودانية أن تتمسك وتحمي هذا الإتفاق حتى تنعم بسلام عادل وشامل في دولة موحدة ومستقرة.
نعود لموضوع المقال والذي سنتناول فيه العدالة ومفهومها في أدبيات الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان – شمال.
العدالة:
جاء في منفستو الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال، أن العدالة في مفهوم السودان الجديد تعني توفير الفرص المتساوية ومراعاة تكافؤ توزيع هذه الفرص ليس بين الأفراد فحسب، وإنما بين الجماعات والأقاليم أيضاً، وهذا ما ذهب إليه كتاب المنهج الدراسي لمستوى الأساس أن للعدالة معاني شتى، ولكن المعنى المقصود هنا هو تنظيم المجتمع المعين بطرائق تضمن تكافؤ الفرص لأفراد ذلك المجتمع. ففي أي مجتمع قائم هناك تفاوتات هيكلية موروثة مثل التفاوتات القائمة على أساس النوع، بين الرجال والنساء، أو على أساس الثروة، بين الفقراء والأغنياء، أو على أساس الأعراق، بين عرق سائد وآخر مسود، أو على أساس الأقاليم، إقليم نال حظاً من التنمية أكثر من الآخر، إلخ. وهنا أيضاً التفاوتات القائمة بسبب الفروقات الفردية سواء كانت فروقات فيزيائية مثل الحجم أو الطول، أو اللون، إلخ، أو فروقات ذهنية مثل أختلاف درجات الذكاء والميول أو الأخرى النفسية مثل الجرأة، الجبن، الإنفتاح أو الإنغلاق على الآخرين، إلخ. إذن فإن الإقرار بالمساواة وحده لا يكفي وإنما لابد من العدالة، وذلك بتوفير الفرص ومراعاة تكافؤ توزيع هذه الفرص بين الأفراد من جهة وبين الجماعات من جهة أخرى، وبين الأقاليم من جهة ثالثة.
تعمل الحركة الشعبية على تحقيق العدالة بإزالة كافة المظالم التاريخية التي تم إرتكابها بحق المجموعات والأقاليم المهمشة.
مفهوم العدالة:
تُعدّ العدالة واحدة من أكثر الموضوعات قدسية وشيوعاً في السلوك الاجتماعي. ويمكن أن تتخذ وجوهاً متضاربة جداً حتى ضمن المجتمع الواحد. فأينما كان هناك أناس يريدون شيئاً، ومتى ما كانت هناك موارد يراد توزيعها ، فإن العامل الجوهري المحرك لعملية اتخاذ القرار سيكون أحد وجوه العدالة. وللعدالة سيادة على غيرها من المفاهيم المقاربة، كالحرية والمساواة، ذلك أنها لا تقف عند حد معين. فقد يطالب الناس بمزيد من الحرية، وفجأة يضطرون الى التوقف عند حد معين حتى لا تـنقلب الحرية الى نقيضها، إلا أنهم لا يستطيعون التوقف عن محاولة ان يكونوا عادلين. ولا يستطيع أي مجتمع ان يصل الى درجة الإشباع في تحقيق العدل، لأنه لا يوجد حد نهائي للعدالة. فالعدالة بهذا المعنى هي الخير العام الذي يستطيع تـنظيم العلاقة بين مفهومي الحرية والمساواة، اذ يكفل الموازنة بين الطرفين ،ومع ذلك، فإن الظلم رافق وجود الإنسان منذ بداياته. فقد ظهرت التفرقة بين الناس، ونشأت بالدرجة الأولى عن مفهوم المِلكية الذي يعتمد على الأنانية والمصلحة الفردية. فمنذ أن انتقل المجتمع البدائي الى مجتمع تـنظيمي متحضر، اختفت المساواة و أُلغيت لأن جماعة من الأفراد تملكوا الأرض واستغلوا غيرهم. وبمرور الزمن صار لهم قانون يحميهم من كل عقاب، ويحافظ على مصالحهم، ويقر بشرعية الفروق المادية بين الفئات الجتماعية. فتحولت هذه الفروق بالتدريج الى فروق معنوية أصيلة. والواقع ان الإنسان دفع ثمناً غالياً لارتقائه إلى أشكال اجتماعية أكثر تعقيداً، اذ ترتب على المهارة وتوزيع العمل أن تغرب الإنسان وانفصل لا عن الطبيعة وحدها، بل وعن نفسه أيضاً. فأصبح النظام المعقد للمجتمع يعني أيضاً تحطيم العلاقات الإنسانية، إذ كان معنى زيادة الثروة الاجتماعية في كثير من الحالات زيادة فقر الإنسان.
العدالة مفهوم متعدد الأوجه:
العدالة مفهوم يكتنفه الغموض، إذ يرى البعض انه يظل تجريداً في عالم العقل لا سبيل لتطبيقه في عالم الواقع. وأن ما جرى تطبيقه من العدالة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ما هي الا محاولات يقصد من ورائها الحفاظ على الحقوق التي أقرها القانون الطبيعي والأخلاقي. ويذهب البعض مذهباً متفائلاً بقولهم ان الطبيعة البشرية قد ارتقت عبر التاريخ، مما خلق لدى الإنسان نوعاً من الرقابة الذاتية التي تلزمه باحترام قاعدة: “عامل الآخرين بمثل ما تحب أن يعاملوك به”. ومن ثم أصبح يمتلك شعوراً داخلياً بالعدل. ويتبنى آخرون موقفاً نسبياً بقولهم ان العدالة ما هي إلا تجلٍ لنفوذ الأقوياء في أي زمان. فالأفراد الأكثر قوة يصبحون أكثر نجاحاً، وفي النهاية يقنعون أنفسهم والآخرين بأن وسائلهم في تحقيق الأرباح والمحافظة على مكانتهم ليست مقبولة فحسب، ولكنها مرغوبة وأخلاقية وعادلة أيضاً.
وينظر الى العدالة من منظورات فلسفية واجتماعية مختلفة. فهناك العدالة القائمة على فكرة “الحق”، وهناك العدالة القائمة على فكرة “الخير”. واذا كان تحقيق مفهوم “إعطاء كل ذي حق حقه” يقوم على فكرة ان استحقاق الإنسان لحقه يعود لمجرد كونه إنساناً، سميت عندها العدالة بـ” العدالة الطبيعية “.
أما اذا كان استحقاق الإنسان لحقه يقوم على قاعدة عامة يقبلها مجتمعه، سميت عندها العدالة بـ” العدالة الاتفاقية “. واذا كان هذا الحق يستند الى قاعدة تجعل من ينتهكها مسؤولاً عن فعله أمام سلطة عمومية، سميت عندها بـ ” العدالة القانونية “. وتشير ” عدالة التبادل ” الى تلك العلاقات التعاقدية التي تلزم كل فرد أن يعطي غيره حقه كاملاً دون التفات لقيمته الشخصية او مكانته الاجتماعية، بينما تحكم ” العدالة التوزيعية ” توزيع المكافآت وتعيين العقوبات، أي تحدد استحقاقات الفرد من مكافأة او عقوبة. وتعني” العدالة الاجتماعية ” نوعاً من المساواة له أهميته الجوهرية في تحقيق الصالح العام. وتتمثل ” العدالة السياسية ” في وجود دستور يضمن توزيع الحرية السياسية والمساواة الاجتماعية والحقوق الطبيعية. أما ” العدالة الاقتصادية ” فتتحقق إذا ما نجح النظام الاقتصادي في إشراك جميع الأفراد في الحياة الاقتصادية، وفي توزيع الثروة عليهم بنسب تتناسب مع عملهم وإسهامهم في الإنتاج العام. وتأتي ” العدالة الترميمية ” وهي العدالة التي لا تعمل على معاقبة الجناة وإنما تعمل فقط على إصلاحهم، بغض النظر عن طبيعة الجريمة أو الجرائم التي إرتكبوها (إبادة جماعية، جرائم ضد الإنسانية، جرائم حرب، تقويض النظام الدستوري، جرائم الفساد، القتل، الإغتصاب…)، وتتوخى ” العدالة الجنائية ” الدفاع عن المجتمع ضد الجريمة، وفي الوقت نفسه تقويم سلوك الجاني الذي خرج عن إطار المجتمع، مع ضمانها لحق كل متهم في ان يتمتع بمحاكمة تتيح له الحق الكامل في الدفاع عن نفسه حتى تنتهي المحاكمة إلى قرار سليم سواء بالإدانة او بالبراءة. ويشيع أيضاً مصطلح ” العدالة المطلقة ” أو “الإنصاف” بوصفها عدلاً طبيعياً لاشرعياً. فالإنصاف يوجب الحكم على الأشياء بحسب روح القانون، أما العدل فيوجب الحكم عليها بحسب نص القانون.
وفي علم النفس، يستخدم مصطلح ” العدالة الاجتماعية ” لوصف شعور معظم الناس بوجوب أن ينال الجميع استحقاقهم على أساس حاجاتهم وجهودهم. أما ” العدالة المتأصلة ” فتعني اعتقاد الطفل في سنوات حياته الأولى بوجود عقوبات تلقائية تنبثق من الأشياء بحد ذاتها. ويشير “الاعتقاد بعدالة العالم” الى وظيفة نفسية تكيفية بالغة الأهمية، تمكّن الفرد من مواجهة بيئته المادية والاجتماعية كما لو أنها مستقرة ومنظمة. وبدون هذا الاعتقاد يصبح من الصعب على الناس أن يلزموا أنفسهم بمتابعة السلوك الاجتماعي المنظم.
ونواصل