العدالة والمحاسبة التاريخية (11 – 12)
✍🏿 متوكل عثمان سلامات
المحاسبة التاريخية وجدل المصالحة والعفو
المحاسبة التاريخية كما أشرنا من قبل يقصد بها المسؤلية التاريخية والإخلاقية للدولة السودانية عن المظالم الناتجة عن قيامها بالإبادة الثقافية ونهب الموارد الإقتصادية وتدمير النسيج الإجتماعي للضحايا، وتزوير التنوع التاريخي للشعوب السودانية من جانب، والمسؤلية الجنائية للأشخاص أو الأفراد الذين تثبت لجنة الكشف عن الحقائق التاريخية عن تورطهم في الإنتهاكات الإنسانية ضد الضحايا وبالتالي يتم مسآءلتهم جنائياً، وضمان عدم إفلاتهم من العقاب، لذا فإن المحاسبة التاريخية هي جوهر العدالة الإنتقالية.
سنتناول هنا الجانب الأخير من المحاسبة التاريخية وهي المسؤولية الجنائية أي مبدأ عدم الإفلات من العقاب.
1- مبدأ عدم الإفلات من العقاب:
عرف لويس جونيه الإفلات من العقاب في كتابه تأمين حقوق الإنسان للمحتجزين – مسألة إفلات مرتكبي إنتهاكات حقوق الإنسان من العقاب بأنه “عدم التمكن قانوناً أو فعلاً من الإلقاء بالمسؤولية على عاتق مرتكبي إنتهاكات حقوق الإنسان في الدعاوي، سواء كانت هذه المسؤلية جنائية أو مدنية أو إدارية أو تأديبية الطابع، نظراً إلى إفلات هؤلاء الأشخاص من كل تحقيق يسمح بتوجيه التهمة إليهم، وبتوقيفهم ومحاكمتهم والحكم عليهم بعقوبات مناسبة إن ثبت التهمة عليهم بما في ذلك الحكم عليهم بجبر الضرر الذي لحق بضحاياهم”،
أما إسماعيل الجباري الكرفطي في كتابه الذاكرة والنسيان، العقاب والإفلات من العقاب… فقد عرفه بأنه ” التقاعس عن تقديم المسؤلين عن إرتكاب الإنتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني إلى العدالة والإقتصاص منهم، وغالباً ما يعزي ذلك إلى فقدان الإرادة السياسية لأن الدولة نفسها أو إحد أجهزتها، كالشرطة والجيش غالباً ما تكون مسؤولة بصورة مباشرة أو ضالعة في الموضوع بصورة غير مباشرة، وأياً كان السبب فإن غياب المسآءلة والإفلات من العقاب يعني حرمان الضحايا من العدالة، وخلق مناخ يمكن الأفراد من مواصلة إرتكاب الإنتهاكات بدون خوف من الإعتقال أو المقاضاة أو العقاب”.
2- مراحل تطور الوعي الدولي بمكافحة الإفلات من العقاب:
المرحلة الأولى: بدأت هذه المرحلة في السبعينات من القرن الماضي حيث تمت تعبئة جهود المنظمات غير الحكومية والمدافعين عن حقوق الإنسان والحقوقيين من أجل العفو عن السجناء السياسيين. وهذا التطور تميزت به بلدان أمريكا اللاتينية التي كانت وقتها خاضعة لأنظمة إستبدادية.
المرحلة الثانية: وهي مرحلة الثمانينيات، عندما أصبح العفو نوعاً من أنواع المكافأة على الإفلات من العقاب بعد ظهور قوانين العفو الذاتي وهي قوانيين قامت الأنظمة الإستبدادية العسكرية الآيلة للسقوط بإصدارها لصالحها وذلك سعياً منها لتنظيم إفلاتها من العقاب.
المرحلة الثالثة: بدأت هذه المرحلة بنهاية الحرب الباردة والتي يرمز لها بسقوط جدار برلين، وإستمرت طيلة هذه الفترة عمليات عديدة لإرساء الديمقراطية أو إبرام إتفاقيات سلام تضع حداً للمنازعات المسلحة الداخلية، وفي كل الحالات كانت مسألة الإفلات من العقاب من الأجندة الأساسية في طاولة النقاش بين طرفين يبحثان عن توازن مفقود بين متسلط سابق يبحث عن نسيان ماضي ملطخ بدماء الأبرياء وضحايا تطالب بمنطق العدالة والعقاب.
المرحلة الرابعة: وهي المرحلة المستمرة حتى اليوم، والتي أدرك فيها المجتمع الدولي ضرورة محاربة الإفلات من العقاب، وقد كرست لهذا الفهم محكمة البلدان الأمريكية لحقوق الإنسان عندما إبتكرت إجتهاد قانوني مفاده (أن العفو عن مرتكبي إنتهاكات جسيمة لايتماشى مع حق كل شخص في أن تبت محكمة مستقلة ومحايدة في قضيته بإنصاف).
فالهدف من محاربة الإفلات من العقاب هو إرساء ثقافة المسآءلة التي توقف وتمنع إرتكاب الإنتهاكات، وتمنح للضحايا الإحساس بالأمان، وتخيف من يفكرون في إرتكاب إنتهاكات إنسانية في المستقبل، وتعطي قدر من الإنصاف لمعاناة الضحايا.
من خلال هذه المراحل يمكن لأبسط مواطن سوداني أن يحدد بدقة في أي مرحلة من مراحل تقف دولته التي تعتبر من خلال مؤسساتها العسكرية والمدنية الفاعل الأساسي للإنتهاكات الإنسانية، خاصة بعد تأجيل (حكومة الثورة + الجبهة الثورية) وصول المحققين الدوليين من مكتب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية لأجل غير مسمى، الأمر الذي أثار إستياء المدعية العام للمحكمة فاتو بنسودا.
3- حجج المؤيدين والمعارضيين لمبدأ عدم الإفلات من العقاب:
بالرغم من توصل المجتمع الدولي إلى أهمية محاربة الإفلات من العقاب من خلال المراحل التي أوردناها، إلا أن هناك من هم في الحاضر إلا أنهم مازالوا بعقلية السبعينيات والثمانينيات وعهد الحرب الباردة، ولكل منهما حججه الداعمة لموقفه.
أولاً: حجج المؤيدين لمبدأ عدم الإفلات من العقاب:
1- إن المسآءلة الجنائية تفرض الكشف عن الحقيقة والإنصاف، فمن واجب النظام الحالي، إخلاقياً أن يقوم بإدانة ومعاقبة المتهمين بالجرائم البشعة التي أرتكبت بحق الإنسانية،
2- ترتكز الديمقراطية وتنبني على إحترام حقوق الإنسان والقانون، لذلك من البديهي أن تتم البرهنة على أن لا أحد يعلو على القانون وخاصة الشخصيات المهمة والعسكرية ورجال الأمن والشرطة،
3- إن المسآءلة والمتابعة القضائية تمثل واجباً إخلاقياً تجاه الضحايا وأسرهم،
4- المسآءلة ضرورية لأنها تمنع رجال الشرطة والجيش والآمن من إنتهاك حقوق الإنسان مستقبلاً،
5- هذا المبدأ ضروري لتأكيد سمو القيم الديمقراطية وتشجيع المواطنين على الإقتناع والإيمان بها،
6- المسآءلة والمحاسبة ضرورية أيضاً إذا كنا نرغب فعلاً في إدارة جيدة للتنوع في وطن علماني ديمقراطي موحد قادر على الحياة والإستمرار،
7- كل الجرائم التي أرتكبت في ظل الأنظمة الإستبدادية لا تقدم للعدالة، لذا فإن التحقيق والكشف عن فظاعة وخطورة هذه الجرائم وحجمها ومحتواها لأمر ضروري.
ثانياً: حجج المعارضين لمبدأ عدم الإفلات من العقاب:
1- لايمكن أن تكون هناك ديمقراطية بدون مصالحة، لذلك ينبغي على الأطراف الإجتماعية الرئيسية أن تتجاوز خلافاتها وتنسى الماضي،
2- لكي تكون هناك ديمقراطية ينبغي على جميع الأطراف أن تقبل ضمناً أو صراحةً بعدم معاقبة جرائم الماضي،
3- لقد تم إنتهاك حقوق الإنسان في العديد من الحالات من طرف الحكومة والمعارضة على حد سواء، لذا يمكن العفو العام،
4- إن الجرائم التي إرتكبها المسؤولين في الحكومات الإستبدادية قد تمت في تلك المرحلة إضطراراً لإستئصال الإرهاب والثوار الماركسيين وإعادة النظام والقانون، وأن هذه الإجراءات قد نالت قبول المواطنيين آنذاك،
5- يجب على العديد من الشخصيات والأطراف أن توزع فيما بينها مسؤلية الجرائم التي أرتكبت من طرف الأنظمة الإستبدادية،
6- يصبح العفو ضروري إذا كنا نرغب في بناء الديمقراطية على أسس متينة، فبالرغم من اننا سنجد دليلاً إخلاقياً وقانونياً صالحاً يمكنا من تبرير الإتهام فإنه لن يصمد أمام الضرورة والواجب الإخلاقي الذي يتمثل في بناء ديمقراطية تمتاز بالإستقرار الكافي، إذن فترسيخ الديمقراطية أهم بكثير من معاقبة الأفراد.
رغم أن الحوار والجدل سيتواصل فيما يتعلق بالعفو والمصالحة كملاذات للإفلات من العقاب، وتباينت الآراء والحجج فيما يتعلق بالإفلات من العقاب وعدمه، إلا أنه كما ذكرنا من قبل، تظل المصالحة من المفاهيم ذات الصلة بالعدالة الإنتقالية، إلا أنها في تقديرنا لا يمكن أن تكون مبرراً للإفلات من المحاسبة التاريخية والعقاب، أما فيما يتعلق بالعفو والذي سنفرد له مساحة من الشرح لاحقاً، يجب أن يقيد وفق المعايير الدولية التي تمنع صدوره لمصلحة متهمين في جرائم ذات صلة بالإنتهاكات الإنسانية، وحتى فيما يلي الحق الخاص فلابد من المراجعة والتدقيق ومراعاة الحق العام.
اتمنا مزيدا من التقدم والازدهار في نقل الخبر والمعلومات الصحيحه والمفيده على كل شعب الهامش في بلادي