الروائي إبراهيم إسحاق خسر العالمية لكنه ربح السودان الذي أحبّ

 

واسيني الأعرج

بشكل فجائي وفجائعي، غادرنا الروائي إبراهيم إسحاق قبل أيام دون تلويحة وداع أو قبلة عابرة كتلك التي كثيراً ما نبعث بها للأصدقاء من بعيد. خرج ولم يعد، إلا أصداء خبر. هل مآل كل كاتب عظيم المنافي القاسية؟ عاش في السودان مرتبطاً بشعبه وحكاياته وأساطيره التي سخر حياته كلها لتفكيكها وإدراجها ضمن مخيال الكتابة. وفي النهاية، وبصدفة الأقدار والمرض، توفي في أمريكا، في هيوستن، دُفِن هناك، لأن ابنته شاءت ذلك؟ وهل إبراهيم ملكية عائلية، أم ملكية حضارية وثقافية لبلد عظيم كالسودان؟ ماذا كان سيحدث لو دفن الطيب صالح العلامة السودانية الثقافية الكبيرة، في بريطانيا، استجابة لما شاءته العائلة؟ حالة تذكر بمأساوية الأقدار التي يصنعها الأفراد أولاً قبل أن تبلورها الصدف الحياتية.

لا يوجد أقسى من موت المنافي المبكرة. هل غلا على السودان أن ينقل جثمان إبراهيم إلى أرضه الطيبة التي سخر لها كل حياته الأدبية والثقافية؟ لقد نعته كل الهيئات الثقافية والحكومية أيضاً، بما في ذلك رئيس الوزراء، عبد الله حمدوك، في بيان مهم وزع إعلامياً، ووصف إبراهيم بالروائي «الذي لامست كتاباته الوجدان السوداني بلغة غلبت عليها الفرادة والخصوصية، وأثرى المكتبة السودانية بالعديد من الكتب والمؤلفات والمقالات والدراسات في مجال النقد الأدبي والتراث» فلماذا إذن ترك ينام في عزلة لا تشبهه؟ هو سافر لهيوستن للعلاج وإجراء عملية جراحية لم تكلل بالنجاح، وهذا مفهوم، لكن إعادة جثمانه الرمزية إلى أرضه الطيبة، لها أكثر من دلالة. 75 سنة من العمل الثقافي تنتمي للسودان ولتربته وثقافته وحضارته وآلامه، ولتاريخه أيضاً.

المأساة الثانية، مأساة عربية بامتياز، هي ذهاب هؤلاء العظام ثقافياً لأنهم رسخوا شيئاً من تراب قراهم، وطينها وحجرها لم يكن موجوداً قبلهم، وخرجوا من هذه الدنيا دون أن نتفطن لانسحابهم الصامت، لأننا نظن دوماً أن من نحبهم معصومون من الموت. يذهبون هكذا دون أن نتمكن من كتابة سيرهم التي تثبت للقارئ أن الحياة جميلة وتستحق أن نقاوم المصاعب من أجلها. فقد صنعوا من الريح لغة، ومن الغبار رحلة، ومن الخوف كتابة. غادرنا نجيب محفوظ دون أن نقرأ له سيرة تفصيلية ترسم مساراً ثقافياً وحياتياً مميزاً للكاتب، ومن الكاتب نفسه. ذهب الطاهر وطار دون أن يترك سيرته الخاصة، ومساره الثقافي، باستثناء كتابه: أراه الذي لم يكن أكثر من مقالة في السياسة. مات حنا مينة ولم نعرف جوهر المأساة الدافعة للكتابة إلا ما سجله من شذرات في الكثير من كتبه، لكنه لا يصنع سيرة حقيقية وذاكرة جمعية. هل نخاف من نداءات الذات التي تألمت كثيراً قبل أن تستقر؟

كان إبراهيم إسحاق، الروائي والقاص والباحث السوداني طفلاً نبيلاً، وفياً لأحجار قريته ودعة، ولأحلام الناس التي لا تنتهي. رفض أن يكبر بسهولة، في غضبه وحبه لكل ما يحيط به. تعرفت عليه في نهايات السبعينيات من خلال روايته الأولى: «حدث في القرية» قبل أن التقي به في الخرطوم، وأكتشف شخصية مغرقة في البساطة والجمال. حتى أنه عندما سلمني مجموع رواياته وقصصه ودراساته، خجلت من أني لم أقرأ له إلا روايته الأولى: «حدث في القرية» بينما حدثني هو عن «البيت الأندلسي» التي طبعت في السودان، و»شرفات بحر الشمال» و»طوق الياسمين» وغيرها. وساقنا الحديث عن روايتي «نوار اللوز» التي اعتمدت تيمة الرحلة الهلالية، إلى الغوص في الأثر الهلالي في السودان وكان من أجمل ما سمعت، وهو ما لا نعرفه للأسف، إذ لا تتخطى معارفنا حول الرحلة لحظة شح الأرض في بلاد نجد، والانطلاق في تغريبة قاسية باتجاه بلدان المغرب الكبير.

ولد إبراهيم إسحاق عام 1946 في قرية ودعة، حيث تلقى فيها تعليمه الابتدائي والثانوي، وتخرّج من معهد المعلمين العالي في العام 1969 (كلية التربية جامعة الخرطوم) ومعهد الدراسات الإفريقية والآسيوية في جامعة الخرطوم في العام 1984. أدرك في وقت مبكر أنه لا بديل إلّا العلم والترسخ في جذور وطن ينتظر من يكتبه في صرخاته الأولى، لهذا كان رهانه على الثقافة الشعبية وتطويعها كبيراً ومهماً. فلا رواية ولا قصة دون استنطاق هذه الجذور التي كثيراً ما تبدو صامتة. ثم عمل في مدينة أم درمان التي قضى بها شطراً من حياته أستاذاً ومعلماً للغة الإنكليزية في مدارسها الثانوية ومعاهدها التعليمية، قبل أن يسافر إلى المملكة العربية السعودية في مطلع عام 1982 ويستقر في مدينة الرياض لعدة سنوات، قبل أن يعود في 2006 إلى السودان ويستقر به نهائياً. قيمته الثقافية جعلته يتقلد مناصب تشريفية عدة، منها رئيس اتحاد الكتاب السودانيين عام 2009 وعضوية مجلس تطوير وترقية اللغات القومية في السودان، وغيرها من المناصب التي شرفها وجوده. لكن شخصية الروائي ظلت هي الأعلى دوماً. واحد من أهم الروائيين السودانيين، خاصيته الكبيرة هي كونه يبني نصوصه على حداثة لغوية فرضتها تحولات السودان الثقافية، وعلى الحكاية الشعبية التي جذّرت نصوصه وأعطتها بعداً ثقافياً مميزاً وخصوصية. فهو حكاء شعبي ماهر، منذ المدرسة. البيئة التي انحدر منها إبراهيم إسحاق، شكلت موضوعة جوهرية في كتابة معظم أعماله الروائية والقصصية، بما في ذلك تجربته الشعرية القصيرة التي لا يعتبرها مهمة في مشروعه الأدبي. استخدام اللهجة العامية في كتاباته ليس تنميقياً، ولكنه جزء من العملية الإبداعية ومن البنية النصية التي اختارها الروائي ليجعل من السودان البسيط وغير المرئي بالنسبة للنخبة المنفصلة عن تاريخها سوداناً حياً بيومياته ولغته. لكن لهذه الخيارات خسارات كبيرة أيضاً، لأن العامية تغلق على النص في مساحاته الثقافية والمحلية، وربما كان هذا الثمن الذي قبل إبراهيم إسحاق دفعه بوعي، مقابل ربح رهانه الشعبي. فقد نشر روايته الأولى: «حدث في القرية» أول مرة في 1969، واستقبلت بحفاوة في السودان، وهي السنة نفسها التي نشر فيها الطيب صالح نصه المرجعي الكبير: «موسم الهجرة إلى الشمال» الذي حقق عالمية غير مسبوقة. ونعتقد أن الاستعمال الكبير للعامية السودانية قلل من انتشارها، إذ لم تنل حقها الذي تستحقه عربياً على الأقل. ولكن السؤال الكبير: هل كان إبراهيم إسحاق في تواضعه الصوفي وحبه للجذور الثقافية السودانية المتعددة معنياً بالشهرة والعالمية؟ لا أعتقد. فقد خسرها ربما، لكنه ربح السودان الذي أحبّ.

نقلاً عن القدس العربي

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.