العدالة والمحاسبة التاريخية في مخيلة قوى السودان القديم

متوكل عثمان سلامات

 

تابعت ومازلت اتابع الحوارات المتواصلة حول العدالة الانتقالية في الساحة المجتمعية والسياسية السودانية، والتي *تدور حول بعض الأسئلة، ما مدى إمكانية تطبيقها في السودان؟ وهل توفرت عناصر القطيعة التاريخية مع إرث الماضي المظلم؟ وما مدى قوة معارضتنا السياسية والمجتمعية لبنية الدولة السودانية القديمة؟ وهل طبيعة التفاوض بين قوى السودان القديم مع نفسها بقيادة المجلس العسكري يمكن أن يؤدي إلى تحقيق العدالة والمحاسبة التاريخية، أم أنها تؤدي إلى حصانة الجناة وافلاتهم من العقاب؟
كيف تصور وتسعى قوى السودان القديم لتطبيق العدالة والمحاسبة التاريخية في الجزئية الخاصة بالعدالة الانتقالية؟.
هل العدالة الترميمية القائمة على قاعدة التغافر التي تسعى قوى السودان القديم لتطبيقها يمكن أن تحقق الإنصاف للضحايا؟،
هل ستعتبر عملية العدالة الانتقالية إستجابة لنداء ديني أو اسطوري يرتكز على الصفح والعفو نتيجة لتاثير الأديان والمعتقدات والأساطير في حياة الكثير من السودانيين؟ أم سيعلو مبدأ عدم الإفلات من العقاب ؟
كنا قد نشرنا من قبل سلسلة مقالات بعنوان (العدالة والمحاسبة التاريخية) ويعد هذا المقال مواصلة لما أوردناه من آراء حول العدالة والمحاسبة التاريخية، والتي نعتبرها مفهوم مركب يشمل مفهوم العدالة بشكل عام ومفهوم العدالة الإنتقالية وربطهما بالمحاسبة التاريخية لاعتبارات تقتضيها طبيعة الحالة السودانية أو أي حالة أخرى يمكن أن تحدث اوحدثت فيما يتعلق بطبيعة الصراع والانتهاكات الإنسانية، كما يمكن أن تشكل رؤية او قراءة نقدية للخطاب الإنساني الدولي للعدالة الانتقالية وآلياتها في معالجة الانتهاكات الإنسانية العميقة والجسيمة.
أما قوى السودان القديم هي عبارة عن مجموعة من التنظيمات السياسية وشبه السياسية ومليشيات مسلحة وقوات مسلحة والمتحالفين معهم على إبقاء السودان القديم دون تغيير جذري في بنيته، تتخذ هذه القوى من الدين الإسلامي والديمقراطية وسيلة للاستعلاء العرقي والديني والاحتيال والغش والكسب السياسي الفاسد والنهب والتدمير الاقتصادي والطمس والاستلاب والتجريف الثقافي وتفتيت وتدمير النسيج الاجتماعي، وهي قوى أبعد ما تكون عن قضايا المواطن وتعاني معظم عضويتها من تعدد وتنازع الولاءات لذا كان الوطن.اول ضحاياها.
العدالة الانتقالية عند قوى السودان القديم ترتكز على المصالحة والعفو والتغافر وهي الفكرة التي يلتقوا حولها جميعاً، ويعتبرونها أحد تطورات الخطاب الديني المتعلق بالعدالة الانتقالية، فإن كانت لتلك القوى اختلافاتها البينية فهي لا تخرج من جلباب العروبة أو الدين.
العدالة والمحاسبة التاريخية من أهم أهدافها إنصاف ضحايا الإنتهاكات الإنسانية، فإذا كان سبب هذه الإنتهاكات هي قوى السودان القديم التي مازالت متشبثة بالسلطة وتصر على خلط الخاص بالعام في أنشطتها المختلفة نتيجة لاتخاذها من الفكر الإسلاموعوبي مرجع لها وتأسس وتشرعن من خلاله للانتهاكات الإنسانية من قتل وإغتصاب ونهب وتدمير الممتلكات وغيرها من الانتهاكات بحق الشعوب السودانية، بحجة مقدسة وهي الجهاد أو غيره من التلفيق الاستبدادي، ثم تأتي نفس القوى وتدعي أن لها برامج لإصلاح وضع ما بعد الانتهاكات الإنسانية، فيه إنصاف للضحايا واسرهم وتحقيق شفاف من أجل إسترداد حقوقهم/ هن، فإن ذلك ما هو إلا ضرب من الخيال ولا يمكن أن تحدث مثل هذه المسرحيات والاستهبال إلا في بلد مثل السودان، فكيف نتصور أن الجناة هم من يسعون لتقديم أنفسهم للجان التحقيق التي يشكلونها وللمسآءلة الجنائية المحلية أو الدولية؟ وكيف لحكومة مشكلة من الجناة أن تمثل الضحايا؟
فهي بالتأكيد لا تستطيع أن تنجز ذلك حتى ولو نصت أو لم تنص عليه في إتفاق ويتم تفريغه في دستور ومن ثم يشرع في قانون، أو عدم النص على ذلك طالما الجناة مازالوا جزء من التغيير والتحول الحرج ويتحكمون فيه.
ستستمر قوى السودان القديم في مواصلة الانتهاكات الإنسانية وازكاء الصراعات في تقديرنا لسببين اولهما يمثل الإستمرار وسيلة للمساومة وطوق نجاة لحصول الجناة للحصانات والاعفاءات من المساءلة الجنائية وبالتالي الإفلات من العقاب، ثانياً رغبة هذه القوى للمحافظة على الإمتيازات الخاصة بالافراد أو الأسر أو الجماعات سواء كانت هذه الإمتيازات تاريخية أو حديثة والتي طغت للاسف على الوطنية عندهم، ويمثل هذا السببين في تقديري الدافع الأساسي للاتفاق الإطاري ويشكل جانبه السلبي.
ستعمل هذه القوى الانتهازية المتحالفة مع المجلس العسكري في أسوا الحالات على مساعدة الجناة للإفلات من العقاب من خلال ممارسة التدليس وإثارة كمية من الغبار والأتربة لحجب الرؤية عن الشعوب السودانية والضحايا وأسرهم كالحديث عن تشكيل حكومة مدنية صرفة دون مشاركة المجلس العسكري!! أو تبني ما يعرف بالعدالة “الترميمية” التي ينادي بها حزب الأمة القومي وتسعى هذه القوى لتبنيها، والعدالة الترميمية لمن لا يعرفها هي العدالة التي تقوم على قاعدة التغافر التي جاءت بها مسودة دستور سنة 2022م المقدم من اللجنة التسيرية لنقابة المحامين السودانيين ولا تعمل هذه العدالة على معاقبة الجناة وانما تعمل فقط على اصلاحهم، بغض النظر عن طبيعة الجريمة أو الجرائم التي ارتكبوها. فالعدالة الانتقالية التي تسعى قوي السودان القديم المنتهكة لحقوق الإنسان والمضطهدة للشعوب السودانية والتي تمثل الثورة المضادة لن تجبر الضرر ولا تحقق الإنصاف للضحايا وتؤدي في النهاية لإفلات الجناة من العقاب لأنها مرادفة للصفح والعفو.
وفي ظل استمرار هذا الوضع على ما هو عليه في السودان دون تغيير جذري فإنه بكل تأكيد لا يمكن تطبيق العدالة الانتقالية وبالتالي العدالة والمحاسبة التاريخية لعدة أسباب أهمها:
١- إستمرار ذات نظام الحكم الدكتاتوري العسكري/ المدني التسلطي المتسبب في الصراعات والانتهاكات الإنسانية
٢- سقوط نظام المؤتمر الوطني مع بقاء بنية الدولة المؤسسة على المركزية الاسلاموعروبية تحت حراسة الحرس الأيديولوجي المتمثل في المجلس العسكري ومجمع الفقه الاسلامي والبنك المركزي وغيره،
٣- عدم تسليم المتهمين بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة الجماعية للمحكمة الجنائية الدولية ،
٤- قيام المجلس العسكري بتهيئة الأجواء لعودة عناصر النظام البائد والعمل على توحيد قوى السودان القديم،
٥- بزل المجلس العسكري كل جهوده في تثبيت نفسه في الحكم بغرض تحصين نفسه والافلات من العقاب وذلك من خلال سحق قوى التغيير والمقاومة الحية ومصادرة حقوقها وحرياتها والحيلولة دون وحدتها،
٦- عدم التركيز على معالجة جذور المشكلة واستمرار التهرب من مواجهتها وبالتالي عدم الرغبة في دفع استحقاقات الوحدة من خلال الانشغال بالصراعات السياسية والإجتماعية والأمنية التي صنعها،
٧- التأثير السلبي لبعض الدول الإقليمية والدولية على مصالح الشعوب السودانية واستباحة سيادة البلاد في مقابل اطماعهم واطماع المجلس العسكري وبعض التنظيمات الانتهازية.

وكل سنة والجميع بخير

1\1\2023م الاحد

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.