العدالة والمحاسبة التاريخية في مخيلة قوى السودان القديم

✍🏿: متوكل عثمان سلامات

تابعت ومازلت أتابع الحوارات المتواصلة حول العدالة الإنتقالية في الساحة المجتمعية والسياسية السودانية، والتي تدور حول بعض الأسئلة، ما مدى إمكانية تطبيقها في السودان؟ وهل توفرت عناصر القطيعة التاريخية مع إرث الماضي المظلم؟ وما مدى قوة معارضتنا السياسية والمجتمعية لبنية الدولة السودانية القديمة؟ وهل طبيعة التفاوض بين قوى السودان القديم مع نفسها بقيادة المجلس العسكري يمكن أن يؤدي إلى تحقيق العدالة والمحاسبة التاريخية، أم أنها تؤدي إلى حصانة الجناة وإفلاتهم من العقاب؟
كيف تصور وتسعى قوى السودان القديم لتطبيق العدالة والمحاسبة التاريخية في الجزئية الخاصة بالعدالة الانتقالية؟.
هل العدالة الترميمية القائمة على قاعدة التغافر التي تسعى قوى السودان القديم لتطبيقها يمكن أن تحقق الإنصاف للضحايا؟
ونتيجة لتأثير الأديان والأساطير
في حياة الكثير من السودانيين، هل ستعتبر عملية العدالة الإنتقالية إستجابة لنداء ديني أو أسطوري يرتكز على الصفح والعفو؟أم سيعلو مبدأ عدم الإفلات من العقاب؟

كنا قد نشرنا من قبل سلسلة مقالات بعنوان (العدالة والمحاسبة التاريخية) ويعد هذا المقال مواصلة لما أوردناه من آراء حول العدالة والمحاسبة التاريخية. العدالة والمحاسبة التاريخية هي عبارة تشتمل على مفهوم العدالة بشكل عام ومفهوم العدالة الإنتقالية وربطهما بالمحاسبة التاريخية لإعتبارات تقتضيها طبيعة الحالة السودانية أو أي حالة أخرى يمكن أن تحدث او حدثت فيما يتعلق بطبيعة الصراع والإنتهاكات الإنسانية، كما يمكن أن تشكل رؤية أو قراءة نقدية للخطاب الإنساني الدولي للعدالة الإنتقالية وآلياتها في معالجة الإنتهاكات الإنسانية العميقة والجسيمة.
أما قوى السودان القديم هي عبارة عن مجموعة من التنظيمات السياسية وشبه السياسية ومليشيات مسلحة وقوات مسلحة والمتحالفين معهم على إبقاء السودان القديم دون تغيير جذري في بنيته، تتخذ هذه القوى من الدين الإسلامي والديمقراطية وسيلة للإستعلاء العرقي والديني والإحتيال والغش والكسب السياسي الفاسد والنهب والتدمير الإقتصادى والطمس والإستلاب والتجريف الثقافي وتفتيت وتدمير النسيج الإجتماعى، وهي قوى أبعد ما تكون عن قضايا المواطن وتعاني معظم عضويتها من تعدد وتنازع الولاءات لذا كان الوطن أول ضحاياها.

العدالة الإنتقالية عند قوى السودان القديم ترتكز على المصالحة والعفو والتغافر وهي الفكرة التي تلتقى حولها كل قوى السودان القديم، ويعتبرونها أحد تطورات الخطاب الديني المتعلق بالعدالة الإنتقالية. وإن كانت لتلك القوى إختلافاتها البينية أيضاً والتي لا تخرج من جلباب العروبة أو الدين.
العدالة والمحاسبة التاريخية من أهم أهدافها إنصاف ضحايا الإنتهاكات الإنسانية، فإذا كان سبب هذه الإنتهاكات هي قوى السودان القديم التي مازالت متشبثة بالسلطة وتصر على خلط الخاص بالعام في أنشطتها المختلفة نتيجة لإتخاذها من الفكر الإسلاموعوبي مرجع لها وتأسس وتشرعن من خلاله للإنتهاكات الإنسانية من قتل وإغتصاب ونهب وتدمير الممتلكات وغيرها من الإنتهاكات بحق الشعوب السودانية المسيحي أو صاحب المعتقد الإفريقي أو اللاديني اوالثائر ضد التسلط والإستبداد والذي يواطنه في الوطن، بحجة مقدسة وهي الجهاد أو غيره من التلفيق الإستبدادي، ثم تأتي نفس القوى وتدعي أن لها برامج لإصلاح وضع ما بعد الإنتهاكات الإنسانية، فيه إنصاف للضحايا وأسرهم وتحقيق شفاف من أجل إسترداد حقوقهم/ هن، ولا يمكن أن تنجز ذلك حتى ولو نص على ذلك في إتفاق وتم تفريغه في دستور وشرع منه قانون، لأن هذه القوى ما هي إلا مجرد إمتداد للنظام البائد ولا يمكن أن يمنعوا وقوع مثل هذه الإنتهاكات مستقبلاً طالما أنهم مستمرين فيها وفي إزكاء الصراعات حتى الآن بإعتباره الوسيلة الناجعة لقهر الضحايا والرضوخ للمساومة بوقف الإنتهاكات في مواجهة من تبقى منهم مقابل عدم تقديمهم لمحاكمات وبالتالي إفلاتهم من العقاب، ومن جانب آخر يمكن أن تستمر الإنتهاكات الإنسانية من هذه القوى طالما أنها راغبة فى المحافظة على الإمتيازات الخاصة بالأفراد والأسر والجماعات طاغية على الوطنية.
ستعمل هذه القوى الإتهازية المتحالفة مع المجلس العسكري في أسوأ الحالات على مساعدة الجناة للإفلات من العقاب من خلال ممارسة التدليس وإثارة كمية من الغبار والأتربة لحجب الرؤية عن الشعوب السودانية والضحايا وأسرهم كالحديث عن تشكيل حكومة مدنية صرفة دون مشاركة المجلس العسكري!! أو تبني ما يعرف بالعدالة “الترميمية” التي ينادي بها حزب الأمة القومي وتسعى هذه القوى لتبنيها، والعدالة الترميمية لمن لا يعرفها هي العدالة التي تقوم على قاعدة التغافر التي جاءت بها مسودة دستور سنة 2022م المقدم من اللجنة التسيرية لنقابة المحامين السودانيين ولا تعمل هذه العدالة على معاقبة الجناة وإنما تعمل فقط على إصلاحهم، بغض النظر عن طبيعة الجريمة أو الجرائم التي إرتكبوها. فالعدالة الإنتقالية التي تسعى قوى السودان القديم المنتهكة لحقوق الإنسان والمضطهدة للشعوب السودانية والتي تمثل الثورة المضادة لن تجبر الضرر ولا تحقق الإنصاف للضحايا وتؤدي في النهاية لإفلات الجناة من العقاب لأنها مرادفة للصفح والعفو.

في ظل إستمرار هذا الوضع على ما هو عليه في السودان دون تغيير جذري فإنه بكل تأكيد لا يمكن تطبيق العدالة الإنتقالية وبالتالي العدالة والمحاسبة التاريخية للأسباب الآتية:
١- إستمرار ذات نظام الحكم الدكتاتوري العسكري/ المدني التسلطي المتسبب في الصراعات والإنتهاكات الإنسانية
٢- سقوط نظام المؤتمر الوطني مع بقاء بنية الدولة المؤسسة على المركزية الإسلاموعروبية تحت حراسة الحرس الأيديولوجي المتمثل في المجلس العسكري ومجمع الفقه الإسلامي والبنك المركزي وغيره،
٣- عدم تسليم المتهمين بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة الجماعية للمحكمة الجنائية الدولية ،
٤- قيام المجلس العسكري بتهيئة الأجواء لعودة عناصر النظام البائد والعمل على توحيد قوى السودان القديم،
٥- بذل المجلس العسكري كل جهوده في تثبيت نفسه في الحكم بغرض تحصين نفسه والإفلات من العقاب وذلك من خلال سحق قوى التغيير والمقاومة الحية ومصادرة حقوقها وحرياتها والحيلولة دون وحدتها،
٦- عدم التركيز على معالجة جذور المشكلة وإستمرار التهرب من مواجهتها وبالتالي عدم الرغبة في دفع إستحقاقات الوحدة من خلال الإنشغال بالصراعات السياسية والإجتماعية والأمنية التي صنعها،
٧- التأثير السلبي لبعض الدول الإقليمية والدولية على مصالح الشعوب السودانية وإستباحة سيادة البلاد في مقابل أطماعهم واطماع المجلس العسكري وبعض التنظيمات الإنتهازية.

1\1\2023م الأحد

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.