الدَّولة السُّودانية وتحيُّزها لحقل الثقافة (العربية – الإسلامية) – (3).

عادل شالوكا

 

أزمة الهوية في السُّودان: تجلِّيات الإستلاب الثقافي وتشوُّه الوجدان، قصيدة (أرضنا الطيبة) – نموذجاً

توطئة:
تُمثِّل قضايا الهوية في السُّودان إحدى العوامل الرئيسية لتفسير طبيعة الأزمة السُّودانية منذ عهود بعيدة والتي تحوَّلت لاحقاً إلى صراع دموي وكفاح مُسلَّح منذ العام 1955. وقد كتبنا كثيراً في مسألة الهوية، ويُمكن الرجوع كذلك للعديد من الكُتب والمقالات في هذا الشأن للدكتور/ الباقر عفيف، الدكتور/ محمد جلال أحمد هاشم، وأبكر آدم إسماعيل وغيرهم ممن نحتوا عميقاً في هذا الشأن.

بحثنا كثيراً – في وقت سابق – لمعرفة الروافد الرئيسية التي شكَّلت ولا زالت تُشكِّل الوجدان السُّوداني بتشوُّهاتِه – وهنا نُذكِّر الجميع بإن (الحُجَّاج) السُّودانيين في هذا العام تم تصنيفهم بواسطة سُلطات المملكة العربية السعودية كأفارقة (زنوج) بدلاً عن تصنيفهم كـ(أشِقَّاء عرب) حسب المألوف دوماً. وربما قرَّر العرب ترك الإعتبارات السِّياسية ومُعاملة السُّودانيين حسب تصنيفهم الطبيعي كأفارقة (زنوج) بعد التحوُّلات الحالية وتنامي الوعي السِّياسي والمد الثوري لدى السُّودانيين وإدراك (العرب) بإستحالة تنفيذ أجندتهم (التوسُّعية) على حساب مُكوِّنات الشعوب السُّودانية الأخرَى. وقد تصاعَدت أصوات بعض شباب ثورة ديسمبر المجيدة مُنادية بإنسحاب السُّودان من جامعة الدُّول العربية. عموماً هذه قضية سنعود إليها لاحقاً.

سنحاول مُراجعة عوامل ومُرتكزات تشكيل الهويَّة والوجدان السُّوداني ومظاهر الإستلاب الثقافي عبر كافة الوسائل والأدوات. ونبدأ من خلال هذا المقال بقصيدة الشاعر (حسين بازرعة) بعنوان: (أرضنا الطيبة) والتي تغنَّى بها صديقه الفنان (عثمان حسين). وهي مُصنَّفة في السُّودان بإعتبارها من (روائع الشعر والغناء) – وهي من القصائد والأغاني التي شكَّلت وجدان السُّودانيين بفعل السُلطة عبر أجهزة ووسائل الإعلام الرَّسمية (الإذاعة والتلفزيون) التي تُردِّدُها في المناسبات (الوطنية) الهامَّة. وأجهزة الإعلام هي أهم أدوات ووسائل إعادة الإنتاج والتَّهميش والإقصاء الثقافي وفرض الآيديولوجيا الرَّسمية للدَّولة (الإسلاموعروبية) وبالتالي الحفاظ على الإمتيازات التاريخية (السلطة والثروة). فعملية توليد السلطة ترتبط إرتباطاً وثيقاً بـ(الثقافة) بحيث لا يمكن فهم (الثقافة) إلا بوصفها الفضاء الذي تتولَّد فيه السُّلطة ويتم فيها تداولها. هذا بحسب تعريف إدوارد تايلور للثقافة بإعتبارها:

(الكل المُركَّب الذي يشمل المعرفة، العادات والتقاليد، المُعتقدات، الأخلاق، اللغة، الفنون، القانون .. وكل ما يكتسبه الإنسان بوصفه عضواً في المجتمع).

وستكون لنا سلسلة من المقالات لمُراجعة القصائد والأغاني المُسماة بالـ(وطنية)، والتي يتم ترديدها بواسطة السُّودانيين دون معرفة كُنهها ومغزاها، بالإضافة إلى قضايا أخرَى في هذا الشأن.

قصيدة: أرضنا الطيبة:

وللتعليق على هذه القصيدة – نورِد نص القصيدة التي إتخذتها القوات المُسلَّحة السُّودانية كواحدة من أهم (أدبياتها الوطنية) في الدِّفاع عن (الأرض والوطن) وقد تم نشرها في المجلة الرَّسمية للقوات البرية. وهي تُشكِّل كذلك إحدى روافد (العقيدة القتالية) المُشوَّهة للجيش السُّوداني والتي نعمل على تغييرها لصالح (عقيدة قتالية) تُعبِّر عن جميع السُّودانيين وتطلُّعاتِهم في دولة موحَّدة تسعهم جميعاً.

وقد جاء النص على النحو التالي:

أرضنا الطيبة
كلمات الشاعر/ حسين بازرعة.

نفديك بالروح يا موطني
فأنت دمي وكل ما أقتني
تراث الكرام ومجد العرب
وسفر كفاح روته الحقب
نسمت شذاها وطيب ثراها
وذوب هواها جرَى في دمي
نعزز في السير من مقدمي
وأرض هنا وأرض هنا
بناء جدودي ومأوى أبي
وتاريخ شعب كريم أبي
فيا إخوتي لنمشي إلى النور في ثورة
نحطم قيد الليالي العتي
فنحن الفداء – جنود الردَى
نعيش عليها ونفني لها
ونحمي حماها ومشعلها
بلادي أنا ..
نفديك بالروح يا موطني
فأنت دمي وكل ما أقتني.

قبل تناول نص القصيدة – فإن الشاعر (حسين بازرعة) هو أحد الشعراء السُّودانيين وينحدر بأصوله إلى (حضرموت) وهو من مواليد (سنكات) بشرق السُّودان – ويُمكن مُقارنة أصولِه بما كتبه في هذه القصيدة – فهذه واحدة من تجلِّيات الإستلاب الفكري والثقافي في السُّودان وهي إحدى عوامل تشكيل الوجدان السُّوداني المُشوَّه والهوية الإقصائية في البلاد. و(بازرعة) يتماهَى مع الهوية (العربية) كغيره من شعراء السُّودان – بعضهم شاركوا في مُسابقات للشُعراء (العرب) !! مثلما شارك المُنتخب السُّوداني لكرة القدم من قبل في بطولة (عربية) أُقيمت بالمملكة العربية السعودية وكانت النتيجة أن تم رشقهم داخل الملعب بـ(قشر الموز) في الإشارة العنصرية المعروفة (علاقة الموز بالقرود – وعلاقة القرود بالزنوج) حسب النظريات العُنصرية.

أولاً: تبدأ القصيدة بالتأكيد على الفداء بالروح للموطن (السُّودان) بإعتبار إن هذا الموطن هو (الدم وكل ما يقتنيه الشاعر) ومن المُفترض أن يكون معه جميع السُّودانيين – ولكن جوهر المُشكلة في هذه القصيدة تكمُن في البيت الثالث: (تُراث الكرام ومجد العرب) – فقد قام (بازرعة) بإختزال كل معاني الفداء والتضحية بالدم والروح وتسخيرها للدفاع عن مجد وتُراث (العرب) الذين وصفهم بالكرام. وصِفَة “كرام القوم” في الكثير من الكتابات والأشعار والأدبيات السُّودانية يتم بها وصف المجموعات التي تعتبر نفسها من الـ(الأعراب) دون غيرهم من بقية المُكوِّنات الإثنية والثقافية الأخرَى. وفي البيت الرابع يتحدَّث الشاعر عن سفر كفاح طويل روته الحقب التاريخية المُختلفة.

وحسب ما جاء في البيت الثالث فإن الكفاح هنا هو كفاح (العرب) في طريقهم الطويل نحو الوصول إلى غاياتهم وهي بالطبع السيطرة وبسط نفوذهم في مُختلف بقاع الأرض وفرض هويتهم الثقافية – بما في ذلك السُّودان – وبالتَّالي تمكينهم في السُلطة والثروة، ثم في البيت الثامن والتاسع يصف أرض السُّودان بـ(أرض هنا وأرض هنا – بناء جدودي ومأوَى أبي). والمقصود بالجدود الذين وجدوا مأواهم في السُّودان هم العرب (جدودنا زمان وصونا على الوطن) الذين دخلوا السُّودان في أزمان غابرة وإستوطنوا فيه وتحكَّموا في كل شيء لعوامل تاريخية كثيرة – هذا الوطن الذي تم تقسيمه بواسطة أحفاد هؤلاء الجدود. ويُكرِّر في البيت العاشر وصف هؤلاء الجدود بالشعب الكريم (تاريخ شعب كريم أبي) وهنا نرَى الشبه الكبير بين هذا البيت وخطاب (سليمان كِشَّة) الشهير مُخاطباً السُّودانيين بـ”شعب عربي كريم” والذي تصدَّى له (علي عبد اللطيف) مُطالباً أياه بمُخاطبة السُّودانيين بإعتبارهم “شعب سوداني كريم” وليس “عربي كريم” – وهما الإثنان يُمثِّلان قادة (حركة اللواء الأبيض) – وهذا كان سجالاً فكرياً وسياسياً خطيراً مع تنامي الوعي والنضال للتحرُّر من نير الإستعمار والتوجُّه لبناء الأمة السُّودانية.

ويواصل الشاعر قصيدته بالدعوة إلى المضيء قُدماً إلى النور في ثورة يتم من خلالها تحطيم قيود الليالي بإعتبارهم (جنود الردَى – أي الموت) في سبيل الوطن الذي يعيشون عليه ويفنون من أجله ويحمون حماهِ – ويصف السُّودان في خواتيم القصيدة بـ(بلادي أنا). وإذا كان الشاعر يعتبر السُّودان (بلادِه) فما كتبه في قصيدته يتناقض مع حقائق الواقع في (بلادِه). وجنود الموت هنا (جنود الردَى) يحمل معنىً آخر وهو (إنهم من يجلبون الموت للمواطنين) وهذا ينطبق تماماً على الجيش السُّوداني الذي يقتل مواطنيه برغم إن مهامِه الرئيسية هي حمايتهم والدفاع عنهم، بالإضافة إلى حماية الدستور وحدود البلاد.

هذه القصيدة تُعبِّر بوضوح عن أزماتنا الموغَلة في الإستلاب الثقافي والفكري والسِّياسي والتماهي مع الثقافة العربية في السُّودان مما أدَّى إلى تشكيل وجدان زائف ظل لعهود طويلة مؤثراً في الكثير من السُّودانيين قبل أن يدركوا مقاصد ومغزَى مثل هذه الأناشيد والقصائد والأغاني التي تسمَّى بـ(الوطنية). وفي السُّودان مفهوم (الوطنية) هو مفهوم حصري على كيانات إجتماعية وسياسية مُحدَّدة بعد أن تحكَّموا في معاييرها لتنفيذ أجندتهم الإقصائية. والخطير في الأمر هذه القصيدة منشورة في المجلة الرسمية للقوات البرية التابعة للقوات المُسلحة السُّودانية المفترض إنها (قوات الشعب المُسلحة) – وهنا يأتي السؤال .. من هو هذا “الشعب” ؟ والإجابة بالطبع هي : إنه الشعب “العربي الكريم” حسب مفهوم (سليمان كِشَّة) للهوية السُّودانية. وهذا يُفسِّر جل الحروب التي دارت في السُّودان وكيفية تعاطي الجيش السُّوداني معها ودوره فيها وتصرُّفاتِه تجاه الشعوب الأخرى خارج حقل الثقافة العربية حيث كانت مناطقهم مسرحاً للإبادة الإثنية وكافة أشكال الجرائم الأخرَى لأنهم ليسوا جزءاً من (تُراث الكرام ومجد العرب).

نواصل.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.