
الدم بلون الجغرافيا: كيف تُعيد الدولة السودانية تعريف الخيانة وفق السحنة واللهجة والموقع؟ المدنيون تحت سلطة الطرف الآخر: حين يصبح البقاء في الزمان/المكان تهمة!
18/4/2025 خالد كودي، بوسطن
عندما لا يتساوى الناس حتى في العقاب: الانتقائية الإثنية كمرآة للتمييز الأخلاقي
في الحروب الأهلية، لا يقتصر العنف على ساحات القتال، بل يتسلّل بصمت وقسوة إلى البيوت الاحياء والأسواق والمدارس، ويتخذ من تفاصيل الحياة اليومية للمدنيين ذرائع للعقاب الجماعي. وفي السياق السوداني، يتجلّى هذا العنف في أبشع صوره من خلال ممارسات منهجية تُرتكب بحق مدنيين لا علاقة لهم بالقتال، بل كل “جرمهم” أنهم ظلوا في منازلهم، أو عاشوا في مناطق وقعت تحت سيطرة الدعم السريع، أو اضطروا للتعامل معه بحكم الضرورة الاقتصادية والمعيشية.
لكن ما يزيد هذه المأساة فداحة، هو أنها لا تطال الجميع على قدم المساواة. فالملاحقة، والاتهام، والاعتقال، والقتل، والترحيل القسري — لا تُطبَّق على كل من بقي في مكانه أو تفاعل مع القوة المسيطرة. بل يتم ذلك بانتقائية عرقية وجهوية واضحة. إذ ينجو الكثير من المدنيين المنتمين إلى جماعات إثنية أو جغرافية بعينها — من سكان المركز أو المناطق المصنّفة “موثوقة” — من أي شكل من أشكال العقاب، رغم بقاءهم في منازلهم تحت ذات الظروف، بل ورغم ثبوت تعاملهم مع الدعم السريع في حالات موثقة إعلاميًا!
في المقابل، يُصوَّر أبناء الهامش — لا باعتبارهم ناجين أو مضطرين — بل كمتواطئين وجب تصفيتهم، ويُجرَّدون من أي حق في تفسير ما جرى، أو الدفاع عن أنفسهم، أو حتى في البقاء. هذا التناقض لا يُفسَّر إلا عبر آلية عنصرية بنيوية، تُعامِل الهوية الجغرافية والإثنية كمؤشر ولاء، لا كصفة إنسانية.
لقد وثّقت وسائل إعلام محلية ودولية شهادات عديدة لأفراد وجماعات ظلوا في مناطق سيطرة الدعم السريع، ثم خرجوا منها دون أن يُمسّوا بسوء، بل وصُوّر بعضهم في الميديا على أنهم “أبطال وناجون”، رغم أنهم تعاملوا مع نفس الأجهزة والمفارز والواقع القهري الذي تعامل معه المهمشون. الفارق الوحيد هو أنهم ينتمون للجهة “الصحيحة”، أو يتكلمون اللهجة “المقبولة”، أو يحملون ملامح تنتمي إلى الفئة “الموثوقة” في الخيال السياسي السوداني.
هنا تُستبدل المسؤولية الفردية التي تقوم عليها العدالة، بمنطق الإدانة الجماعية الانتقائية، ويُعامل البقاء في “المكان الخطأ” كخيانة، لا كفعل بقاء مشروع، أو حتى كضرورة وجودية. وهو ما يُمثّل خرقًا صارخًا لاتفاقيات جنيف وللمعايير الدولية التي تحمي المدنيين في أوقات النزاع، وتُجرّم العقاب على الهوية أو الموقع الجغرافي.
ما يجري ليس فقط انهيارًا قانونيًا، بل تجريدًا عميقًا للعدالة من بعدها الأخلاقي. تتحوّل الدولة، التي يفترض أن تكون حامية للجميع، إلى كيان انتقائي يقيس المواطنة بالسحنة، ويمنح النجاة بالهوية، ويمارس العقاب الجماعي ضد من لا يشبهونها.
في هذا السياق، يصبح من الضروري إعادة تثبيت ما هو بديهي:
أن البقاء ليس خيانة، وأن العدالة تبدأ من الاعتراف بحق الإنسان في البقاء، لا من معاقبته عليه. فحين تصبح الجغرافيا تهمة، والاضطرار دليل إدانة، واللون سببًا للقتل، يكون الوطن قد خان ذاته، قبل أن يخون مواطنيه- ولترفع الايادي المرتجفة عن أبناء وبنات الهامش، فنحن نعرف ولن ننسي.
أولاً: المدنيون تحت سيطرة الطرف الآخر: بين القانون، السياسة، والضمير الإنساني:
من بين التراجيديات المتكررة في النزاعات الأهلية، أن تتحول الجغرافيا إلى تهمة، والبقاء إلى خيانة، والتعايش الاضطراري إلى دليل إدانة. في السودان، يواجه مئات المدنيين – لا لشيء سوى أنهم ظلّوا في مناطق خضعت لسيطرة الدعم السريع في وقت ما – تعرضوا ويتعرضوا الي القتل خارج القانون، الاعتقال التعسفي، الإذلال، الترحيل القسري بحاويات الموت، والتعذيب، بل والتمثيل بجثثهم في ممارسات تنتهك كل المعايير الإنسانية والدينية والقانونية. يصنّفون “خونة” و”عملاء”، لا لأنهم قاتلوا أو تآمروا، بل لأنهم وجدوا أنفسهم في ما تعتبره السلطة المركزية “أراضي العدو وقت سيطرة “العدو” عليها.”
غير أن هذا المنطق الانتقامي يفتقر إلى الشرعية القانونية ويفضح السقوط الأخلاقي العميق في التعامل مع المدنيين. فوفق القانون الدولي الإنساني، وخاصة اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949، والبروتوكولين الإضافيين لعام 1977، يتمتع المدنيون في مناطق النزاع، حتى تلك الخاضعة لسيطرة “العدو”، بحماية قانونية صارمة:
– تنص المادة 3 المشتركة على أنه يجب معاملة الأشخاص غير المشاركين مباشرة في الأعمال العدائية، معاملة إنسانية دون تمييز، وتحظر “القتل بجميع أشكاله، والتشويه، والمعاملة القاسية، والتعذيب.”
– تؤكد اتفاقية جنيف الرابعة (الخاصة بحماية المدنيين زمن الحرب) أن وجود المدنيين تحت سيطرة “العدو” لا يلغي حمايتهم، بل يعزّز التزام الطرف الآخر باحترام كرامتهم، وعدم الانتقام منهم أو إذلالهم، ويحظر “العقوبات الجماعية” و”التمييز” على أساس العرق أو اللغة أو الإقامة.
– أما المادة 75 من البروتوكول الإضافي الأول، فتكرّس ما يُعرف بـ”الضمانات الأساسية”، وتمنع “إصدار العقوبات دون محاكمة عادلة”، وتحظر “الإهانات والتعذيب والمعاملة القاسية” حتى في حالات الاشتباه بالتعاون مع العدو.
أما من ثبت انتماؤه لقوات الدعم السريع وتم أسره، فينطبق عليه نظام أسرى الحرب وفق اتفاقية جنيف الثالثة، التي تلزم باحترام حياته وسلامته، وتمنع إعدامه دون محاكمة عادلة، أو تعذيبه، أو التمثيل بجسده، أو إهانته. بل تُوجب توفير رعاية صحية، وسكن لائق، وحماية من الانتقام.
المنطق الأخلاقي: حين يُجرَّم البقاء:
إن ما يحدث اليوم هو شيطنة ممنهجة لضرورات البقاء، وخلط فادح بين الخيار الحر والتفاعل القسري مع السلطة الواقعة. آلاف السودانيين في كل المدن بما فيها العاصمة، الخرطوم وجدوا أنفسهم – بفعل الحرب وتبدّل مناطق السيطرة – تحت سلطة الدعم السريع، لا بوصفهم مناصرين، بل كمدنيين عاجزين عن مغادرة منازلهم أو رفض السلطة المفروضة عليهم
تُحوّل هذه الإقامة القسرية إلى وصمة سياسية، وتُحمّل نتائجها على أجساد الأبرياء. وهذا لا يمثل فقط انهيارًا للعدالة، بل نكوصًا عن المبادئ الإنسانية الأساسية
يقول جون راولز في نظرية العدالة:
.”العدالة تُقاس بمدى حماية الأضعف، لا بمعاقبتهم على ما لا يملكون تغييره”
ويحذر ميشيل فوكو من تلك اللحظة التي تصبح فيها السلطة مهووسة بإعادة إنتاج العدو الداخلي، حيث تُنتزع من الإنسان فردانيته، ويُحاسَب لا على أفعاله، بل على “هويته الجغرافية أو الإثنية أو اللغوية”، كما لو كان مجرّد خطر بيولوجي يجب استئصاله.
أمثلة من التاريخ: حين لا يكون البقاء جريمة:
تُبيّن التجربة التاريخية في عدة حالات أن البقاء في مناطق العدو، أو التفاعل مع سلطته، لا يُعد تواطؤًا في حد ذاته:
– فرنسا في ظل الاحتلال النازي (1940–1944):
تعايش ملايين الفرنسيين مع الاحتلال الألماني وحكومة فيشي. ولم يُحاسَب أغلبهم بعد التحرير، إلا من ثبت تواطؤه النشط. فُرّق بوضوح بين الوجود الاضطراري والتواطؤ الإرادي.
– الولايات المتحدة بعد الحرب الأهلية (1861–1865):
لم يُتهم جميع سكان الجنوب بالخيانة، بل أصدر الرئيس أبراهام لنكولن “إعلان العفو العام” الذي أعفى المدنيين الذين خضعوا للكونفدرالية، ما لم يثبت ضلوعهم في جرائم محددة.
– اوربا الشرقية خلال الحرب الباردة:
عاش ملايين المواطنين تحت أنظمة مدعومة من الاتحاد السوفيتي. لم يُعتبر هؤلاء المدنيون عملاء للشيوعية لمجرد إقامتهم في تلك المناطق، ولم تُنتزع منهم شرعيتهم الإنسانية
الضرورة الأخلاقية: من الجغرافيا إلى الكرامة.
المقيمون في مناطق الدعم السريع ليسوا كتلة متجانسة من المتعاونين أو المقاتلين. هم في الغالب ضحايا لأوضاع معقدة: فقراء، نازحون، مقطوعو السبل، أو مواطنون رفضوا المغادرة خوفًا من التهلكة. حتى من اضطروا للتعامل مع قوات الدعم السريع – لتأمين الطعام أو الحماية أو الدواء – لا يُعدّون متواطئين، بل أشخاصًا أجبرتهم الضرورة على التعايش مع الأمر الواقع.
وهنا يُطرح السؤال الأخلاقي الجوهري: هل كان هؤلاء يمتلكون خيارًا؟
أليس من يُجبر على البقاء – كما يُجبر البعض على حمل السلاح – هو في جوهره ضحية لا جلاد؟
أليس ما يتعرض له المهمّشون من إذلال، وقتل، واحتجاز في حاويات الموت، يكرّس تمييزًا عرقيًا–طبقياً ممنهجًا يخالف جوهر المواطنة ويُجرّم الهوية لا الفعل؟
لا عدالة بلا ضمير، ولا قانون بلا إنسان:
إن ما نشهده في السودان ليس فقط انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي، بل فضيحة أخلاقية بحق أمة تدّعي أنها تُقاتل باسم الوطن. العدالة لا تُبنى على الانتقام الجماعي، ولا تُقام على أشلاء الأبرياء. إن قتل الإنسان بسبب لهجته أو مكان إقامته أو اضطراره للتعامل مع الطرف المسيطر، ليس عدلاً، بل نفيًا للعدالة
وكما كتب ألبير كامو في سياق مقاومة الاحتلال:
!”الحرية لا تُنال بقتل الأبرياء، بل بإنقاذهم من القتلة”
الكرامة الإنسانية ليست مشروطة بالولاء، ولا تُلغى بالحدود العسكرية، ولا تسقط عند نقاط السيطرة. ومن لا يُدافع عن إنسانية “العدو المدني”، لن ينجو من وحشية النظام الذي يصنعه بيديه- وللنخب المدنية الصامتة – بلوا رؤوسكم!
ثانيًا: العنصرية المؤسسية كسلاح موازٍ للحرب – تجريم بالجغرافيا والملامح:
في هذه الحرب، لا تُستعمل البنادق وحدها كسلاح قمع، بل تُستدعى أدوات أقدم وأكثر رسوخًا: السحنة، اللهجة، والانتماء الجغرافي. تتحول هذه العلامات إلى قرائن اتهام مضمرة، تُدرَج ضمن العقل الأمني والثقافي كمحددات للولاء، ودلائل محتملة على الانتماء “للمعسكر الخطأ”. من يتحدث بلهجة دارفورية أو كردفانية، أو يحمل ملامح “ليست من هنا”، يُصنّف فورًا على أنه مشروع “دعم سريع”، لا كإنسان كامل المواطنة- ميلاد قوانين ثقافة الوجوه الغريبة!
هذا ليس استثناءً عابرًا، بل يمثل بنية عنصرية مؤسسية متجذّرة، تُعيد إنتاج علاقات القوة والتمييز الطبقي والإثني من خلال ما يسميه بيير بورديو “العنف الرمزي”، حيث تتحول الهوية الموروثة إلى عبء قانوني وأخلاقي على كاهل الفرد، وتُفرَغ الكرامة الإنسانية من مضمونها عبر التحقير المنهجي والاشتباه الوقائي.
توثّق شهادات من مدن مثل ود مدني، القضارف، وكسلا،وغيرهم حملات اعتقال جماعي، وجرائم قتل خارج القانون، وتعذيب قائم على الهوية، حيث يتعرض المعتقلون من المهمشين لإهانات عنصرية مباشرة: “ما سوداني”، “شكلك من دارفور”، “كلكم خونة”، قبل أن يُزجّ بهم في “حاويات الموت” – حيزات اعتقال غير قانونية تتجلى فيها ممارسة الإبادة الرمزية والمادية.
هذه ليست تجاوزات فردية، بل سياسات ممنهجة تتعامل مع السودانيين من غير أبناء المركز كـ”جماعة مشبوهة”، مجردة من قرينة البراءة
(presumption of innocence)
التي تُعدّ حجر الزاوية في أي نظام عدالة نزيه. والنتيجة: يصبح اللون واللسان والمنشأ الجغرافي مبررًا للقتل المسبق، أو على الأقل، للاعتقال والإذلال دون دليل.
ثالثًا: وقود للحرب واستثناء من الحياة – المهمشون بين الاستدعاء القسري والنفي الرمزي:
في مفارقة أخلاقية جارحة، تقوم الدولة السودانية – عبر حكومة بورتسودان – بتجنيد أبناء دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق في الكلية الحربية تحت لافتة “دمج المهمشين في الجيش القومي”، بينما الواقع الفعلي يكشف أن هذا الدمج لا يستهدف التمثيل السياسي أو المساواة المؤسسية، بل إعادة إنتاج منظومة الاستغلال: يُعاد استدعاء أبناء الهامش لا بصفتهم شركاء في الدولة، بل كوقود بشري للقتال في جبهات لا تخصهم، خاصة ضد قوى السودان الجديد التي تنادي بحقوقهم التاريخية.
حين تصبح العدالة انتقائية، تنقلب على نفسها:
في كل هذا، يتضح أن الدولة السودانية ومؤسساتها الأمنية لا تُمارس العدالة، بل تُدير الخوف والولاء والانتقام على أسس إثنية وجغرافية. وحين تكون أدوات التصنيف هي اللغة واللون، لا الفعل والنية، تُصبح العدالة شكلًا آخر من أشكال الحرب
إن إعادة تعريف من هو “المواطن”، ومن هو “الخائن”، وفقًا للهوية لا القانون، هو انتهاك صريح لفكرة الدولة نفسها
وكما قال فرانز فانون:
.”حين يُفرَض عليك القتال باسم من يضطهدك، فإنك لن تُحاسب على حمل السلاح، بل على صمتك السابق”
في السودان، يُحاسب أبناء الهامش على وجودهم ذاته، في حين يُعفى صانعو النظام من أي محاسبة، لأنهم ببساطة يملكون امتياز كتابة السردية:
سرديتان في وطن مختل: من وقود الحرب إلى ورثة الدولة:
في بنية الدولة السودانية الحديثة، وفي القلب الأخلاقي لمخيلة النخبة السياسية والمجتمعية، تتعايش سرديتان متناقضتان تُجسدان اختلالاً جذريًا في تصور الوطنية، وفي توزيع المسؤولية، وفي من يُمنح حق الحزن، ومن يُلقى عليه عبء الخيانة
أولاً: أبناء المناطق المهمشة – سردية الجندية القسرية والموت المجاني:
السردية الأولى هي سردية أبناء المناطق المهمشة، الذين لم يُخْتَبر ولاؤهم السياسي بقدر ما خضعوا لتجنيد بنيوي طويل: خدموا في قوات الدفاع الشعبي، وتحمّلوا عبء الخدمة الإلزامية الوطنية، وحُمّلوا في شاحنات مكشوفة إلى جبهات لا تخصهم، وقاتلوا دفاعًا عن دولة لم تُعرّفهم يومًا كمواطنين، بل كجنود دائمين في معركة غيرهم.
كان عليهم أن يختاروا بين حمل السلاح، أو الجوع، أو التشرد، أو الإقامة في مخيمات النزوح. خرجوا من الحرب بذاكرة ثقيلة، دون رواتب، دون رعاية، دون اعتراف. لم يُمنحوا أوسمة، ولم يُسألوا عن أحوالهم. من لم يمت بالسلاح، مات بالإهمال والهموم والهزيمة، أو عند بوابات المدن التي لا تعرف أسماءهم.
واليوم، يُعاد تدوير هذه المعاناة في شكل عنف جديد: يُتهمون بالانتماء إلى الدعم السريع، أو بالتعاون مع “العدو”، لمجرد أنهم ظلوا في مناطق في هامش المدن، يسمونها بالاحزمة السوداء، واتفق وان خضعت لسيطرة قوة المسلحة التي قاتلت الجيش النظامي، أو تحدثوا بلهجة غير مركزية، أو سكنوا أحياء تُعرّف في وعي الدولة كأماكن “غير موثوقة”. يُعتقلون، يُعدَمون ميدانيًا، وتُلقى جثثهم في الشوارع او النهر، ويُشار إليهم كخونة بالفطرة.
ثانيًا: أبناء النخب النيلية – سردية الامتياز البنيوي والنجاة الأخلاقية:
في الجهة المقابلة، تبرز سردية أبناء النخب النيلية، الذين ظل أغلبهم معفيين من الخدمة القتالية في الخطوط الأمامية كجنود، وتم توزيعهم في المواقع الإدارية واللوجستية، أو أُدمجوا في هياكل القيادة والتخطيط كضباط، بعيدًا عن ساحة المواجهة المباشرة. القتال، إن حدث، كان من خلف المكاتب، لا في المتاريس، والعودة من “الخدمة الوطنية” كانت عودة إلى المكاتب الحكومية، وامتيازات التصاديق والاعمال التجارية المجزية لا إلى معسكرات النزوح أو البطالة والاعمال الهامشية.
المؤسسة العسكرية نفسها، عبر الكلية الحربية وشبكات التوظيف، بَنَت هذه السردية: ضباط برتب عليا معظمهم من أبناء المركز، يواصلون إعادة إنتاج الطبقة السياسية والعسكرية نفسها، جيلًا بعد جيل. لم يتم مساءلتهم يومًا عن مشاركتهم في هندسة الحروب، ولا عن صمتهم الطويل، ولا عن تورطهم في إدارة آلة القمع. بل إن بعضهم – بعد الثورة – ظهروا بوصفهم “الضباط الشرفاء”، و”المنقذين من داخل النظام”، دون أي خضوع لاختبار أخلاقي حقيقي.
هؤلاء لا يُصنَّفون “مشبوهين”، ولا تُقطع رؤوسهم مجازيًا أو فعليًا، ولا تُنتهك كراماتهم في نقاط التفتيش. لا يُسألون عن سلوكهم الماضي، بل يُمنحون دومًا فرصة النجاة الأخلاقية مسبقًا، وتُبنى عليهم رواية “المشروع الوطني”، في الوقت الذي يُحمَّل فيه أبناء الهامش كامل العبء الرمزي والسياسي عن فشل الدولة، وانهيار النظام، وتفكك المجتمع- معيار مزدوج، ووطنية مشروطة. هنا يظهر التناقض الأخلاقي والسياسي بأوضح صوره: من خدم في مؤسسة الدولة الاستبدادية من أبناء المركز يُغفر له، بل يُكافأ، أما من خدم قسرًا أو اضطرارًا في مؤسسة مسلحة لاحقة، فيُعاقَب ويُجرَّم ويُقتل. يُعامل الأول كابن للدولة حتى إن خانها، والثاني كعدو حتى إن خدمها!
هذه ليست روايتين عن التاريخ، بل نظامان متوازيان للنجاة والعقاب. نظام يسمح لامتيازات معينة أن تتوارث الولاء والأوسمة، ونظام يُحمِّل الفقراء والمهمشين وزر الحرب والسلام والانهيار، ثم يُترك لهم المقابر دون شواهد
كما يقول رايموند غويث، في تفكيكه لعدالة ما بعد الحرب:
.”العدالة التي لا تُخضع المنتصر لاختبار أخلاقي، هي مجرد فرع من فروع العقاب الانتقائي”
وفي السودان، لم يُسأل المنتصر يومًا، لأنه لم يكن من الهامش!
رابعًا: الإكراه البنيوي وخدمة أبناء الهامش في الجيوش القسرية – مقارنة تاريخية:
في تحليل العدالة ما بعد النزاع، لا يكفي الاكتفاء بتوصيف الأفعال، بل يجب تفكيك شروط الفعل، والسياقات القهرية التي يُتَّخذ فيها القرار. وهنا، يُعدّ مفهوم الإكراه البنيوي إطارًا أساسيًا لفهم انخراط أبناء الهامش في أجهزة الدولة السودانية — لا سيما الجيش — عبر أجيال من الاستبعاد، والتفقير، وانعدام البدائل.
فأبناء المناطق المهمشة لم ينخرطوا في القوات النظامية حبًا في الأنظمة أو انتماءً أيديولوجيًا، بل لأن الدولة السودانية حرمتهم من الخيارات المدنية والاقتصادية والتعليمية، فدُفِعوا دفعًا إلى الانخراط في الجيش أو المليشيات التابعة له، كمصدر وحيد للدخل أو للبقاء. لقد كانت الخدمة العسكرية هي المسار الوحيد الممكن أمام الآلاف من الشباب الذين سدت الدولة في وجوههم كل أبواب الترقّي السلمي أو العمل المدني الكريم.
هذا النمط من “الالتحاق القسري” لا يختلف جوهريًا عن تجارب أخرى عرفها التاريخ الحديث. ففي الجزائر إبان الاستعمار الفرنسي، خدم عشرات الآلاف من الجزائريين في الجيش الفرنسي، تحت ظروف استعمارية قهرية جعلت الرفض مساويًا للموت أو النفي. وفي الهند، قاتل مئات الآلاف من الجنود الهنود ضمن صفوف الجيش البريطاني، لا لأنهم تبنوا المشروع الإمبراطوري، بل لأنهم وقعوا أسرى بنية اقتصادية واجتماعية تحرمهم من الخيارات الأخرى.
لم يُحاسَب هؤلاء بعد استقلال بلدانهم، بل تم الاعتراف، في أدبيات العدالة الانتقالية، أنهم كانوا خاضعين لـ إكراهات بنيوية — بمعنى أنهم لم يختاروا موقعهم بحرية، بل تكوّن هذا الموقع في ظل سلطة قاهرة وهيكل طبقي عنصري جعل من الاندماج في الجيش، أو المليشيات، ملاذًا اضطراريًا، لا فعلًا إراديًا.
وعليه، فإن معاملة أبناء الهامش في السودان — سواء من خدموا سابقًا في الجيش، أو من اضطروا للتعامل مع قوى مسلحة لاحقة — بمنطق العقاب أو الاشتباه أو التشكيك في الانتماء الوطني، هو تحريف أخلاقي للتاريخ، وانحراف قانوني عن مفهوم المسؤولية الفردية- وجهل فادح.
وكما يؤكد المنظّر القانوني مايكل والزر في حديثه عن “الأفعال في زمن الضرورة”:
.”لا تُقاس أخلاقية الفعل فقط بما فُعل، بل أيضًا بما كان ممكنًا للفرد أن يفعله في ظل الظرف القهري”
من هذا المنظور، يصبح من الجائر – سياسيًا وأخلاقيًا – أن يُحاسب أبناء الهامش بناء على خيارات لم تكن متاحة لهم أصلًا. فالخدمة في الجيش السوداني، أو في أذرعه القمعية بما فيها الدعم السريع، لم تكن ناتجة عن امتياز، بل عن حرمان. ولم تكن تعبيرًا عن ولاء، بل عن غياب البدائل، وعمق التهميش، واستمرار بنية الدولة كأداة لتكريس التبعية الطبقية والعرقية- ولهذا الحديث بقية في مقالات اخري.
خامسًا: أخلاق المقاومة لا تتأسس على الانتقام:
حتى في حروب التحرر الوطني، كانت العدالة الثورية تُميّز بين العدو الحقيقي، وبين المضلَّلين أو المقهورين. وكما قال نيلسون مانديلا:
.”الحرية لا تعني فقط تحرر المظلوم، بل تحرر الظالم من الحاجة إلى الظلم”
الذين يُقتلون اليوم في السودان لأنهم “كانوا هناك”، لأنهم “بشر بملامح غير مألوفة”، لأنهم “سكتوا على الدعم السريع”، يُعاقبون لا على أفعالهم، بل على وجودهم العرقي أو الجغرافي — وهذه هي جريمة أخلاقية قبل أن تكون جريمة قانونية.
اخيرا: من أجل عدالة لا تُبنى على رماد التمييز
إن أي مشروع وطني لا يبدأ من مراجعة أدوات العنف والتمييز البنيوي، محكوم عليه بأن يعيد إنتاج نفس الهياكل التي تسعى المجتمعات للتحرر منها. وفي الحالة السودانية، فإن الاستمرار في معاقبة المهمشين بناءً على مواقعهم الجغرافية، ولهجاتهم، وألوانهم، أو اضطرارهم للتعايش مع سلطة أمر واقع، لا يمثل فقط انحرافًا عن مسار العدالة، بل يكشف أن الوعي السياسي نفسه ما يزال محاصرًا بمنطق الدولة القهرية القديمة، وإن لبس ثيابًا جديدة.
لا يجوز قانونًا، ولا أخلاقيًا، ولا سياسيًا، أن يُعاقب الناس على ما لم يختاروه. فالتواجد في مناطق سيطرة طرف مسلح لا يُعدّ مشاركة في جرائمه، كما أن التعاون بحكم الضرورة لا يُقارن بالانخراط الإرادي في منظومات القمع. القانون الدولي الإنساني واضح في هذا السياق: الحماية لا تسقط عن الإنسان بسبب الجغرافيا، والمساءلة لا تكون على الهوية بل على الفعل المحدد والمثبت قانونيًا.
أما أخلاقيًا، فإن أي سردية وطنية تبرر القتل، والتعذيب، والإذلال، على أساس من اللهجة أو السحنة، لا تختلف في جوهرها عن خطاب الأنظمة العنصرية عبر التاريخ. إنها عنصرية مؤسسية ترتدي عباءة الوطنية، وتحوّل الضحية إلى متهم، والمهمش إلى خائن، وكل ذلك لتبرير فشل بنية الدولة في تحقيق المساواة والاعتراف المتكافئ بالجميع كمواطنين كاملي الكرامة.
لقد أشار المفكر الإيطالي أمبرتو إيكو بدقة إلى هذا النمط من الخطاب، حين قال:
.”العدو هو من نحتاجه لنبرر فشلنا، وحين نقتله، لا ننتصر، بل نفقد مرآتنا الأخيرة”
فالعدالة لا تُقاس بكمية الدم الذي يُراق، بل بقدرتنا على رؤية وجه الإنسان الآخر في مرآة القانون والأخلاق. والعدالة التي تنبني على الانتقام، أو على فرز الناس وفق الجغرافيا، هي عدالة مسمومة تفقد مشروعيتها، ولو تغنّت بشعارات الثورة.
أما فرانز فانون، فكان أكثر حدة حين حذّر من استدعاء أبناء الهوامش للدفاع عن دول لا تعترف بهم، قائلاً:
“لا شيء في تاريخ الشعوب أكثر تدميرًا من أن يُستدعى أبناء الهوامش للقتال من أجل دولة لا تعترف بوجودهم إلا حين يحتاج جسدهم للموت”.
إن الاختبار الحقيقي لبناء السودان الجديد – “سودان مابعد الحرب” لا يكمن في مَن يُرفَع صوته في ساحات الخطابة، بل في من يجرؤ على مساءلة البنية، وتفكيك الامتياز، ورفض المنطق الانتقائي للعدالة.
ولذلك، فإن الهامش ليس مخزونًا بشريًا للطوارئ، بل هو صاحب حق تاريخي ومجتمعي وأخلاقي. والاعتراف بهذا الحق ليس منّة، بل هو نقطة البدء الحقيقية لبناء دولة متصالحة مع ذاتها، تعيد تعريف “الوطنية” لا بوصفها امتيازًا وراثيًا، بل كعقد إنساني مشترك، تُبنى فيه العدالة على ركام التهميش، لا فوقه.
النضال مستمر والنصر اكيد.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.