العدالة والمحاسبة التاريخية مقابل العدالة الانتقالية في السودان

خالد كودي،

الجزء الثاني:

التحديات المستمرة:

مثلما كان للدين المسيحي دور في تبرير الرق في الأمريكتين، استُخدم الدين الإسلامي في السودان لتبرير الاستعباد والتمييز العرقي والديني. هذا الاستخدام للدين لتشريع الظلم كان عقبة أمام تحقيق العدالة والمساواة في كلا السياقين. حتى بعد تجريم الرق رسميًا في السودان، استمرت البنية الاجتماعية التي دعمت هذا النظام، مما أسهم في استمرار التمييز والقمع ضد المجتمعات غير العربية وغير المسلمة.

لتجاوز هذا الإرث التاريخي، يصبح فصل الدين عن الدولة واعتماد العلمانية كمبدأ فوق دستوري ضروريًا لتفكيك الهياكل التي دعمت الظلم والتمييز لقرون. فقط من خلال هذا الفصل يمكن ضمان تحقيق العدالة والمساواة لجميع السودانيين، بغض النظر عن خلفياتهم الدينية أو العرقية، ووضع حد لعدم الإفلات من العقاب على الجرائم التي ارتُكبت بحق الفئات المهمشة.

أهمية العلمانية لفك إرث التمييز:

إن تكرار هذه الأنماط يؤكد على أهمية العلمانية كركيزة أساسية لأي تحول حقيقي نحو العدالة والمساواة. عندما يتم فصل الدين عن الدولة، يتمكن النظام القانوني من أن يكون محايدًا وعادلاً، وهو أمر ضروري لفك إرث التمييز على أساس الدين والعرق. في الولايات المتحدة، كان اعتماد مبدأ العلمانية في الدستور جزءًا لا يتجزأ من حركة الحقوق المدنية، حيث أتاح صياغة قوانين تحمي الحقوق المدنية وتضمن عدم التمييز في الأماكن العامة وأماكن العمل، بغض النظر عن الانتماء الديني أو العرقي.

في السودان، فإن اعتماد العلمانية كمبدأ فوق دستوري هو السبيل الوحيد لضمان أن القوانين المستقبلية ستكون منصفة وعادلة. العلمانية لا تعني التخلي عن الدين، بل تهدف إلى وضع إطار قانوني يحمي جميع الأفراد بغض النظر عن خلفياتهم الدينية والعرقية، ويمنع استغلال الدين كأداة للتمييز والظلم. يجب أن تكون القوانين قائمة على مبادئ العدالة والمساواة، بحيث لا يتم استخدام الدين كذريعة لتبرير التمييز أو إدامة الامتيازات التاريخية للنخب.

يجب ان لا ننسي ان الوثيقة الدستورية لعام 2019 في السودان كانت فرصة ضائعة لتحقيق التغيير الحقيقي الذي نادت به الثورة السودانية. بدلاً من تفكيك النظام القديم وبنيته الاستبدادية، أصبحت هذه الوثيقة جزءًا من عملية تسوية سياسية أبقت على الوضع القائم وأعاقت تحقيق العدالة. كما رأينا في تجارب تاريخية مثل تبرير الرق بالدين المسيحي، فإن غياب العلمانية وفصل الدين عن الدولة يؤدي إلى استمرار الظلم والتمييز. لذلك، يجب أن يكون فصل الدين عن الدولة وتطبيق العلمانية فوق الدستور فهو الأساس لبناء نظام قانوني عادل في السودان يضمن حقوق الجميع ويحميهم من أي شكل من أشكال التمييز.

الزاوية الثالثة: تجربة العدالة في ألمانيا بعد سقوط النازية:

تُعد تجربة العدالة في ألمانيا بعد سقوط النظام النازي مثالًا قويًا على كيفية تحقيق العدالة التاريخية من خلال محاسبة القادة السياسيين والعسكريين والمسؤولين عن الجرائم الكبرى. بعد هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، تم إنشاء محاكمات نورمبرغ (1945-1946) التي كانت تهدف إلى محاسبة القادة النازيين على جرائم الحرب والإبادة الجماعية وجرائم ضد الإنسانية. كانت هذه المحاكمات نقطة تحول في القانون الدولي، حيث أرست مبدأ المحاسبة على الجرائم ضد الإنسانية وجعلت من الممكن محاكمة الأفراد على أفعالهم بغض النظر عن مواقعهم السياسية.

قوانين وإجراءات ما بعد الحرب في ألمانيا: بعد الحرب العالمية الثانية، كانت محاكمات نورمبرغ مجرد جزء من عملية شاملة لإعادة بناء ألمانيا على أسس ديمقراطية جديدة. تضمنت هذه العملية مجموعة من القوانين والإجراءات التي هدفت إلى تفكيك الهياكل النازية وإصلاح المجتمع الألماني بشكل جذري في مجالات التعليم والإعلام والمؤسسات الاجتماعية والسياسية. هذا النهج كان ضروريًا لضمان عدم تكرار الفظائع التي ارتكبتها الدولة النازية وإعادة تأهيل المجتمع الألماني على قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان.

: ١/ إصلاح التعليم

كان النظام التعليمي في ألمانيا النازية موجهًا نحو غرس أفكار التفوق العرقي والعنصرية في أذهان الأجيال الناشئة. بعد الحرب، تم تنفيذ تغييرات جذرية في المناهج الدراسية لضمان أن المدارس الألمانية تعلّم قيم الديمقراطية والمساواة وحقوق الإنسان. تم استبعاد الكتب المدرسية التي كانت تمجد النازية، وتم إدخال دروس حول الهولوكوست وأهمية التسامح والاحترام المتبادل. هذا الإصلاح لم يكن مجرد تعديل في المناهج، بل كان محاولة شاملة لتغيير العقلية الجماعية التي تشكلت بفعل الدعاية النازية، وإعادة بناء وعي المجتمع على أسس أكثر إنسانية.

: ٢/ إصلاح الإعلام

خلال الحكم النازي، كان الإعلام أحد أقوى الأدوات للترويج للأيديولوجية النازية والتحريض على الكراهية ضد المجموعات الاثنية والدينية الأخرى. بعد الحرب، تم تطهير وسائل الإعلام الألمانية من النازيين، وتم إنشاء نظام إعلامي جديد يروج للتعددية والديمقراطية. تم إغلاق الصحف والمجلات التي كانت تُدار من قبل النازيين، وأُنشئت وسائل إعلامية جديدة تهدف إلى تثقيف الشعب الألماني حول جرائم النظام السابق وتعزيز الحوار حول بناء مجتمع ديمقراطي جديد. كان للإعلام دور محوري في إعادة بناء الوعي الوطني، وهو ما ساعد على تجاوز الماضي النازي.

: ٣/ إجراءات العدالة الانتقالية والمحاسبة القانونية

لم تقتصر العدالة الانتقالية في ألمانيا على محاكمات نورمبرغ فقط. بل تم تنفيذ إجراءات قانونية في جميع أنحاء البلاد لمحاكمة المسؤولين النازيين على مختلف المستويات. تم إنشاء محاكم محلية لمحاكمة الأفراد الذين شاركوا في الجرائم النازية، وتم فرض عقوبات على الشركات التي استفادت من استغلال العمالة القسرية خلال الحرب. هذا النهج الشامل في العدالة الانتقالية كان ضروريًا لتحقيق المحاسبة الشاملة وضمان عدم إفلات الجناة من العقاب.

  1. إصلاح المؤسسات الاجتماعية والسياسية:
  2. بعد الحرب، تم تفكيك المؤسسات النازية واستبدالها بمؤسسات ديمقراطية جديدة. على سبيل المثال، تم إعادة تنظيم القوات المسلحة الألمانية (البوندسفير) لتصبح جيشًا ديمقراطيًا خاضعًا للرقابة المدنية، وتم تطهير القضاء من القضاة الذين دعموا النظام النازي لضمان أن يكون النظام القضائي مستقلاً ونزيهًا. كما تم إجراء إصلاحات واسعة في النظام السياسي لضمان أن تكون الحكومة الألمانية الجديدة ملتزمة بالديمقراطية واحترام حقوق الإنسان.

مقارنة مع تقاعس القوى في السودان عن تفكيك نظام الإنقاذ:

إذا قارنّا هذه الجهود الشاملة لإعادة بناء ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية بتقاعس القوى التي تصدرت الثورة السودانية عن إجراء تغييرات جذرية تفكك نظام الإنقاذ ذو الطبيعة الفاشية، نجد أن السودان لم يشهد نفس المستوى من الالتزام بتحقيق العدالة الشاملة وإعادة بناء المؤسسات. بعد سقوط نظام عمر البشير، تم توقيع الوثيقة الدستورية لعام 2019، التي كان من المفترض أن تكون أداة للتغيير الثوري الشامل والكامل، ولكنها تحولت إلى تسوية سياسية لم تعالج جذور النظام القديم.

على عكس ألمانيا، التي شهدت تفكيكًا شاملًا للمؤسسات النازية وإصلاحًا جذريًا للنظام التعليمي والإعلامي والسياسي، فإن النظام السوداني بعد سقوط الإنقاذ لم يشهد إصلاحات جذرية تضمن تفكيك الهياكل التي دعمت نظام الإنقاذ. القوى السياسية التي تصدرت الثورة السودانية اختارت التسويات السياسية على حساب التغيير الجذري، مما أدى إلى استمرار العديد من الهياكل والمؤسسات التي ساعدت النظام السابق على البقاء.

هذا التقاعس عن تفكيك جذور النظام الفاشي في السودان أسهم في استمرار الأزمات الاجتماعية والسياسية، وأعاق تحقيق العدالة والمساواة التي كانت الثورة تطالب بها. بدون إصلاحات جذرية شاملة، مثل تلك التي شهدتها ألمانيا بعد الحرب، سيظل السودان يعاني من آثار الماضي، وستظل الثورة غير مكتملة، غير قادرة على تحقيق أهدافها في الحرية والسلام والعدالة

الزاوية الرابعة: العدالة الترميمية كأداة للهروب من المحاسبة:

في السودان، كما في بعض التجارب العالمية الأخرى، تُستخدم العدالة الترميمية كوسيلة للتهرب من المحاسبة والعدالة التاريخية الحقيقية. العدالة الترميمية، التي تركز على التغافر والإصلاح دون عقاب، قد تبدو حلاً واعدًا على السطح، لكنها في الواقع إحدى خدع النخب للحفاط على هيمنة الجناة دون تحقيق أي عدالة للضحايا. كما حدث في (رواندا) و(تيمور الشرقية)، فإن الاعتماد على العدالة الترميمية وحدها دون مساءلة جنائية يؤدي إلى استمرار مشاعر الغبن وعدم الاستقرار.

في ألمانيا بعد سقوط النازية، تم اعتماد نهج أكثر شمولية وفعالية لتحقيق العدالة. إلى جانب المحاسبة الجنائية، كانت هناك إجراءات لإعادة تأهيل المجتمع الألماني من خلال التعليم والإعلام، وإصلاح الهياكل الاجتماعية التي دعمت النظام النازي. كان الهدف من هذه الإجراءات هو ضمان عدم تكرار الفظائع التي ارتكبتها ألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية، وتحقيق المصالحة بين الأجيال الجديدة والمجتمع الدولي.

الزاوية الخامسة: المحاسبة التاريخية كضرورة للتغيير الحقيقي:

في السودان، لا يمكن تحقيق العدالة الحقيقية دون محاسبة تاريخية شاملة تعالج الجرائم التي ارتكبتها القوى القديمة، وتفكيك الهياكل التي دعمت النظام الظالم. هذه المحاسبة ليست مجرد قضية قانونية، بل هي ضرورة أخلاقية، تماماً كما كانت حركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة نضالًا من أجل استعادة كرامة الأمريكان الافارقة ومعالجة تاريخ الرق وتداعياته وتفكيك نظام الفصل العنصري، وفتح الطريق للإنصاف التاريخي.

النماذج العالمية، مثل محاكمات نورمبيرغ في ألمانيا، تؤكد أن التغيير الحقيقي يتطلب إرادة سياسية صادقة وقوانين منصفة. محاكمات نورمبرغ، التي تأسست بعد الحرب العالمية الثانية، لم تقتصر على محاسبة الأفراد الذين ارتكبوا جرائم ضد الإنسانية، بل كانت جزءاً من عملية أوسع هدفت إلى بناء المجتمع الألماني برمته وعلي كل الأصعدة على أسس قانونية وأخلاقية جديدة. محاكمات نورنبيرغ كانت محورية في تعزيز المفاهيم الحديثة للعدالة الدولية وحقوق الإنسان.

خاتمة:

تواجه العدالة في السودان تحديات هائلة تشبه تلك التي واجهتها حركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة وتجربة العدالة في ألمانيا بعد سقوط النظام النازي. في السودان، تسعى القوى المحافظة التي استفادت من النظام القديم إلى تقويض أي ثورة تقود الي تغيير ذات معني لكل السودانيين، وتحويل العدالة الانتقالية إلى أداة سطحية تتيح لها الحفاظ على امتيازاتها التاريخية. هذه القوى تستغل فكرة المصالحة لتجنب المحاسبة الفعلية على الجرائم التي ارتكبتها او تواطأت معها وصممت عنها وانتفعت من تداعياتها على مدى عقود من الزمان.

لتحقيق العدالة الحقيقية في السودان، يجب تجاوز هذا النهج السطحي والتركيز على محاسبة تاريخية شاملة تطال جميع القوى المتورطة في الانتهاكات منذ الاستقلال والتي انتفعت منها. العدالة ليست مجرد عقاب للجناة؛ بل هي عملية شاملة تتطلب معالجة جذور المشكلات العميقة في السودان، بما في ذلك الأعراف الثقافية والهياكل القانونية التي ساهمت في استمرار الظلم واعاقت التطور، وهذا لضمان عدم تكرارها.

ينبغي أن تقوم الدولة السودانية الجديدة على أسس تحترم حقوق الإنسان، وتضمن المساءلة الحقيقية، وتعمل على تفكيك الإرث الاستبدادي الذي طالما عرقل تقدم البلاد. هذا التغيير الجذري لا يمكن أن يتحقق دون إرادة سياسية قوية تسعى لتحقيق مستقبل مستدام يعمه السلام والمساواة، حيث تُحترم كرامة جميع السودانيين دون تمييز، وتُبنى الدولة على قواعد العدالة والإنصاف لكل أفراد المجتمع وفقا لمواطنه متساوية في شمولها وكمالها.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.