السودان، هل حان وقت تدويل قضايا الحقوق المدنية؟

✍️ بروف: خالد كودي

 

منذ منتصف القرن العشرين، كانت الولايات المتحدة مسرحًا لحركة حقوق مدنية قوية تهدف إلى إنهاء التمييز العنصري وضمان المساواة للامركان الافارقة. كانت هذه الحركة بقيادة شخصيات بارزة منهم مارتن لوثر كينغ جونيور ومالكولم إكس، الذي لعب دورًا حاسمًا في تدويل قضية الحقوق المدنية. مالكولم إكس، بخطبه النارية ونشاطه السياسي، بعد أن ضاق ذرعًا من تعنت الأمركان البيض وإصرارهم على العنصرية، سعى لجعل الحقوق المدنية للأمريكان الأفارقة قضية حقوق إنسان عالمية. إصرار المواطنين البيض على أنظمة تفضيلية مثل (جيم كرو) تم تكريسها بسبب تاريخ طويل من العبودية والاضطهاد، تتيح للمواطنين من أصل أوروبي امتيازات لم يشاؤوا التخلي عنها. وهذا الوضع مشابه للسياق الحالي والحديث في السودان، في مواجهة تعنت النخب السياسية في قبول العلمانية التي تضمن الحقوق المتساوية في المواطنة بين السودانيين، غض النظر عن اعتقاداتهم أو أي اختلافات أخرى.
وُلد مالكولم إكس في 19 مايو 1925، وكانت حياته مليئة بالتحديات في بيئة مضطربة تغمرها العنصرية والتمييز. في بداية حياته، انضم إلى “أمة الإسلام” وبرز كخطيب اساسي في صفوفها، لكنه في عام 1964 انفصل عنها بسبب الخلافات الداخلية. بعدها، اعتنق رؤية أكثر شمولية للإسلام، وأسس منظمة الوحدة الأفريقية الأمريكية بهدف تحقيق الوحدة بين الأفارقة الأمريكيين ودفع جهودهم نحو تحقيق العدالة والحقوق المدنية.
بعد تجربته مع الحج وزياراته للعديد من الدول الإفريقية، أدرك مالكولم إكس أهمية الدور الدولي في تحقيق أهداف حركة الحقوق المدنية التي تسعى للمساواة والعدالة والحرية. جمع مالكولم الأدلة والشهادات حول انتهاكات حقوق الإنسان التي يتعرض لها الأمريكان الأفارقة، وسعى إلى كسب دعم الدول الأفريقية والآسيوية والأمريكية اللاتينية في الأمم المتحدة، ونجح في هذا. في عام 1964، قدم مالكولم إكس قضية حقوق الإنسان الأمريكية إلى الأمم المتحدة، مدعيًا أن الولايات المتحدة انتهكت حقوق الإنسان الأساسية للأفارقة الأمريكيين. هدفه كان تحويل حركة الحقوق المدنية في أمريكا إلى قضية حقوق إنسان دولية شاملة، لتحقيق دعم دولي وضغط أكبر على الحكومة الأمريكية لاصدار القوانين وتبني البرامج التي تقاوم التمييز والعنصرية.
تجربة مالكولم إكس تقدم دروسًا هامة للحركات التحررية في العالم وفي سياقنا السوداني. وتحديدًا في مواجهة تعنت النخب السياسية في قبول العلمانية والحقوق المتساوية. إن الرفض المستمر للاعتراف بالعلمانية كنظام حكم يعني استمرار الرفض للحقوق المتساوية للمواطنين بغض النظر عن دياناتهم أو خلفياتهم العرقية، ويجب تدويل هذا الأمر واستخدام كل السبل والاليات المتاحة للضغط على من يرفضون العلمانية في السودان وهذا لانهم يرفضوا المواطنة المتساوية لمن يختلف عنهم في دينه او ثقافته او اثنيته.
العلمانية، كمفهوم سياسي وفلسفي، تعني فصل الدين عن الدولة، وهذا من أجل تحقيق مجتمع متمدين يكون مبنياً على أسس متساوية لجميع المواطنين في كل الحقوق والواجبات دون أي تمييز على أساس الدين. يهدف هذا المبدأ إلى إقامة نظام يحترم حرية المعتقد والعقيدة للجميع، ويضمن العدالة والمساواة في الفرص والحقوق لكل المواطنين.
في السودان، تواجه العلمانية تحديات كبيرة نتيجة لمعارضة وارتباك الأحزاب الشمالية والإسلامية لهذا المبدأ الأساسي في تشكيل الدولة الحديثة، حيث تقف الأحزاب الشمالية اثنياً ضد فكرة العلمانية، و حيث يسعى بعضها لتسويفها، شيطنتها وفي افضل الاحوال تجاهلها، كما تفعل تكوينات تقدم في الوقت الحالي، وفي نفس الوقت لايزال البعض يحلم جهرا بفرض الشريعة الإسلامية كمرجعية دستورية. من المهم ادراك ان هذه المواقف ستؤدي إلى تفاقم التمييز والعنصرية وعدم المساواة في المجتمع والي كوارث حتمية.
من الأمثلة البارزة على ذلك، خلال الفترة من الاستقلال حتى اندلاع الحرب الحالية في السودان، كانت هناك محاولات متواصلة من الأحزاب الشمالية الإسلامية لفرض الشريعة الإسلامية كمرجعية دستورية. هذه المحاولات أدت إلى تهميش غير المسلمين والأقليات الدينية والعرقية، وفي النهاية، أدت إلى انفصال جنوب السودان. هذه الوضعية تعكس التحديات التي يواجهها مفهوم العلمانية في السودان، والتي تؤثر بشكل كبير على استقرار البلاد وتنميتها. إن فشل الأحزاب السياسية في قبول وتطبيق مبادئ العلمانية/فصل الدين عن الدولة يعني استمرار تفاقم التمييز والعنصرية، مما يعرض السودان لمزيد من التحديات السياسية والاجتماعية.
الوقت قد حان الآن للحركات التحررية العلمانية في السودان باللجوء إلى المنابر الدولية لجلب الانتباه إلى قضايا التمييز والعنصرية واللامبالاة التي تواجهها المجتمعات المهمشة، ولكسب دعم المجتمع الدولي لدعم حركة الحقوق المدنية التي تسعى لتحقيق المواطنة المتساوية بين جميع السودانيين. يمكن للضغط الدولي أن يلعب دورًا حاسمًا في التصدي لتعنت النخب الشمالية، سواء كانت هذه النخب تسيطر على السلطة والثروة في الحكم السائد، أو تعارض الحكم الحالي سواء كان ذلك في سياق مدني أو عسكري.
وكما قام مالكولم إكس، يمكن تقديم قضايا انتهاكات الحقوق المدنية والدينية إلى منظمات حقوق الإنسان والأمم المتحدة، بهدف فرض ضغوط أكبر على الحكومات والأحزاب والمنظمات الشمالية، بغض النظر عن مواقفهم تجاه الحكومة الحالية، او ادعاءاتهم بتبني الديمقراطية (ديمقراطية صممت علي مقاسهم). إن هذه الضغوط الدولية يمكن أن تسهم بشكل فعال في التصدي للتراتيبيات الاجتماعية والسياسية التمييزية، التي تميل إلى التفضيل بين المواطنين بناءً على دياناتهم وثقافاتهم وأصولهم الاثنية.
في تاريخ السودان، يظهر التعنت بشكل واضح في العديد من المواقف. منذ استقلال البلاد في عام 1956، شهدنا جهودًا متكررة لفرض الهوية الإسلامية والعربية على المجتمع بأكمله، مما أدى إلى اندلاع الحروب الأهلية الأولى (1955-1972) والثانية (1983-2005). خلال هذه الفترات، عارضت الحكومات الشمالية بشدة أي مساعي نحو اعتماد العلمانية، مما تسبب في تهميش واستبعاد الأقليات غير المسلمة في الجنوب سابقا وجبال النوبة والنيل الأزرق عن السلطة والثروة الي يومنا هذا، بل تجاهلت وقمعت تلك المجتمعات، وحتى شنت الحروب ضدهم بامكانات الدولة، نتيجة لمطالبتهم بالحقوق المتساوية. وهذا كله وسط تماهي او صت النخب او لامبالاتهم.
في سياق السودان، يشهد الصراع الدائم بين الحركات العلمانية وتعنت النخب السياسية تجاه قبول العلمانية والحقوق المتساوية. بالرغم من أن الحركات التحررية في السودان تسعى جاهدة لتحقيق التغيير في اطار السودان الموحد، إلا أنها واجهت جدار التعنت والمقاومة من النخب السياسية. لذا، فإن اللجوء إلى المجتمع الدولي، بما في ذلك الأمم المتحدة والمنظمات الدولية والحقوقية الأخرى، يعد ضروريًا للضغط على الحكومات والأحزاب لقبول مفاهيم العلمانية وتحقيق العدالة والمساواة.
وبناءً على تعنت هذه النخب، فإن الحركات العلمانية في السودان قد لاتجد امامها سوي خيارات الاتجاه نحو المطالبة بتفعيل حق تقرير المصير أو تبني نظام الحكم الكنفدرالي للحفاظ علي كرامة وإنسانية وحقوق المجتمعات السودانية المهمشة. تفعيل حق تقرير المصير يعني منح الشعوب السودانية الحرية في تقرير مصيرها، بما في ذلك إمكانية الانفصال و تقسيم البلاد إذا مافضلت الشعوب هذا عوضا عن الاستمرار كمواطنين من الدرجة الثانية في وطنهم. أما تبني نظام الحكم الكنفدرالي، فيعني تقسيم السلطة بين الحكومة المركزية والحكومات المحلية، مما يمنح الاقاليم المختلفة في السودان الحكم الذاتي الكامل، ليسنوا القوانين التي تضمن الكاملة وليسيطروا علي موارد اقاليمهم… الخ…
دراسة تجربة مالكولم إكس وتدويل قضية الحقوق المدنية توضح لنا أهمية استخدام الضغط الدولي وجلب الانتباه العالمي لقضايا المواطنة المتساوية و حقوق الإنسان. يمكن أن تكون الأدلة التاريخية والشهادات أدوات قوية في مواجهة التحديات وتحقيق العدالة والمساواة لجميع المواطنين.
في الختام، يجب علينا أن نتذكر دائمًا قول مالكولم إكس: (العدالة هي شيء يجب أن نسعى إليه جميعًا، بغض النظر عن الدين أو العرق، لأنها حق إنساني أساسي)
خالد كودي
بوسطن ٤/٦/٢٠٢٤

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.