الصِّرَاعُ الاجْتِمَاعِيُّ وَالتَّكْوِيْنَاتُ الهُويوِيَّةُ فِي السُّودَان!

كمال الجزولي

 

{مهداة إلى الأستاذ صلاح بشير الذي كتب مشكوراً يقول: “ما لا يعجبني عند الأستاذ كمال الجزولي استخدامه لمفردات ذات أبعاد منفِّرَة على شاكلة “المستعربة والجلابة والثقافة العروبواسلامية” وغيرها من الكلمات ذات الشحنات السالبة}

(1)
يتَّصل مفهوم «الهُويَّة»، اتِّصالاً وثيقاً، بمفهوم «الثَّقافة» التي تُعتبر المحدِّد الرَّئيس لها، إذ أن الأخيرة، من الزَّاوية النظريَّة لفلسفة التَّاريخ، وعلم النفس الاجتماعي، هي جماع السُّلوك العام، أمَّا من النَّاحية العمليَّة فهي جماع صور الإبداع المكتوب، والمرئي، والمسموع، لدى الأمَّة المعيَّنة المنحدرة من عنصر إثني معيَّن.
وفي بلادنا تنتسب غالبيَّة الجّماعة المستعربة المسلمة، بثقلها الاقتصادي السِّياسي والاجتماعي الثَّقافي، إلى العنصر النوبىِّ المنتشر على امتداد الرقعة الجغرافية من أقاصى الشَّمال إلى مثلث الوسط الذَّهبي «الخرطوم ـ كوستي ـ سنار»، وهو العنصر الذى ينتمي إليه غالب من باتوا يُعرفون، اليوم، بـ «الجَّلابة»، أو الطبقات والشَّرائح الاجتماعية التى تمكنت، منذ خمسة قرون، من تركيز الجزء الأكبر من الثروة فى أيديها (ساندرا هيل ـ ضمن ب. ودوارد، 2002م)، والتي تَشكَّلَ في رحمها، تاريخيَّاً، التَّيَّار «السُّلطوي» المستعلي على مساكنيه فى الوطن بالعِرق «المستعرب»، ودين وثقافة «الاسلام»، بالاضافة إلى اللغة «العربيَّة»، بطبيعة الحال. فعلى الرغم من الأصول النوبيَّة لأغلب المنتمين لهذه القوى الاجتماعيَّة، إلا أنهم لم يعودوا يستبطنون الوعي بهذه «الهُويَّة» التى استحالت هى نفسها إلى «هامش»، وإنما يزعمون تشكلهم كنموذج «قومىٍّ»* محدَّد، ثقافيَّاً، بالاسلام والعروبة. بعبارة أخرى، فإن المشكلة لا تكمن في مجرَّد هذه السَّيرورة «الهُويويَّة»، بقدر ما تكمن في الأسلوب القامع الذي اتَّبعته هذه القوى الاجتماعيَّة في الاستعلاء، باستعرابها وتأسلمها، على كلِّ من أضحت تتوهَّم أنهم دونها، ضربة لازب، من سائر أهل «الهُويَّات» الأخرى، أعراقاً، وأديان، وثقافاتٍ، ولغات. لقد ذوت «الهويَّة» القديمة، إلى حدٍّ بعيد، فى وجدان تلك القوى، ولم يعُد لـ «نوبيَّتها» أىُّ معنى، ومع ذلك انطلقت تقدِّم نفسها كنموذج «قومىٍّ»، وثقافتها كثقافة «قوميَّة»، على أساس ارتكاز هذه «القوميَّة» إلى اللغة و«الثَّقافة» العربيَّتين، والدين الاسلامي، دون أن تستوفى أشراط تشكُّلها كنموذج كلىٍّ يعبِّر عن مجموع «الثَّقافات» السُّودانيَّة، أو يعكس منظومة «تنوُّعها»، فما تزال تعبِّر، فحسب، عن محض «إدراك وفهم نيلىٍّ شمالىٍّ لهذه الهُويَّة السُّودانيَّة الصَّاعدة» (دورنبوس، فى بارنت وكريم ـ ضمن المصدر).
وإذن، فقد شكَّلت مراكمة الثَّروة في أيدي هؤلاء «الجلابة» الخلفيَّة التَّاريخيَّة لنشأة تيَّار الاستعلاء السُّلطوي وسطهم، وتمكينه من فرض نمط تديُّنه والمستوى الذي يناسبه من الثَّقافة واللغة العربيَّتين. ولأنه ليس من أهداف هذه الورقة، بل ليس في وسعها تتبُّع السَّيرورة التَّاريخيَّة التَّفصيليَّة الطويلة لرأسماليَّة المستعربين المسلمين الطفيليَّة الراهنة**، فإننا نكتفي بالاشارة هنا إلى أهمِّ محطاتها، كالدفعة الكبيرة التى تلقَّتها، مثلاً، من الادارة البريطانيَّة (1898م ـ 1955م)، عندما احتاجت هذه الأخيرة إلى «مؤسَّسة سودانيَّة» تدعمها، فاصطنعتها من الكُتل الاجتماعيَّة الآتية:

الأولى: شريحة كبار التِّجار الذين مكَّنتهم خدمتهم، وقتها، لرأس المال الأجنبي في السُّوق المحلي من مراكمة ثروات أعادوا استثمارها، بعد الاستقلال السِّياسي، في تجارة الاستيراد والتَّصدير، أو في بعض الصِّناعات التَّحويليَّة الخفيفة (ت. نبلوك، 1990م)، قبل أن يتفرَّغوا نهائيَّاً، منذ أواخر سبعينات القرن الماضي، للمضاربة في أسواق العقارات والعملات .. الخ،

الثَّانية: الأرستقراطيَّة القبليَّة والطائفيَّة التي جرى تمكينها من الأراضي والثَّروات،

الثَّالثة: الشَّرائح العُليا من بواكير خريجي «الكليَّة» الذين لعبت دخولهم العالية دوراً مهمَّاً في تشكيل نزعاتهم المحافظة (نفسه).

(2)
غير أن ما يهمُّنا إبرازه، هنا، بوجه خاص، هو الأهميَّة التَّاريخيَّة التي يكتسيها التَّكوين الأوَّلىُّ الباكر للفئات والشَّرائح الاجتماعيَّة العليا، المنتمية، بالأساس، إلى الجَّماعة المستعربة المسلمة، والأوضاع الاقتصاديَّة السِّياسيَّة والاجتماعيَّة الثَّقافيَّة التي تشكَّلت في عقابيل انهيار الممالك المسيحيَّة، وتأسيس «مملكة سنار»، على النَّحو الآتي:
(1) جرى ذلك التَّكوين، وما ترتَّب عليه من أوضاع، في ملابسات النَّشأة الأولى لنظام التِّجارة البسيط، على نمط التَّشكيلة ما قبل الرَّأسماليَّة، منذ مطلع القرن السَّادس عشر (ك. بولانى ـ ضمن المصدر)، وازدهار التِّجارة الخارجيَّة تحت إشراف ورعاية السَّلاطين، على غرار قوافل التِّجارة الموسميَّة في مكة مع بدايات الانقسام الطبقي، واكتمال انحلال النِّظام البُدائي خلال القرنين الخامس والسَّادس الميلاديَّين (بيلاييف، 1973م) ، وإلى ذلك اندغام مختلف شرائح التجار، والموظفين، والفقهاء، وقضاة الشرع «أهل العلم الظاهري» ، أو الطبقة الوسطى قيد التَّكوين، آنذاك ، فى إطار «السُّلطة الزَّمنيَّة»، من باب الدعم الذى كانوا يقدمونه للطبقة الأرستقراطيَّة العليا من السَّلاطين، والمكوك، وحكَّام الأقاليم، وما كانوا يجنونه من امتيازات تحلُّقهم حول مركز السًّلطة، وما كانوا يحصلون عليه، ويعيدون استثماره تجاريَّاً من أنصبة صغيرة من الذَّهب والرَّقيق وخلافه (أوفاهي وسبولدنق والكرسني والبشرى ـ ضمن ت. نبلوك، 1990م).
(2) ولكون المراكمة، بطبيعتها، عمليَّة بطيئة لا تكاد نتائجها تستبين إلا وفق القوانين العامَّة لحركة التطوُّر، فقد أمكن، فقط مع خواتيم القرن السَّابع عشر ومطالع القرن الثَّامن عشر، أن يفضي التَّراكم الكمِّى لتناقضات المصالح المتباينة، بين مختلف شرائح التِّجار، إلى تغيُّر كيفي في النِّظام التِّجاري نفسه، مِمَّا أفضى، في المدى الطويل، إلى تفكُّك وانحلال الدَّولة السِّناريَّة ذاتها خلال العقدين الأوَّلين من القرن التَّاسع عشر. ومن أبرز عوامل ذلك تراجع دور السَّلاطين في ذلك النِّظام خلال القرن الثَّامن عشر، نتيجة تشجيع التِّجار الأجانب لصغار التِّجار المحليِّين على اقتحام التِّجارة الخارجيَّة، والتَّعامل بالعملات الأجنبيَّة، كالدولار الأسباني، للانعتاق من الذَّيليَّة لتجارة السُّلطان، وتحكُّمه المطلق في الأسعار عن طريق تحكُّمه في كمِّيَّات الذَّهب التي تصل الأسواق، وانحلال قبضة السَّلاطين، نتيجة ذلك، على أراضى السَّلطنة بحلول نظام الملكيَّة الخاصَّة للأراضي محلَّ ملكيَّة الدَّولة، فحازها التِّجار الأثرياء وأصحاب النُّفوذ، وجرى تكبيل الرُّعاة، والمزارعين العبيد، وأنصاف العبيد، بالمزيد من علاقات الانتاج العبوديَّة والاقطاعيَّة المتداخلة (ت. نبلوك، 1990م)، اضافة إلى تعمُّق التَّناقض بين عجز السُّلطة السِّياسيَّة المفكَّكة، وبين النُّموِّ المتسارع للنَّشاط التِّجاري، مع تزايد حاجته إلى قوَّة مركزيَّة تفرض الأمن، والاستقرار، والسُّوق الموحَّدة، والحدود الجُّغرافيَّة، وتحدُّ من عوائق النِّظام الضَّريبي المتعدِّد بتعدُّد الأنظمة السِّياسيَّة في الاقاليم (القدال، 2002م). ثم جاء من فوق ذلك كله تفاقم الحركات الانفصاليَّة، ضغثاً على إبالة، في أجواء انقسامات السُّلطة، وصراعات أجنحتها، مِمَّا نجم عنه انسلاخ مناطق بأكملها، كمنطقة الشَّايقيَّة، عن المملكة (ت. نبلوك، 1990م)، ودعوة مناطق أخرى لمحمد علي باشا للتَّدخُّل (القدال، 2002م).
(3) بالمقابل، كانت هناك قوى الانتاج البدوي في قاع المجتمع، المُكوَّنة من الرَّقيق، ورعاة الإبل والماشية، وحِرَفيىِّ الانتاج السِّلعي الصَّغير في القرى، ومزارعي الأراضي المطريَّة والرَّى الصناعى، الرازحين بين مطرقة السيطرة المطلقة للسُّلطان، وسندان النُّفوذ الاقتصادي للتِّجار، بنظام «الشِّيل» حيناً، وحيناً آخر بنظامَىْ «السُّخرة» أو «المشاركة» فى الانتاج، بحسب الحال، نتيجة لاستحواز التِّجار الأثرياء، وذوي النُّفوذ على الأراضي في مرحلة لاحقة من صراع المصالح، كما سلفت الاشارة. وتنتسب إلى قاع المجتمع هذا، بالأساس، قبائل الجَّنوب، وجبال النُّوبا، والفونج بجنوب النِّيل الأزرق، وقبائل النِّيل الأبيض، مِمَّن اعتبروا مورداً رئيساً للرَّقيق، والعاج، وسلع أخرى «كانت تنتزع بالقوَّة .. مما جعل لهذه العملية تأثيراتها السَّالبة على المناطق المذكورة» (ت. نبلوك ، 1990م).

(3)
كان لا بُدَّ أن تلقي مجمل تلك التَّأثيرات بظلالها السَّالبة، أيضاً، على جبهة «الثَّقافة» واللغة. فعلى حين لم يُفض انهيار الممالك المسيحيَّة إلى «محو» المسيحيَّة نفسها، بضربة واحدة، كـ «ديانة» و«ثقافة» سائدتين، حسبما يعتقد بعض الكتاب خطأ (مثلاً: جعفر بخيت، 1987م)، ناهيك عن الدِّيانات الأرواحيَّة الأفريقيَّة، وما يرتبط بها من «ثقافات»، كانت قد بدأت تتشكَّل خصائص الفضاء الرُّوحي لذلك النَّشاط المادِّي، وفق المعايير «الثَّقافيَّة» لمؤسَّسة «الجَّلابة» السَّائدة اقتصاديَّاً، والمتمكِّنة سياسيَّاً، مثلما بدأت في التكوُّن «الهُويَّة» التي يطلق عليها، زوراً وبهتاناً، «الشَّخصيَّة السُّودانيَّة»، من زاوية سيطرة هذه «الثَّقافة» نفسها، أي شخصيَّة «الجَّلابي» المنحدرة من العنصر المحلي النُّوبي المستعرب بتأثير «العنصر العربي» الذي ظلَّ ينساب داخل الأرض السُّودانيَّة منذ ما قبل الاسلام، كما وبتأثير «الثَّقافة الاسلاميَّة» التي ظلت تشقُّ طريقها، منذ 641م، عبر المعاهدات، وعمليَّات التَّبادل التِّجاري، ثم، لاحقاً، بتأثير البعثات الأزهريَّة، والفقهاء الذين استقدمهم مكوك سنار من مصر، فضلاً عن المتصوِّفة، ومشايخ الطرق الذين قدموا من المشرق والمغرب. ومع مرور الزَّمن أخذت تلك الخصائص تتمحور حول النَّموذج «القومى» المتوهَّم وفق المقايسات «الهُويويَّة» لذهنيَّة ووجدان «الجَّلابي» اللذين تشكلا على الخوف المتوارث من العالم الميتافيزيقىِّ الخفىِّ للاغيار المساكنين أو المجاورين، وجُلهم من الزِّنج الذين يجلب «الجَّلابي» إليهم ومنهم بضاعته، مُلقياً بنفسه في لُجج مخاطر لم يكن لديه ما يتَّقيها به سوى التَّعويل، حدَّ التَّقديس، لا على الفقهاء وقضاة الشرع «أهل العلم الظاهري»، فأولئك وجدهم يجوسون معه في عرصات الأسواق، وأبهاء البلاط، فباخت هيبتهم فى نفسه، وسقطت منها، إنَّما على السُّلطة «الرُّوحيَّة» للأولياء، والصَّالحين، وشيوخ المتصوِّفة «أهل العلم الباطني» المنحدرين، بالأساس، من ذات جماعته الإثنيَّة المستعربة المسلمة، والزَّاهدين في ذهب السَّلاطين ونفوذهم، والقادرين، وحدهم، على أن «يلحقوا وينجدوا» بما يجترحون من «ثقافة» الكرامات، والخوارق، والمعجزات التي ترتبط عنده، فى الغالب، بصيغ «لغويَّة» تتمثل فى ما «يكتب» أولئك «الفُقرا»، في ألواحهم، وما «يقرأون»، و«يمحون»، فيمسُّه، من ذلك، ما يمسُّه من خير أو شر (!) الأمر الذى زاد من تشبثه بـ «العلم الباطني» لتينك اللغة و«الثَّقافة»، وضاعف من رهبته بإزاء أسرارهما الميتافيزيقيَّة (راجع «الطبقات» لود ضيف الله)، كما فاقم من استهانته بـ «رطانات» الزَّنج وغرارتهم، وأسَّس لاستعلائه التَّاريخي عليهم.
مهَّد ذلك، بمرور الزَّمن، لتكوُّن حجاب حاجز بين العنصرين في وعي «سنَّار» الاجتماعي، فاستعصم العنصر الزِّنجى مع لغته و«ثقافته» بالغابة والجبل، وحدث الشئ نفسه تقريباً في سلطنة الفور ومملكة تقلى (محمد المكى إبراهيم، 1976م). ولئن كان ذلك كله محدوداً بظروف تلك الممالك المتفرِّقة، فقد جرى تعميم النَّموذج مع الحكم التُّركى المصرى عام 1821م، وتأسيس الدَّولة الموحَّدة الحديثة التي «تمتلك أدوات تنفيذ عالية الكفاءة، فبرز النَّهج الاستتباعى للثَّقافة العربيَّة الاسلاميَّة بشكله السَّافر» (أبكر آدم اسماعيل، 1999م).

(4)
يضئ الكثير من المؤرخين والباحثين، كماكمايكل، وترمنغهام، وهاميلتون، ويوسف فضل، وسيِّد حامد حريز، وغيرهم، تلك الوضعيَّة المقلوبة التى تنزع للتَّأكيد المتوهَّم على «نقاء» العِرْق العربى، وكذا اللغة والثقافة، والتى استقبل بها «الجلابة»، فى وقت لاحق، صورة الوطن، ومعنى الوطنيَّة والمواطنة، بالمفارقة لحقائق الهجنة التى ترتبت على خمسة قرون ميلاديَّة ـ بين التَّاسع والرَّابع عشر ـ من اختلاط الدِّماء العربيَّة الوافدة بالدِّماء المحليَّة، النوبيَّة منها بالأخص، دون إغفال وقوع ذلك أيضاً بالنِّسبة للدِّماء البِّجاويَّة والزَّنجيَّة، وإن بشكل متفاوت. “.. فالعرب الأقحاح لم يكن عددهم كبيراً .. في أيِّ وقت من الأوقات، وقد اختلطوا حيث أقاموا وتزاوجوا مع السُّكان المحليين، سواء كانوا من النُّوبيين أو من البِّجة أو من الزُّنوج” (Hamilton, 1935). رغم تلك الحقيقة التَّاريخيَّة، بل رغم أن «الهجين الماثل للعيان»، بمجرَّده، «لا يجعل منهم عربًا خلصاً» (يوسف فضل، 1988م)، إلا أن سياحة عجلى فى (طبقات ود ضيف الله) أو (كاتب الشونة) أو أىٍّ من سلاسل الأنساب وأشجارها ، وجُلها مختلق أو موضوع لاحقاً كوثائق تمليك الأرض لدى الفونج، مثلاً، أو ما إلى ذلك من المصادر التَّاريخيَّة للممالك والمشيخات الإسلاميَّة في البلاد قد تكفي للكشف عن مدى ما أهدر «الجلابة» من جهد ووقت وعاطفة فى «تنقية» أصولهم من العنصر المحلِّي، وإرجاعها، ليس فقط لأعرق الأنساب القرشيَّة في الجَّزيرة العربيَّة ، بل وإلى بيت النُّبوَّة نفسه! وقد حاول بعض الكتاب تفسير هذه الظاهرة من منطلقات معرفيَّة مختلفة. فعلى سبيل المثال يحيلها يوسف فضل (1975م) إلى مجرَّد “الخطأ عن جهل”، أو محاولة الاتِّكاء على سند حضاري بعد هزيمة المهديَّة. سوى أن من الصَّعب الموافقة على تفسير الذهنيَّة الجَّمعيَّة، وبخاصَّة حين تشكِّل ظاهرة ممتدَّة في التَّاريخ، أو تنتسب إلى طبقات وشرائح اجتماعيَّة بمثل هذا الحجم والأثر في مجرى التَّطوُّر العام لأمَّة بأكملها، بمجرد «الخطأ» أو «الجَّهل»! كما وأن تاريخ الظاهرة نفسه يعود، كما قد رأينا، إلى ما قبل هزيمة كررى بمراحل تاريخيَّة طويلة. ويسمِّى بعض الكتَّاب هذه الظاهرة بـ «أيديولوجيا الأصالة»، ويجترحون مدخلاً طريفاً لمقاربتها من بوَّابة علم النَّفس الاكلينيكي، بإحالتها إلى مجرَّد «عقدة نقص» تجاه الوضعيَّة التَّراتبيَّة لأصول المصادر في الثَّقافة العربيَّة الاسلاميَّة. فعرب السُّودان، من هذه الزَّاوية، ظلوا يواجهون نظرة التَّشكيك في عروبتهم التي تُعتبر من الدَّرجة الثَّالثة، حيث “العرب الأصلاء في الجَّزيرة العربيَّة والشَّام، والعرب من الدرجة الثَّانية في مصر والمغرب العربى، والبقيَّة في السُّودان وموريتانيا والصُّومال” (أبكر آدم اسماعيل ، 1999م). ويذهب الكاتب إلى أن الظاهرة مرتبطة “بظروف تاريخية معيَّنة، حيث أن الأغلبيَّة السَّاحقة للنَّاقلين للثَّقافة العربيَّة الاسلاميَّة عبر تلك القرون الطويلة هم من الأعراب الذين يمثلون القبائل الهامشيَّة في الجَّزيرة العربيَّة، والمناطق العربيَّة الأخرى. وهم ليسوا ذوي جاه، ولا علم بالاسلام، وما نتج عنه من فكر، فكان من الطبيعى أن ينقلوا معهم واقعهم مؤطَّراً، وبالتَّالى اختلاط الحقيقة بالادِّعاء على مستوى الفكر والأنساب” (المصدر). مهما يكن من أمر، فإننا نتَّفق مع ما ذهب إليه يوسف فضل (1988م) من أن حقيقة الهجنة، واختلاط الدِّماء العربيَّة والنُّوبيَّة «نركز هنا على العنصر الذي انحدر منه غالب الجَّلابة» تبدو «ماثلة للعيان» بقوَّة لا تحتمل المغالطة. وإلى ذلك يجدر التَّعاطي معها كحقيقة معرفيَّة لا ينتقص من قيمتها أن دعواها في أصولها العرقيَّة عند ماكمايكل، وتجلِّياتها الثَّقافيَّة عند ترمنغهام، متهومة لدى بعض المفكرين بأنَّها “تنطوي على فرضيَّة انحطاط”، كما ذهب إلى ذلك، مثلاُ، د. عبد الله على ابراهيم (1996م).
لقد انطلق «الجَّلابي» يسقط وعيه بعِرقه المحض، الخالص والمُنتحل هذا على حاضر صورة الوطن، آنذاك، ومستقبلها، لا كما هى عليه في الواقع، بل كما صاغها هو في «وهمه» الفخيم، مستنداً إلى مراكمته الأوليَّة للثرَّوة، وبخاصَّة في ظلِّ نظام التِّجارة البسيط، ونهب الموارد، على أيام مملكة سنار، مِمَّا سلف ذكره، وفاتحاًً الطريق لنشوء وتسيُّد تيَّار الاستعلاء السُّلطوي في السِّياسة، والاجتماع، والثَّقافة. ونجد صعوبة في الاتِّفاق مع أبكر آدم اسماعيل الذي يرى أن هذا الاستعلاء «ويطلق عليه الاستتباع والتشدُّد»، يرجع إلى بواكير أيام الثَّقافة العربيَّة الاسلاميَّة فى السُّودان، ولكنه بقي ناعماًً benign طوال ذلك الوقت بسبب افتقاره لسلطة الدَّولة التي لم تتوفَّر له إلا مع نشوء الممالك الاسلاميَّة في شمال وأواسط السُّودان (المصدر). فالكاتب يعرض لـ «الاستعلاء/الاستتباع/التشدُّد»، هنا، كفكرة كامنة، ناجزة بنفسها، في الثَّقافة العربيَّة الاسلاميَّة ضربة لازب، وكلُّ ما تحتاجه لظهورها فى أىِّ مكان هو «سلطة الدَّولة»، فلا جذر لها فى واقع النَّشاط المادِّي للمجتمع المعيَّن. ووددت لو أنه سعى لتأسيس فرضيَّته هذه على معطى تاريخيٍّ وثيق، حيث الثَّابت معرفيَّاً، حتَّى الآن، أن حركة الاستعراب والتأسلم حفرت مجراها العميق بصورة طبيعيَّة في بعض أجزاء البلاد، خصوصاًً على الشَّريط الجُّغرافىِّ من الشَّمال إلى الوسط، وبالذات خلال القرون التى تلت صلح البقط عام 652م، بالتَّزاوج، وهجنة الأعراق، وسلاسة التَّديُّن السِّلمي، وانسياب اللغة والثَّقافة من خلال التَّثاقف، والتَّمازج بين الاسلام وبين عناصر روحيَّة وماديَّة في الموروث المحلِّى. إن أىَّ تقدير سليم لحركة الاستعراب والتأسلم التاريخيَّة في بلادنا لا بد أن يقوم على النَّظر إليها، ابتداءً، كمصدر إثراءً مفترض، ليس فقط للخارطة الاثنيَّة السُّودانيَّة، بل وللثَّقافة العربيَّة الاسلاميَّة في المنطقة بأسرها. فلا الهجنة مطعن في جدارة الانتماء لهذه الثَّقافة، ولا الانتماء لهذه الثَّقافة يلغي شيئاًً من خصائص هذه الهجنة، دَع أن يحول دون الحوار السِّلمي مع غيرها من مكوِّنات ما يمكن أن يُطلق عليه مستقبلاً «الثَّقافة السُّودانيَّة» و«الأمَّة السُّودانيَّة»!
المشكلة، إذن، ليست فى الاستيعاب المعرفى لوقائع الهجنة أو حقائق الثَّقافة، بل، على العكس من ذلك، فى إنكارها، أو تزييفها أيديولوجيَّاًً، ثُمَّ تسويقها، بهذه الصُّورة، في الوعي الاجتماعي العام!

(5)
لقد أفرزت الهجرات العربيَّة الى سودان وادي النيل “.. تحوُّلاً جذريَّاً اتسم بقدر من الدَّيمومة في التَّوازن الإيكولوجي بين الصَّحراء والأرض المزروعة، وأدَّت .. الى إحداث تبدُّل رئيس في بنية الثَّقافات السُّودانيَّة المحليَّة (و) شكَّل التَّمثُّل الثَّقافي والعرقي الذي نتج عن تلك الهجرات عمليَّة ذات جانبين: من جانب .. السُّودانيين المحليين، ومن جانب .. العرب الوافدين (حيث) كانت الغالبيَّة العظمى من الوافدين العرب بدواً، (و) كان تأثيرهم .. على السُّكان المحليين أحاديَّاً .. بينما أظهر السُّكان المحليون .. تشكيلة متنوِّعة من الثَّقافات واللغات، ومن ثمَّ كان تأثيرهم على العرب الوافدين بالقدر نفسه من التنوُّع .. لقد أدت عملية التَّمثُّل إلى ظهور مركَّب فسيفسائي من الأقوام والثَّقافات يتمثَّل القاسم المشترك الأعظم لغالبيَّتها في الدِّين الإسلامي، وأصبحت اللغة العربيَّة مع مرور الوقت، وترابط المصالح الاقتصاديَّة، هي اللغة الجَّامعة بين تلك الأقوام والثَّقافات” (أسامة عبد الرحمن النور؛ “مشروع السُّودان الجَّديد وإعادة كتابة تاريخ السُّودان”، سودانايل 14/4/04).
وإذن، من زاوية الحقيقة المعرفيَّة، فإن من أهمِّ عوامل تحقُّق هذه «الفسيفساء» وقوع الهجنة فى بعض أجزاء البلاد دون أجزاء أخرى. أما من زاوية الحقيقة الأيديولوجيَّة، فعلى الرُّغم من أن تيار الاستعلاء «السُّلطوى/التَّفكيكي» قد ظلَّ يَعتبر هذه «الفسيفساء» نقمة، إلا أن الأقسام الوطنيَّة الدِّيموقراطيَّة من التيار «العقلاني/التَّوحيدي»، وبالأخص بين المبدعين والمفكِّرين، قد اعتبرتها دائماً نعمة! ولعلَّ هذا بالتَّحديد هو ما وعته، وإن بدرجات متفاوتة من السَّداد والثَّبات، وما سعت لتلمُّسه، وتمثُّله، والتَّعبير عنه، وإن بمستويات مختلفة من الاتِّساق، ووضوح الرُّؤية، أجيال من المفكِّرين، والأدباء، والشُّعراء، والفنَّانين المستعربين المسلمين، منذ دعوة حمزة الملك طمبل: “يا شعراء السُّودان أصدقوا وكفى!” مروراً بتيَّارات عديدة أشهرها «الغابة والصَّحراء» في الشِّعر، و«مدرسة الخرطوم» في التَّشكيل، وجماعة «أبادماك» في عموم الإبداع، علاوة على الجهود الفكريَّة التي انطلقت، منذ ستِّينات القرن المنصرم، بحفز من تلك المداخل الابداعيَّة، نحو مقاربة أشمل للاشكاليَّة من زوايا سوسيوبوليتيكانيَّة وسوسيوثقافيَّة أكثر اتِّساعاً.

فقط من خلال وقائع القرون الثَّلاثة التي أعقبت القرن السَّادس عشر، وعلى حين راحت تتبدَّد فى ذلك المفصل التَّاريخى، مع غروب شمس سنَّار، واحدة من بواكير الفرص النَّادرة التي أتيحت للبلاد لتوحِّد أقاليمها، وتصوغ ذاتها، وتنتمى لنفسها، كان «الجَّلابى» مشغولاً فى ملابسات صراع الثَّروة والسُّلطة:
أ/ بأسلاب المملكة التي كان قد نشط في تفكيكها بالتَّواطؤ مع التِّجار الاجانب، يحصِى ما آل، وما يمكن أن يؤول إليه، من تركة «الككر» الضَّخمة: تجارة داخليَّة وخارجيَّة طليقة من تحكم السَّلاطين، وأراض شاسعة خرجت من قبضة الدَّولة المرتخية، فحازها هذا «الجَّلابيُّ» بثروته ونفوذه،

ب/ وبتأسيس منظوره الخاص للبلاد التى لم تعُد، من أقصاها إلى أقصاها، غير كنف موطَّأ لامتيازه وحده بالأرض، والزِّراعة، والماشية، والتِّجارة، والعبيد، وامتيازه، تبعاً لذلك، بالعنصر، واللغة، ونمط التَّديُّن، والثَّقافة. أما كلُّ ما دون ذلك فمجرَّد صقعٌ خلاء، أو محض مشروع لـ «الأسلمة» و«التَّعريب» يتقرَّب به إلى الله زلفى!
ج/ وبتعميق رؤيته الفادحة للذَّات وللآخر، حيث أصله وحده الكريم، ولسانه وحده القويم، أما كلُّ من عداه فعبيدٌ غلفٌ ، وألسنتُهم كذلك! دمه وحده الحرام، وعِرضه، وماله كذلك، أمَّا الآخر فكافرٌ، لا حرمة لدمه، ولا لعِرضه، ولا لماله! لون الآخر إمَّا أسود أو أزرق، أمَّا لونه هو فـ «أصفر» تارة، و«دهبيٌّ» تارة، و«قمحىٌّ» تارة، و«عسلىٌّ» تارة، وتارة «خاطف لونين»، حتى إذا دَكِنَ، وصار إلى سَجَم الدواك أقرب، فتلك «خُدرة دُقاقة»، أو هي «سُمرة» تتدوزن بفتنتها المعازف الشَّرقيَّة في المدن، والطَّنابير النُّوبيَّة عند السَّواقي! فصودُ الآخر على الجَّبين وشمُ رجرجةٍ مُعتم، أمَّا «شلوخه» هو فتضئ على خديه مطارق، وتى، وإتش، و«حلو درب الطير في سكينة»، أو كما ظلَّ يصدح ليلَ نهار، مغنيه الذى لا يموت ولا يفوت، عبر مذياع الحكومة وتلفازها، حتَّى يوم النَّاس هذا! يتمعَّن فى الأكف، يتشمَّم روائح الآباط ، يحدِّق مليَّاً في الأنوف وفي «الشَّلاليف»، يتقصَّى حتى لون باطن «الأذنين»، تحاشياًً لِمصاهرة مَن فيه «عِرقٌ»، وذاك مبلغ عِلمِه من قوله (ص): “تخيَّروا لنطفكم فإن العِرق دسَّاس”، كضرب من اخضاع النَّص الدِّينىَّ لخدمة أيديولوجيا الاستعلاء! فرغم “اعتبار الدين الإسلامي لمثل هذه الاتِّجاهات جاهلية ممقوتة”، إلا أنه يفسِّر الحديث تفسيراً إثنيَّاً، مع أنه “واضح في حث المؤمنين على تخيُّر الزَّوجة من منبت صالح بمفهوم أخلاقي وديني وليس إثنيَّاً بحال” (الصَّادق المهدى؛ “تباين الهُويَّات في السُّودان: صراعٌ أم تكاملٌ”، ورقة فى ندوة مركز دراسات المرأة بقاعة الشَّارقة بالخرطوم 23/3/2004م). يفعل «الجَّلابى» ذلك كله دون أن يشغل نفسه، ولو للحظة، بالسُّؤال عمَّن تراه يكون «خاله»، أو عن أصل جدَّته الأولى يوم تزوج بها، قبل مئات السَّنوات، عربىٌّ مسلم وفد إلى هذه الأنحاء، عبر البحر، أو النَّهر، أو الصَّحراء! ولا عجب، فتلك سيرة لا يحبها، ولذا فإنه يدعها ترسب فى قاع اللاوعي، علَّها تذوي فى صمتٍ .. علها!
د/ وبتكريس هذا كله استعلاءً جهيراً في حمولة الوعي الاجتماعي من «حِكَم»، و«أمثال»، و«تعابير» لغويَّة شعبيَّة «تشكِّل حاجزاً نفسيَّاً بين أهل السُّودان .. أمثال: جِنِس عَبِدْ منُّو الخير جَبِدْ ـــ عَبْدَاً تَكُفْتُو بلا غبينة ـــ سجم الحلة الدليلها عجمي وفصيحها رطَّان ـ الهَمَلة السَّوَّت العَبِد فكي .. الخ» (الصَّادق المهدي؛ «المصالحة وبناء الثِّقة في السُّودان»، ورقة في ندوة «السَّلام بين الشرَّاكة والمشاركة»، قاعة الشَّارقة 6 ـ 7 مارس 2004م).
ويفضِّل بعض الباحثين تسمية تيَّار الاستعلاء السُّلطوي هذا بالتَّيار «التَّفكيكي»، فى مقابل تيَّار آخر «توحيدي»، نسميه «العقلاني» ، وسط نخب الجَّماعة المستعربة المسلمة السَّائدة. وإلى ذلك يلاحظون أيضاً، وبحق ، تلازم التَّيارين في مستوى تعبيرات «نخب الهامش» نفسها، سياسيَّاً وثقافيَّاً. ويشدِّد د. أسامة عبد الرحمن النور على أن هذه التَّسميات لا تعبِّر عن واقع «شعبىٍّ» فِعلىٍّ بقدر ما تعبِّر عن واقع «نُخبوىٍّ» فكرىٍّ يُظهر قدراً مما يُعرف فى الأنثروبولوجيا بمصطلح «الاثنيَّة المركزيَّة» ** التى تعكس نزعة الاحتقار، وسوء التَّقدير، داخل ثقافةٍ ما تجاه الثَّقافات الأخرى (موقع “ARKAMANI” على الشَّبكة العالميَّة). ومع تحفُّظنا، عموماً ،على استخدام علم الاجتماع البرجوازي لمصطلح «النُّخبة ـ elete» بدلالة الاعلاء من شأن «الصَّفوة المتميِّزة» على «العامَّة»، ونسبة الفضل في تحريك التَّاريخ للكتلة الأولى، إلا أننا نستطيع أن نلمح بيُسر أن استخدامه هنا يقتصر على الاشارة لمسؤوليَّة الفئات والشَّرائح المزوَّدة بمستويات عليا من المعرفة المتخصِّصة عن إزكاء نزعة الاستعلاء من موقع انحيازها إلى الطبقات الاجتماعيَّة ذات المصلحة فى شيوعها واتخاذها طابعاً شعبيَّاً، وإن كان زائفاً. ولذلك نتَّفق مع الباحث فى أن هذه النَّزعة، وإن كانت معروفة فى كلِّ الثقافات، إلا أنها، بفعل توجُّهات «النُّخبة» السَّائدة، حالياً، في السُّودان، أصبحت تتهدَّد، أكثر من أىِّ وقت مضى، قضيَّة الوحدة بخطر حقيقىٍّ داهم، مِمَّا يستوجب تأسيس الموقف التَّفاوضىِّ لـ «عقلانيِّى/توحيديِّى» الجَّماعة المستعربة المسلمة على نزع الأقنعة عن كلِّ المُغطى، وتعرية المسكوت عنه في تاريخنا الاثني، باعتبار ذلك هو المخرج الوحيد الصَّائب من مأزقنا الوطنىِّ الرَّاهن ، “فما يفرِّق السُّودانيين هو ما لا يُقال” (فرانسيس دينق؛ ضمن المصدر)، الأمر الذي يلقي على عاتق حركتنا الفكريَّة والثَّقافيَّة بمهمة العمل على إزالة “التَّناقض الداخلي” الذي “هو مبعث حيرة أهل الجَّنوب والشَّمال، أغلبهم، حول ماهيَّتهم” (منصور خالد؛ ضمن المصدر) ، كما ويلزمنا، بإزاء التَّحديات المستقبليَّة، «أن نعترف، نحن العرب المسلمين»، وصواب القصد «المستعربين المسلمين»، في رأينا المتواضع، «بأن ثقافتنا مارست استعلاءً ثقافيَّاً على الآخرين (لأن) الاستعلاء الثَّقافى في أوحش صوره بضاعة غربيَّة، وقد مارسته كلُّ الثَّقافات المركزيَّة فى عالم الأمس، ولكن الانسانيَّة أدركت مضارَّه، وبدأ مشوار الاستقامة والعدالة” (الصَّادق المهدي، “المصالحة وبناء الثَّقة ..” ، 2004م). بل وينبغي، وفق عبد الله علي ابراهيم، تجاوز محض الاعتراف إلى “النَّفاذ القوي برقائق الرُّوح، وسهر الثَّقافة، إلى خبايا الاستضعاف المؤسَّسي، الاجتماعي والتَّاريخي، لأقوام الهامش السُّوداني .. «كيلا نصبح عبئاً على حركة المستضعفين لا إضافة لها، فبغير (ذلك) .. لا ينفذ الشَّمالى المدجج بامتيازاته التَّاريخيَّة إلى مشاهدة قبح نفسه في مرايا تلك الامتيازات الظالمة» (الصَّحافة، 17/5/2004م).
غير أن ما يقلقنا بوجه خاص، برغم كلِّ هذه النِّداءات وغيرها، هو تقاصر الطَّاقات السِّياسية للتَّيَّار «العقلاني/التَّوحيدي» وسط الجَّماعة المستعربة المسلمة حتى الآن، بهشاشته التَّاريخيَّة الغالبة، وبمختلف «النُّخب» التي تمثله، عن النُّهوض بمهامه في منازلة تيَّارها الآخر «السُّلطوي/الاستعلائي/التَّفكيكي»، بمستوى من الاقتدار المطلوب لتبرئة ذمَّة التَّيَّار الأوَّل من القسط من المسؤوليَّة الذي يتحمَّله حتَّى الآن:

أ/ على صعيد مظالم «الهامش» التى زلزلت زلزالها، وأخرجت أثقالها، وولدت كلَّ هذا البغض للجَّماعة المستعربة المسلمة، ورموزيَّاتها الهُويويَّة، الثَّقافيَّة واللغويَّة، لدرجة أن تياراً «استعلائيَّاً/تفكيكيَّاً» مضاداً أصبح لا يعدم التَّعبير عن نفسه، الآن، وسط حركة «الهامش» الاحتجاجيَّة، مِمَّا أضحى يتهدَّد مشروع الوحدة الوطنيَّة جدِّيَّاً، هذه المرَّة، بالفناء والعدم!
ب/ وعلى صعيد مظالم الجَّماعة المستعربة المسلمة نفسها، جرَّاء سماحها لتيَّارها «السُّلطوي/التَّفكيكي» بأن ينفرد، تحت سمعها وبصرها، بادِّعاء أن «تعريب وأسلمة» الآخرين هو رسالتها التَّاريخيَّة المقدَّسة، بكلِّ ما يحمله مضمون هذه العمليَّة من معانى القسر، والقهر، والجَّبر، مِمَّا يُفترض أن يُثقل ضمائر مفكري ومثقفي التيَّار «العقلانى/التَّوحيدي»، بمختلف أجيالهم، ويجعلهم يطأطئون رؤوسهم خجلاً مِمَا كانوا يحسبونه جهداً مرموقاً يبذلونه، ووقتاً ثميناً يصرفونه، في إنتاج ونشر الوعي بقضايا «الهُويَّة ، والدِّيموقراطيَّة، والوحدة في التنوُّع، وحقوق الأقليَّات فى التَّميُّز الثَّقافى»، فإذا بالنَّاتج قبض الريح، بل خراباً مأساويَّاً كاملاً!

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.